نورالدين لشهب من الجزائر
في سابقة من نوعها بالعالم العربي، صدر كتاب “الاستعلامات رهان حرب صامتة” لمؤلفه محمد خلفاوي، وهو ضابط سام متقاعد بمديرية الأمن والاستعلامات، والذي اشتغل في التعليم، قبل أن يلتحق بسلك الأمن والاستعلامات إلى غاية تقاعده سنة 2005.
ويقع كتاب “الاستعلامات رهان حرب صامتة” في 295 صفحة، حيث حاول مؤلفه محمد خلفاوي إعطاء لمحة عامة عن أجهزة المخابرات في العالم، نشأتها ومراحل تطورها، مثل”كا جي بي” و”سي إي آ”، و”الموساد” ودوره في قيام دولة إسرائيل مركزا على أهم القضايا التي عالجتها والأخطاء التي وقعت فيها.
وقدّم الكاتب مفاهيم ومصطلحات الاستخبار والاستعلام، مع تخصيص حيّز مهم للمخابرات الجزائرية المتمثلة حاليا في مديرية الأمن والاستعلامات، وتناولها منذ نشأة “المالغ”، والتحوّلات التي شهدها الجهاز بعد تحوّله إلى الأمن العسكري ثم إعادة هيكلته في فترة الشاذلي بن جديد وصولا إلى إنشاء المديرية، وما طرأ عليها من جديد إلى غاية يومنا هذا مع إعطاء تصورات واستنتاجات وأفق المستقبل.
الكتاب جاء في 9 فصول، منها الاستعلامات في قلب الأحداث، تنظيم مصالح الاستخبارات، نشأة المخابرات في أوروبا والعالم التي تناولها الكاتب بالتفصيل، ودورها خلال الحرب الباردة، كما تناول أيضا وسائل المراقبة الإلكترونية والجوسسة الاقتصادية والشفرة، كما تناول بنوع من التفصيل بعض مسؤولي المخابرات الجزائرية كمحمد بتشين والتغييرات التي أحدثها على الجهاز، وكذا الجنرال توفيق، والظروف التي استلم فيها مديرية الأمن والاستعلامات.
ويعتبر كتاب محمد خلفاوي “الاستعلامات رهان الحرب الصامتة” ثاني مؤلف يصدر في الموضوع بعد كتاب “المالغ” كتاب “من المالغ إلى دي أر أس” Du MALG au DRS الذي ألفه صاحبه إلياس لعريبي، والذي تطرق فيه لجهاز المخابرات الجزائرية الذي يسمى منذ 4 سبتمبر 1990 بالـ”دي أر أس” وهو الذي نشأ وترعرع تحت إمرة أحد كبار المجاهدين، العقيد عبد الحفيظ بوصوف، الذي وضع “حجر أساسه” مع بدايات الثورة، قبل أن يتوسع في بنائه عندما شغل منصب وزير التسليح والاتصالات العامة في الحكومة المؤقتة ابتداء من سبتمبر 1958.
وعن دوافع تأليف كتاب في موضوع “العلبة الصامتة” لجهاز المخابرات، قال محمد خلفاوي في حوار مع جريدة الخبر الجزائرية ليوم 6 يوينو، ص 20 و21، “إن ما دفعني إلى الكتابة هو غياب كتب ودراسات تهتم بهذا المجال في الجزائر مقارنة مع الدول الغربية التي تحظى فيها أجهزتها الاستخباراتية بدراسات وبحوث معمقة من شأنها الدفع بها نحو الأمام وتطويرها. لذا يمكن أن نقول إن الكتاب جاء “غيرة” مما يؤلّف في الخارج، خاصة بعد اعتداءات سبتمبر 2001، وإعادة تنظيم جهاز الاستخبارات الأمريكية، والكتب والدراسات التي جاءت بعد تلك الفترة”.
