كان الإنسان المغربي على مدى عقود طويلة، حين يرى الشوارع وأحياء المدن والقرى المغربية فارغة من سكانها يخمن أن هناك حدثا من اثنين؛ إما أن المنتخب الوطني يلعب مباراة في كرة القدم، أو أن هناك مسرحية معروضة في التلفزيون المغربي لعبد الرحيم التونسي الشهير بعبد الرؤوف.
تقول الفنانة الكوميدية المغربية حنان الفاضلي في كلمة ألقتها خلال تكريم الفنان الكوميدي عبد الرحيم التونسي بمهرجان مراكش للسينما عام 2016، مضيفة أن الفارق يكمن في كون أعصاب المغاربة كانت تتوتر مع مباريات المنتخب، فيكونون على موعد مع فوز أو هزيمة أو تعادل، بينما يبقى الربح مضمونا مع عبد الرؤوف، لأن الفرجة تكون مضمونة والربح مضمونا.
لكن الشوارع في هذا الاثنين الأول من عام 2023، امتلأت في الطريق المؤدية نحو مقبرة الشهداء بمدينة الدار البيضاء، لأن المغاربة كانوا يشيعون فنانهم الشعبي -الذي أمتعهم وأضحكهم لما يزيد عن نصف قرن- إلى مثواه الأخير، مودعا حياة عاش فيها كل التناقضات، فقد أصابه اليتم طفلا صغيرا، وذاق عذاب السجن والتنكيل على يد المستعمر الفرنسي، وخرج متنكرا في ثوب كوميدي، متجنبا نيران الاضطرابات الأولى لفترة الاستقلال.
لجأ عبد الرحيم التونسي في بداية حياته إلى سكن وظيفي توفره مهمة حراسة وتدبير مقبرة، فكان يودّع الموتى بين الحين والآخر ليرافق أصدقاءه الممثلين في عرض مسرحي كوميدي هنا أو هناك.
هكذا مضت 86 عاما الفاصلة بين يوم الأحد 27 دجنبر 1936 ويوم الاثنين 2 يناير 2023 حافلة بالتناقضات، وهي الفترة التي قضاها فوق البسيطة “تشارلي تشابلن” المغرب وكوميدي الفقراء والبسطاء عبد الرحيم التونسي.
فكاهي القرن العشرين.. ناطق ساخر باسم الفقراء والمظلومين
منحته مؤسسة “ليالي الفكاهة العربية” بمدينة أونفيرس البلجيكية، لقبَ أفضل فكاهي مغربي في القرن العشرين، ويعتبر من أكثر الفنانين المغاربة -إن لم يكن أكثرهم على الإطلاق- تجوالا بين الأقاليم والمدن والقرى، حاملا عروضه الفنية البسيطة والموجهة للبسطاء.
بلباسه الفريد وطاقيته المميزة وإيحاءات وجهه المضحكة ونبرة صوته الخاصة، طبع عبد الرحيم التونسي ذاكرة المغاربة طيلة أجيال ما بعد الاستقلال، وقدّم أعمالا تلفزيونية من أبرزها “امتا يجي المدير” و”العاطي الله” و”مراتي لعزيزة” و”ضيافة النبي” و”العيادة” و”كسال فالحمام” و”ضلعة عوجة”، إضافة إلى مشاركته في عملين سينمائيين هما فيلم “ماجد” (2011)، و”عمي” (2016).
وقد وصفته الكوميدية حنان الفاضلي في لحظة تكريمه الأخير، بأنه كان الناطق الرسمي الساخر باسم الفقراء والمظلومين والبسطاء، فقد كان ينقل عبر شخصية عبد الرؤوف ما لم يكن يستطيع المواطن البسيط التعبير عنه، خاصة في الثلث الأخير من القرن العشرين.
ورغم وفائه لشخصية عبد الرؤوف الطريفة، فإن عبد الرحيم التونسي تمكن من تفادي السقوط في النمطية، “كما أن مواضيعه كانت جريئة وعميقة، لعب فيها على الجميع دور الساذج والمهرج، الذي لا يفهم شيئا، غير أنه كان يمرر في الواقع رسائل ومواقف تفضح آفات عدة تنخر المجتمع المغربي، كالرشوة والاستغلال والاحتيال والزبونية وغيرها”.
