إنه عبد الرحمن اليوسفي الزعيم الاتحادي والوزير الأول الأسبق الذي فارق الحياة، صباح اليوم الجمعة، بالدار البيضاء، عن عمر يناهز 96 سنة، بعدما تم نقله إلى المستشفى جراء تدهور وضعه الصحي.
اليوسفي الذي رصع وجوده بمواقفه الرافضة للاستعمار والظلم والتسلط، وهو لا زال في سن لم يتجاوز ال14 عاما، حيث عبر عن موقف رافض للاستعمار. حصل على الشهادة الابتدائية أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي، وعلى الرغم من أنه لم يتمكن وقتها من الإفصاح عن هذا الموقف، إلا أنه دفعه إلى طرح الكثير من الأسئلة، كانت بداية بزوغ رجل سياسة وزعيم وطني من طينة الكبار.
الموقف ذاته، سيدفع اليوسفي المزداد بطنجة سنة 1924، إلى المساهمة في تنظيم أول إضراب بالثانوية حيث كان يدرس بمراكش، بعد أن نسج في فترة وجيزة علاقة صداقة مع العديد من زملائه، وعن هذا الإضراب يقول اليوسفي إنه لم يكن سياسيا. وكان احتجاجا على قرار ظالم صادر عن المراقب العام الذي أراد أن يعاقب كافة التلاميذ لأن أحدهم بصق على قطعة الخبز. وقد رفضنا محتجين ضد هذه العقوبة، مؤكدين أنه لن يتجرأ أي مغربي على أن يبصق على قطعة من الخبز.
حس نقدي ميز شخصية اليوسفي، الذي اعتاد على مطالعة الجرائد والمجلات بلغات عديدة، من الصغر وهو مازال يدرس بالسلك الابتدائي، لتصبح غرفته مستودعا للعديد من الصحف والمنشورات بالإسبانية، الإنجليزية، الفرنسية، والإيطالية.
مواقفه وحسه الوطني أثار إعجاب رجل الحركة الوطنية المهدي بن بركة، حيث كان في 1943 من ضمن الشباب الذين استدعاهم المهدي إلى بيت والدته الموجود بحي الكزا بالعاصمة الرباط، ليعرض عليهم أفكاره وخططه السياسية. وفي اللقاء أعجبا ببعضهما البعض.
و يقول اليوسفي عن بن بركة إن ما أثارنا في الرجل هذا الحس التنظيمي والديناميكية وقدرته على الحوار وطرح الأسئلة، مما يجعلك تنبهر أمام هذه الطاقة العالية والفكر المتنور، وعندما يشعر أنه استطاع أن يؤثر على مخاطبيه يستقطبهم في مرحلة موالية إلى الدخول نهائيا في صف العمل السياسي الوطني.
في دجنبر سنة 1943 استطاع بن بركة أن يقنع الطالب عبد الرحمان اليوسفي وعدد من رفاقه بثانوية مولاي يوسف بالرباط بالانخراط رسميا في حزب الاستقلال، حيث أدوا القسم على الوفاء للدين والوطن والملك وعلى الاحتفاظ بأسرار الحزب وعدم الكشف عن تنظيماته، وبعد ذلك بشهر تم تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال في 11 يناير 1944.
وقد ساهم اليوسفي ورفاقه في توزيع وثيقة الاستقلال، داخل أسوار ثانوية مولاي يوسف بالرباط، كانت سببا مباشرا لاعتقال قيادة حزب الاستقلال من قبل سلطات الحماية الفرنسية، فخرجت ساكنة الرباط في مظاهرات حاشدة بساحة المشور أمام القصر الملكي، كرد فعل على سلوك الاستعمار.
هذا الموقف سيدفع اليوسفي ورفاقه إلى الانضمام إلى المظاهرة، في تحد لقرار المراقب العام للثانوية القاضي بمنع التلاميذ الداخليين من مغادرة الثانوية والانضمام للمتظاهرين، ” أمام إصرار، حاول منعنا بالوقوف أمام الباب فاتحا ذراعيه للحيلولة دون خروجنا. لكن عزميتنا كانت أقوى، وحدث ما لم يكن في الحسبان، إذ نتج عن تلك المواجهة كسر في ذراع السيد المدير دون قصد أو تعمد”. وضريبة هذا الموقف لم تتأخر، إذ بمجرد انتهاء المظاهرة وجد التلاميذ، الذين جاؤوا للالتحاق بالداخلية، أبواب الثانوية موصدة أمامهم، مما وضعهم في موقف جد حرج لا يحسدون عليه.