كما أن الهدف من الكتابة، يضيف محمد خلفاوي، هو “الأخذ بزمام المبادرة وفتح المجال لزملاء آخرين لإثراء الدراسات حول مديرية الأمن والاستعلامات، الكتاب يهدف أيضا إلى تعريف الشباب والجيل الجديد بهذا الجهاز وترسيخ مبدأ أن الأمن القومي ليس بيد المخابرات أو بيد جهاز آخر ولكنه بيد الشعب الجزائري”.
المخابرات في خدمة الدولة وليس في خدمة النظام
كتاب “الاستعلامات رهان الحرب الصامتة” يقدمه صاحبه، على أساس أنه كتاب أكاديمي لأنه، وكما يصرح في حواره مع جريدة الخبر الجزائرية، يشرح المفاهيم والمصطلحات ويقدّم فكرة عامة عن المخابرات، ويضم استنتاجات عن أخطاء أجهزة المخابرات مثلما حدث في العراق وانهيار نظام صدام حسين، ونتائج لدراسات لكيفية بناء العلاقة بين المخابرات والشعب، دون أن يغفل في الكتاب عن الحديث عن جهاز المخابرات الجزائرية منذ نشأة “المالغ” وإلى يومنا هذا، مع الحديث عن كل المسؤولين الذين تعاقبوا على الجهاز من بوصوف إلى محمد مدين.
ويضيف صاحب الكتاب، أن دور المخابرات أو الاستعلامات هو “الاستخبار أي استقاء المعلومة فقط”، بحيث أنه صار في بريطانيا شرف أن يكون المواطن ضمن المخابرات البريطانية، مضيفا أن كل منتسبي الجهاز من خريجي الجامعات العريقة، مثل كامبريدج وأكسفورد، وهم من عائلات معروفة وأسر “النبلاء”.
وفي أمريكا، يتم تعظيم دور المخابرات، ودائما يحرص أن يظهر رجل المخابرات في ثوب المتعلم والمثقف، الذي يحسن أداء دوره ومهمته بشكل مشرّف هي حماية الوطن، وهذا ما هو موجود في أغلب الدول الديمقراطية. لكن في البلدان شبه الديمقراطية تجد أن عمل المخابرات ينحصر في حراسة الشعب والغلق عليه، عوض الاهتمام بالخطر المحدق بالبلد من الخارج، “مثلما هو حاصل عندنا بصراحة”، يقول محمد الخلفاوي، الضابط السامي المتقاعد بمديرية الأمن والاستعلامات، أي “تصبح المخابرات في خدمة النظام ويصبح الرئيس الكل في الكل، وبالتالي الشعب ينظر إلى المخابرات أنها تخدم النظام أكثر من الدولة، وكل جهاز ينحاز عن مهمته سيكون مآله الزوال، ونأخذ مثالا على هذا انهيار إمبراطورية الاتحاد السوفياتي، رغم امتلاكه لجهاز “كاجي بي”، وما أدراك ما “كاجي بي”.
الكاتب أتى على ذكر قادة المخابرات وذكرهم بالأسماء والمهام وفترة مسؤولية كل واحد منهم، وما ميزها، ومنهم محمد بوصوف وقاصدي مرباح (الذي عاش بالمغرب وكان صديقا للجنرال أحمد الدليمي) ولكحل عياط وزرهوني وبتشين وصولا إلى الجنرال توفيق مدين. بالنسبة إلى محمد بتشين، ورغم الفترة القصيرة التي قضاها على رأس الجهاز، إلا أنه أجرى تعديلات مهمة على المخابرات الجزائرية، لأنه كان أول من أدخل نظام المعلوماتية على الجهاز، وكان شغله الشاغل هو تكوين الإطارات، ما جعله ينشئ معهد التكوين العالي الخاص بالمخابرات في العاصمة، كما أنه هو أول من قرر خلق مناصب خاصة بالأمن والاستعلامات على مستوى السفارات الجزائرية بالخارج، و”هو إجراء معمول به في كل السفارات وسبقتنا إليه العديد من الدول”.