رحلة من الكتاب إلى المدرسة إلى الميكانيكا.. نشأة الفتى اليتيم
عاش عبد الرحيم التونسي حياة شقية قاسية، ولم يعرفه الناس إلا باسما. وقد ولد فجر يوم الخميس 27 ديسمبر/كانون الأول 1936، في بيت أب تونسي جاء إلى المغرب في إطار القيام بالخدمة المدنية لحساب السلطات الفرنسية، وعمل مترجما من وإلى اللغة الفرنسية، بدل الخضوع للخدمة العسكرية في تونس، وبعدما أنهى مهمته في المغرب اختار الاستقرار النهائي في مدينة الدار البيضاء، ثم ارتبط بميلودة والدة عبد الرحيم.
لقّبت عائلة عبد الرحيم بالتونسي للدلالة على أصل والده، بينما توفيت والدته وهو لم يتجاوز بعد ربيعه السادس، وذلك خلال عملية وضع المولودة الخامسة التي فارقت الحياة أيضا، لكن سوء معاملة زوجة الأب له اضطرت والده إلى تطليقها، ليدخل الفتى عبد الرحيم في رحلة البحث عن حضن يحتضنه، فكانت الوجهة بيت الجدة ثم الخالة التي كانت متزوجة من جزائري مقيم في المغرب.
لم تكن خالة عبد الرحيم التونسي تستطيع تسجيل ابن أختها في المدرسة الحديثة، بينما كان زوجها منشغلا بظروف الحياة، فتأخر التحاق الطفل عبد الرحيم بصفوف المدرسة إلى أن بلغ العاشرة، حين اضطر والده إلى سحبه من بيت الخالة التي كانت تكتفي بالكُتّاب التقليدي كوجهة تعليمية له، فكان مستقره فوق أحد مقاعد مدرسة تحمل اسم “أعيان المدينة”، لكنه لم يطل المكوث فيها، وسرعان ما غادرها باحثا عن تعلم حرفة يدوية، فلم يستطع الصبر على النمط القاسي لتعليم حرفة ميكانيك الدراجات، رغم المحاولة.
معارك الاستقلال.. نكبات السجن تفتح الباب على المسرح
في سياق الروح الوطنية التي كانت تخيّم على أحياء مدينة الدار البيضاء بداية الخمسينيات، انخرط عبد الرحيم التونسي في صفوف النشاط الوطني المقاوم للوجود الاستعماري، فأدى به ذلك إلى الاعتقال أثناء مشاركته في الاحتجاجات الشعبية التي لم تتوقف عقب إقدام السلطات الفرنسية على نفي السلطان محمد الخامس صيف العام 1953.
قضى عبد الرحيم شهرين كاملين موزعين بين تعذيب وتنكيل في قبو مفوضية الشرطة، قبل أن ينقل إلى السجن المدني للمدينة، وهو ما أورثه كدمة في الرأس وربوا مزمنا، بينما كانت خالته وزوجة أخيه تتناوبان على إمداده بالغذاء أثناء الزيارات، ولم ينتهِ هذا الكابوس إلا عقب رضوخ السلطات الاستعمارية لمطلب عودة السلطان محمد الخامس وشروعها في إطلاق سراح المعتقلين.
كان لقاء عبد الرحيم التونسي الأول بفن التمثيل داخل السجن، فخلال فترة اعتقاله صادف مجموعة من المعتقلين الذين كانوا يمارسون المسرح بمضامين وطنية مناهضة للاستعمار، فانخرط معهم في لحظات التسلية التي كانوا يحاولون من خلالها كسر رتابة وقسوة الحرمان من الحرية.
آخر ما كان يتخيله عبد الرحيم التونسي هو أن يقف فوق خشبة ويواجه الجمهور، وحتى عندما أرغمه أصدقاؤه في السجن على مشاركتهم تسليتهم المسرحية، فإنه اشترط تمكينه من جلباب مغربي كي يغطي رأسه ووجهه بالكامل أثناء تقديم دوره، وأن يتجنب بالتالي النظر إلى المتفرجين.
ورغم ممانعته في البداية بسبب خجله وقلة جرأته، فقد قبل في النهاية تقمص دور البدوي في المشاهد المسرحية التي كان زملاؤه في السجن يتدربون عليها، فكانت تلك بداية قصته مع التمثيل العفوي.
خشبة المسرح.. ملاذ الهاربين من الاضطرابات السياسية
فوجئ عبد الرحيم التونسي بعد مغادرته السجن بأجواء اضطراب خيّمت على محيطه، وسببها الصراع بين بعض الأطراف السياسية حول تسلّم زمام الأمور في المغرب، وكان مما أثار فزعه مشهد إحراق ثلاثة أشخاص لأسباب انتقامية، وهو المشهد الذي حضره شخصيا في سياق هذا الصراع الداخلي، إلى جانب استقبال بيت خالته -الذي لجأ إليه بعد مغادرة السجن- أشخاصا يبحثون عنه لسبب غامض، فكان الخيار الوحيد أمامه لتجنب الآثار الوخيمة لتلك الاضطرابات، هو الهرب مع رفاق السجن، والابتعاد عن أجواء الاضطراب تلك، والانشغال بالتمثيل والعروض المسرحية.