مواقف اليوسفي بعد المرحلة الثانوية لم تتغير كثيرا، خصوصا الموقف من الاستعمار، الذي ازداد جرأة ونضجا، حيث انخرط في عمل حزب الاستقلال الحثيث لتفتيت صخرة الاستعمار، هكذا أشرف الرجل على أنشطة الخلايا الحزبية التي تتكون من عمال معمل السكر “كوزيمار” بالدار البيضاء، حيث كان العمال يقيمون مع عائلاتهم في بيوت شيدت خصيصا لهم بداخل سور المعمل.
إشراف اليوسفي على العمال بالعمل لم يكن سهلا، خصوصا أنه لا تربطه أي علاقة بالمعمل، لذلك تقدم وفد من العمال، بطلب لمدير المعمل، للبحث عن أستاذ يساعدهم على محاربة الأمية، ولم يكن هذا الأستاذ سوى عبد الرحمان اليوسفي، الذي تمكن من تأطير العمال وتأسيس تعاونية بكوزيمار مازالت قائمة إلى اليوم.
موقف اليوسفي لم يمنعه من تلقي الضرائب، من بينها ما حدث سنة 1949 بعدما انتقل إلى فرنسا لمتابعة دراسته، وهناك التقى لأول مرة عبد الرحيم بوعبيد الذي يشكل آنذاك مع المهدي بن بركة الجيل الجديد من قياديي حزب الاستقلال. وهناك في باريس سيؤدي اليوسفي ضريبة لمواقفه، حيث اعتقل من قبل الشرطة قبل أن يخلى سبيله ويبعد عن باريس.
يحكي اليوسفي في مذكراته ” كان العمل الذي قمت به داخل كواليس الجمعية العامة للأمم المتحدة تحت حماية الجامعة العربية ورعاية رئيسها السيد عبد الرحمان عزام باشا، عملا لم تنظر إليه السلطات الفرنسية بعين الرضا. وعندما كنت ذات يوم أتمشى في شارع غير بعيد عن جامعة السوربون، فإذا بشرطية تقف أمامي وتصرخ بأعلى صوتها: (هذا هو اليوسفي)، وما هي إلا لحظة حتى كنت مطوقا بفرقة من رجال الشرطة، وقادوني إلى أحد المراكز”.
اليوسفي برزت شخصيته أيضا في الحقل الصحفي، حيث كان في دجنبر 1959، رئيسا لتحرير جريدة التحرير، لسان حال حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي ساهم في تأسيسه، ونشرت آنذاك افتتاحية بـالتحريروردت فيها عبارة مفادها أنه إذا كانت الحكومة مسؤولة أمام جلالة الملك فإنها أيضا مسؤولة أمام الرأي العام، هي الجملة التي اعتقل بسببها مدير الجريدة الفقيه محمد البصري رفقة اليوسفي الذي أطلق سراحه بعد 15 يوما إثر دخوله في إضراب عن الطعام تسبب في تدهور حالته الصحية.
هذه الشخصية الرافضة للظلم والإهانة بدأت مبكرا. قال اليوسفي في مذكراته عن رحلته من طنجة إلى مراكش من أجل متابعة دراسته الثانوية قائلا: “كان علي اجتياز العديد من العراقيل الإدارية، كالحصول على جواز السفر وطلب التأشيرة من القنصلية العامة الإسبانية في طنجة، حتى يتسنى لي مغادرة طنجة ثم عبور المنطقة الشمالية الخاضعة للنفوذ الإسباني. ثم الحصول على تأشيرة ثانية من القنصلية العامة الفرنسية وفي يوم السفر”.
ويضيف اليوسفي “كان علي أن أقف على الأقل أمام أربعة شبابيك في نقاط المراقبة، لختم جواز سفري من طرف السلطات الأمنية، وأن أفتح حقائبي أربع مرات أخرى للتفتيش من طرف المراقبة الجمركية. ورغم صغر سني، كان ينتابني شعور بالإهانة وأنا أخضع للمراقبة والتفتيش بصفة متكررة، من طرف أجانب وبطريقة سلطوية، مما دفعني لطرح العديد من الأسئلة على نفسي، حول المضايقات التي كانت تواجهني، فقط من أجل التنقل لغرض إتمام دراستي الثانوية في بلدي ووطني المغرب”.
تعليقات الزوار ( 0 )