المخابرات أكبر حزب في الجزائر
وعن الأخطاء التي ارتكبتها المخابرات بالجزائر خلال سنوات الأزمة، أبرزها أنها تخلّت عن دورها المناط بها وصارت تمسك بزمام الأمور، لدرجة أن “توفيق” صار هو الحاكم الفعلي في البلاد، يجيب خلفاوي كون البلاد دخلت حالة الطوارئ، ومتعارف عليه عالميا أنه في حالة الطوارئ الجيش هو الذي يسير الأزمة، وهو ما حصل في الجزائر. لكن المخابرات تغلغلت في الإدارات والمؤسسات وصار لها يد في كل شيء، ما جعل البعض يصفونها بأكبر حزب في الجزائر، ولكن في المقابل كان هناك ضباط من مديرية الأمن والاستعلامات لديهم مكاتب في الوزارات والمؤسسات الوطنية الكبرى كسوناطراك وغيرها من أجل “حماية تلك المؤسسات، وأتحدى أي مسؤول أو أي وزير يخرج إلينا ويقول إن أحدا من أولئك الضباط أزعجه أو تدخّل في عمله، أضف إلى ذلك الضباط لم يكونوا يمتلكون أي قرارات أو حتى حق التصرف” يقول خلفاوي.
المخابرات الجزائرية ليست مسؤولة عن ملفات الفساد
كتاب “الاستعلامات الحرب الصامتة” يدافع عن دور المخابرات خلال الأزمة الداخلية التي عصفت بالجزائر، والذي تمثل في الدفاع عن الدولة وحمايتها من الانهيار.
غير أن مديرية الأمن والاستعلامات التي حمت الشعب من الإرهاب فشلت في حماية أمواله، بدليل الفضائح المالية التي هزّت البلاد خلال السنوات الأخيرة، بدءا بفضيحة الخليفة وصولا إلى فضيحتي سوناطراك وغيرها، فمن أخرج هذه الملفات؟
يجيب الخلفاوي كون المخابرات قامت بدورها على أكمل وجه ورفعت تقاريرها إلى المسؤولين المعنيين. و”أظن أن مهمتها تنتهي هنا”. غير أن العديد يرون أن ملفات الفساد كانت نقطة الخلاف بين مديرية الأمن والاستعلامات ورئاسة الجمهورية.
الخلفاوي يذهب إلى أن هذه المسألة كانت نقطة الخلاف الأساسية، لكنها كانت من القضايا التي زعزعت استقرار البلاد، خاصة وأنها جاءت في وقت شهدت فيه البلاد غياب الرئيس.
الكتاب خطوة غير مسبوقة في العالم العربي
إلى حد الآن لا زالت الصحف الجزائرية مترددة في التطرق إلى الكتاب باستثناء حوار يتيم أجرته معه جريدة الخبر، أما عن المتابعين للشأن السياسي، فالبعض منهم اعتبره خطوة جريئة غير مسبوقة تميط اللثام عن الصراع الجاري بين المخابرات ومؤسسة الرئاسة، والبعض الآخر تلكأ في إعطاء أي تصريح بخصوص الكتاب في انتظار القراءة المتفحصة لمضامينه.
الدكتور ميلود بلقاضي، أستاذ التواصل السياسي بجامعة محمد الخامس بالرباط، اعتبر أن تأليف هذا الكتاب من لدن الضابط السامي المتقاعد بمديرية الأمن والاستعلامات “سيكون الحدث السياسي والإعلامي الأبرز داخل الجزائر وخارجها لكونه كتابا يتناول موضوعا حساسا يرتبط بأخطر أجهزة الدولة الجزائرية وهو جهاز الاستعلامات خصوصا إذا عرفنا دور وموقع وأهمية مؤسسة الاستعلامات في النظام الجزائري”.