انتقل عبد الرحيم التونسي ورفاقه إلى مدينة المحمدية المجاورة، وهناك بادروا إلى إطلاق مشروعهم المسرحي الذي انطلق بين أسوار السجن، فكانت المهمة الأولى هي العثور على فضاءات قابلة لتكون فضاء مسرحيا يجمع بين خشبة وساحة للجمهور، فكانت المسارح في البداية أماكن في غاية البساطة، كتلك البناية التي كانت تستخدم حظيرة للبهائم، فنظفت وهيئت لتصبح قاعة للعرض المسرحي، وقدّمت فيها فرقة السجناء السابقين أولى عروضها الفنية.
طلب الرزق.. وظائف متقلبة بين المصانع والمقابر
كفّ عبد الرحيم التونسي عن ممارسة المسرح بشكل منتظم طيلة عقد الستينيات تقريبا، وكانت عودته إلى شغفه الفني هذا بالصدفة، حين حاول المزاوجة بين وظيفته الدائمة والمشاركة في عروض مسرحية.
ولم تكن عائداتُ النشاط المسرحي في بدايات مرحلة استقلال المغرب كفيلةً بوضع أسس حياة شاب في مقتبل العمر، فانصرف للبحث عن مصدر رزق متنقلا بين وظائف متنوعة، والتحق بداية الستينيات بشركة متخصصة في صناعة السيارات، فشغل وظيفة مراقب لجودة الصباغة التي تخضع لها هياكل العربات المصنعة. وأثناء قيامه بمراقبة جودة صباغة إحدى السيارات مستعينا برافعة حملت العربة عاليا، سقطت تلك العربة فوق جسم عبد الرحيم التونسي مسببة له كسرا في عموده الفقري، مما أقعده ومنعه من الحركة عاما كاملا.
كان عبد الرحيم التونسي كلما ترك وظيفة عاد ليجد أخرى عبر ملحق كانت تنشره إحدى الصحف وقتها، إلى أن استقر به المقام محافظا لمقبرة المدينة يتولى تنظيمها وترقيم قبورها والإشراف على حسن تدبيرها، كما كانت تلك الوظيفة سبيله للحصول على سكن استقر فيه مع زوجته الأولى.
كما كانت هذه الوظيفة تجعله في وضعية رفاهية مقارنة بأصدقائه الممثلين، إذ كان له راتب وبيت وسيارة بسيطة، وهو ما كان يحمله على الانضمام إليهم بين الفينة والأخرى للمشاركة في عروضهم المسرحية، من باب الدعم والمساندة.
“عبد الرؤوف”.. شخصية مسرحية تحيي ذكرى صديق ساذج
في إحدى هذه المرات، انتقل عبد الرحيم التونسي رفقة أصدقائه بسيارته الخاصة نحو مدينة الجديدة، للمشاركة في عرض مسرحي، ولم يكن يعلم أنه سيعود من تلك الرحلة رفقة شخصية “عبد الرؤوف” التي سترافقه بقية حياته الفنية والبيولوجية.
كان الممثل الشاب يلعب دور رجل مسنّ، ولن يبدأ في لعب دور “عبد الرؤوف” البدوي الساذج المثير للضحك إلا صدفة، حين انتهى أحد العروض المسرحية، وحمل معه اللباس الذي كان يرتديه ممثل آخر يلعب دور الخادم، على سبيل الاحتفاظ به في سيارته إلى حين، فخطرت له مرة فكرة ارتداء تلك الملابس والوقوف أمام المرآة ومحاولة تشخيص دور الخادم، مستعينا في ذلك بذكرى زميل دراسة سابق كان صاحب شخصية ساذجة توقعه في العقاب بشكل دائم لسخافة أفعاله، فجاءه الإلهام المركب لتلك الشخصية البدوية التي تجمع بين السذاجة والذكاء ونبرة الصوت المضحكة.
تطوّر النشاط المسرحي لعبد الرحيم التونسي ورفاقه تدريجيا، بفضل شخصية “عبد الرؤوف” التي كانت تلقى نجاحا كبيرا. وابتداء من بداية السبعينيات، أصبح حريصا على القيام بجولات مسرحية نحو مختلف أنحاء المغرب موازاة مع عمله في إحدى الشركات، قبل أن يضطره ضغط زملائه إلى مغادرة عمله واحتراف المسرح كمصدر وحيد للدخل.