سياق تأليف الكتاب
كتاب محمد خلفاوي” الاستعلامات رهان الحرب الصامنة”، كان من المفترض أن يصدر سنة 2005، أي وقت تقاعد المؤلف، إلا أنه تردد لعدم اقتناع به، يقول في حواره مع جريدة الخبر، لكن بعد أحداث الربيع العربي والثورات التي شهدها عدد من البلدان العربية، يضيف في ذات الحوار “جعلني أعدّله، وأقرر نشره حتى يستفيد منه الكثيرون، خاصة وأنه يقدّم معلومات حول كيفية ونشأة أجهزة الاستخبارات في العالم وفي الجزائر، ويشرح عدة مفاهيم تتعلق بهذه الأجهزة التي تعتبر عصب الدول، كما أنه يقدّم مقارنات بينها”.
الدكتور بلقاضي أستاذ التواصل السياسي في جامعة محمد الخامس بالرباط، يعتبر أن المؤلف اختار سياقا دقيقا لإصدار كتابه “الاستعلامات.. رهان حرب صامتة” هذا السياق الذي يتزامن مع إعادة انتخاب الرئيس الجزائري المريض بوتفليقة لولاية رابعة في ظل نقاشات دستورية وأخلاقية وصحية عن أهلية بوتفليقة لقيادة الجزائر في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ الجزائر .
مؤلف الكتاب ليس شخصية عادية أو أكاديمية أو إعلامية، يقول بلقاضي، بل إنه ضابط سام بمديرية الأمن والاستعلامات وهو ما يعني أن مؤلف الكتاب هو محترف ومؤهل للكتابة في موضوع حساس يتميز بشح المعلومات لأن الذين يكتبون في قضايا الاستعلامات والمخابرات – رغم قلتهم- لا يتوفرون على المعلومة الدقيقة عكس محمد خلفاوي مؤلف “الاستعلامات.. رهان حرب صامتة” الذي ترعرع وشاب بين أحضان بمديرية الأمن والاستعلامات بالجزائر بل إته رافق كل أقوياء الجهاز المخابراتي الجزائري حتى توفيق مدين .
وعن اختيار العنوان، يذهب بلقاضي إلى أن العنوان مثير تم اختيار كلماته بعناية كبرى فهو يتحدث عن الاستعلامات والرهانات والحروب الصامتة وهي حقائق ووقائع. والمتتبع لإعادة انتخاب بوتفليقة لولاية رابعة يلاحظ الحروب الصامتة التي كانت قائمة – بصمت- بين أجهزة المخابرات والاستعلامات والمؤسسات العسكرية والأمنية ومحيط الرئيس الجزائري .واختيار محمد خلفاوي عنوان كتابه : “الاستعلامات.. رهان حرب صامتة” هو دليل على الحس الثقافي الرفيع والضبط المفاهيمي الدقيق والبعد السياسي الاستراتيجي والمعرفة الأمنية العميقة عند مؤلف الكتاب.
وتكمن أهمية الكتاب، حسب المحلل السياسي المغربي، في كونه يُعد وثيقة مهمة في مجال الثقافة الأمنية والاستعلاماتية بل انه مرجعا تاريخيا لجهاز المخابرات بالجزائر وتوثيقا لكل المسؤولين الذين تعاقبوا على الجهاز من المرحوم بوصوف إلى محمد مدين، بل إنه صحح الكثير من المعلومات والصور الخاطئة والنمطية المتعلقة بهذا الجهاز الأمن والاستعلامات الجزائرية.
وخلص بلقاضي إلى أن كتاب محمد خلفاوي الضابط السامي المتقاعد بمديرية الأمن والاستعلامات المعنون بـ”الاستعلامات.. رهان حرب صامتة” لن يبقى حربا صامتة بل سيتحول إلى حرب علنية ستستعمل فيها كل الأسلحة وسيحرك كل الأجهزة الصامتة.
تعليقات الزوار ( 0 )