محمد بلقاس.. صدفة تبني جسر الانتقال إلى الشاشة الصغيرة
خلال فترة عرض شخصية “عبد الرؤوف” كان الفنان المسرحي الشهير الراحل محمد بلقاس، قد انتقل للاستقرار في مدينة الدار البيضاء، وصادف وجوده في المدينة عرضا قدمه “عبد الرؤوف” ورفاقه في المسرح البلدي، فأعجب بهم وسارع إلى تقديم دعمه ومساندته لهم بتمكينهم من عرض أعمالهم عبر التلفزيون المغربي، فكانت تلك بداية الشهرة والانطلاقة الكبرى.
انطلق “عبد الرؤوف” يجوب الآفاق، وكان فنه الشعبي البدوي البسيط يحظى بشبه إجماع، رغم الظروف السياسية التي كانت شديدة الحساسية وقتها للمحتوى الثقافي والفني، فاستطاع عبدُ الرحيم ببساطته الجمعَ بين الشعبية الكبيرة وترحيب السلطات التي لم تكن تتردد في احتضان فرقته ومساعدتها في تقديم عروضها حيثما حلّت، فكان أن قدّم “عبد الرؤوف” خلال سنة 1971 وحدها ما يقارب 167 عرضا مسرحيا.
وبعدما تمكن من اقتحام عالم الشاشة الصغيرة، بفضل دعم ومساندة فنانين مشهورين وقتها مثل محمد بلقاس، أصبحت شخصية “عبد الرؤوف” تطل على المغاربة بانتظام، وكان عبد الرحيم التونسي يحرص على هذا الحضور وإن كان المقابل زهيدا لا يتجاوز 15 دولارا للحلقة أو حتى مجانا.
“من المفروض علي إدخال السرور على المواطنين”
هو “أحد رواد الفن المسرحي الكوميدي الهادف بالمغرب، والمشهود له بالأصالة والإبداع” بحسب تعبير رسالة التعزية الملكية التي توصلت بها أسرة عبد الرحيم التونسي، والتي توقف فيها الملك محمد السادس عند خصال الفنان الراحل، من “دماثة الخلق، وروح إبداعية مرحة برع في تجسيدها في شخصيته التلقائية “عبد الرؤوف”، والتي بصم بها على مسار فني متألق، واستطاع من خلالها أن يشد إليه جمهورا عريضا من محبي وعشاق أسلوبه الفكاهي الراقي والمتميز لعقود”.
وكان التونسي يعتبر عمله الفني الكوميدي بمثابة الواجب الوطني، “كما هو مفروض على العامل (محافظ المدينة) إصلاح البلاد، ومفروض على رئيس المجلس البلدي خدمة البلاد، أعتبر أن من المفروض علي أيضا إدخال بعض السرور على المواطنين، وذلك بفضل من الله”.
حظي عميد الفكاهيين المغاربة بتكريم من قبل مهرجان مراكش السينمائي الدولي في دورته الـ16 بعد سنوات من الانتظار، للاعتراف بعطائه الكبير في مجال الكوميديا. وقد حظي باستقبال أسطوري بساحة جامع الفنا في لقاء مباشر مع جمهور المدينة الحمراء قبل عرض فيلمه “ماجد”.
“الفنان لا يفرح إلا بعد أن يضحك الجمهور”
لم يكن عبد الرحيم التونسي طيلة العقدين الأخيرين من حياته يخفي حسرته مما آل إليه وضعه المادي، فقد كان يعيش على دخل شهري دائم لا يكاد يفوق مئتي دولار شهريا، موزعة بين تعويض بسيط كان يتلقاه بصفته مقاوما للاستعمار، بعدما تعرض لإصابة بليغة في الرأس، وحصل على رخصة استغلال سيارة أجرة ظل يستأجرها مقابل 150 دولارا.
يقول في أحد تصريحاته الإعلامية: يظن الناس أن الفنان الذي يضحكهم يعيش حياة سعيدة بشكل دائم، بينما الواقع عكس ذلك، الفنان لا يفرح إلا بعد أن يضحك الجمهور.
ويروي أنه عاش شخصيا حياة مليئة بالمشاكل، إذ يقول: بدأت مشاكلي منذ الصغر حين فقدت والدتي، ثم مع الاستعمار، وبعدما ظننا أننا بعد الاستقلال سنعيش الرفاهية والحقوق وسننال نصيبنا من الحياة، بينما أرى أنني لم أنل نصيبي في الحياة.
*عن الجزيرة نت
تعليقات الزوار ( 0 )