ربما هناك حاجة ملحة اليوم لإعادة قراءة كتاب “صراع الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي” (1996) لصموئيل هنتنجتون، لأن كثيرا مما يجري في العالم حاليا، يؤكد صدق نظريته بشكل كبير.
خلاصة نظرية هنتنجتون تتمثل في أن “الصراعات بعد الحرب الباردة- التي انطلقت غداة الحرب العالمية الثانية، وانتهت بانهيار جدار برلين بما يرمز إليه من انهيار المعسكر الشرقي- لن تكون بين الدول القومية على خلفيات اقتصادية أو سياسية أو إيديولوجية، بل ستكون محركاتها دينية وثقافية أساسا.
وللأمانة، فقد سبق المفكر الراحل المهدي المنجرة إلى طرح هذه النظرية سنة 1991، حين أشار إلى محاولة الغرب فرض “بعض القيم اليهودية المسيحية دون احترام منه لمبدإ الاختلاف والتعدد، سواء تعلق الأمر بحضارات مثل الحضارة العربية الإسلامية، أو بالحضارات الإفريقية والآسيوية واليابانية والصينية وغيرهما، أو بحضارات أمريكية لاتينية..” بمعنى أن “20% من سكان العالم (الدول الغربية) يريدون فرض حضارتهم على حضارات 80% من سكان العالم”..
ولهذا خلص الدكتور المنجرة إلى أن “الحرب القادمة هي حرب ثقافات وحضارات بين الشمال والجنوب، وهي حرب بين فكرة التسلط والاستبداد الحضاري، وبين فكرة الاختلاف والتعدد”.. كنتيجة طبيعية لـ “سياسة التوسع الحضاري وتحقيق الهيمنة اللغوية والحضارية والفكرية للحضارة المسيحية اليهودية ضد كل الثقافات الأخرى..” خاصة وأن هذا الغرب “خائف ويعيش رعبا حقيقيا بسبب أخطار يترقبها من الجنوب: خطر الانفجار الديموغرافي.. وخطر التغيير الديموقراطي .. وخطر حضاري من شأنه الحد من هيمنة الحضارة الغربية، خاصة بالنسبة للمجتمع الإسلامي العربي..”.
ولا شك أن هذا ما نراه الآن على أرض الواقع، وعلى أكثر من صعيد، والنموذج الماثل أمامنا هو ما يحدث في فلسطين المحتلة هذه الأيام.
ويكفي أن نستحضر مثلا بعض ما جاء في كلمة الوزير ناصر بوريطة خلال الاجتماع الأخير لمجلس الجامعة من “أن المساس بالوضع القانوني والتاريخي القائم بمدينة القدس، والمساس بالحق المشروع للشعب الفلسطيني، يقوض فرص السلام ويؤدي إلى تأجيج الصراع من سياسي إلى ديني، ستكون عواقبه وخيمة على الجميع”.
ومما ينبغي التسطير عليه هنا هو التحذير من تحول الصراع من سياسي وديبلوماسي وحتى عسكري، إلى صراع ديني.. رغم أنه كان دائما دينيا.
فلا نحتاج للتذكير بالمكانة التي يحتلها المسجد الأقصى لدى المسلمين، وهو الأمر الذي يربط تلقائيا قضية فلسطين بالجانب العقدي، بغض النظر عن اللعب بالكلمات الذي يمارسه البعض.
ولهذا إذا كان احتلال القدس وفلسطين “أمرا واقعا” يتم التعامل معه من طرف الدول والأنظمة، وفق “موازين القوة” التي تميل بشكل شبه مطلق حاليا لجهة الاحتلال ورعاته وداعميه، فإن ذلك لا يعني الاطمئنان إلى غياب أي رد فعل شعبي، من أصحاب الشأن المباشرين، أي الفلسطينيين، ومن خلفهم العرب والمسلمون، لأسباب لا ترتبط فقط بالتاريخ والجغرافيا، بل بالدين أساسا.
ومن ثم فإن أكبر خدمة قدمتها حكومة نتنياهو المتطرفة، التي تعتبر الأكثر يمينية منذ تأسيس الكيان، هي أنها أعادت الصراع إلى مكانه الطبيعي، أي إلى كونه صراعا دينيا عقديا وليس سياسيا أو قانونيا أو ديبلوماسيا.
إن الاقتحامات شبه اليومية للمسجد الأقصى، والاعتداءات المتكررة على الفلسطينيين من طرف المستوطنين المسلحين والمحميين من طرف قوات الاحتلال، كانت بمثابة تذكير متواصل بأن القضية الفلسطينية مازالت حية رغم كل “المسكنات” و”المنومات” التي تم الترويج لها عبر منصات التطبيع، وعبر “الاتفاق الإبراهيمي” المزعوم.
ولعل أحد أهم المؤشرات المعبرة في هذا المجال، الموقف الرسمي المغربي إزاء التطورات الأخيرة.
فرغم أن “التطبيع النسبي” كان مقابل موقف متقدم من أمريكا -تحديدا- في ما يخص قضية الصحراء المغربية، أي أننا أمام “صفقة” المغرب فيها هو الطرف الأضعف، بما أن قضية الوحدة الترابية هي ورقة الابتزاز التي يستعملها كل من تسنى له ذلك، إلا أن الكل يدرك أن القضية الفلسطينية لها بعد ديني صرف، لا يمكن إغفاله أو تجاوزه، اعتمادا على هلوسات بعض الكتبة المسترزقين بأقلامهم ممن روجوا لنهاية “القضية الفلسطينية”.
فبغض النظر عما راج من أخبار حول تعرض المغرب لضغط أمريكي لإدانة “حماس” صراحة، إلا أن الملاحظ -على يبدو- هو وجود خطوطا حمراء يصعب تجاوزها، مهما كانت الضغوط.
والسبب في ذلك -أكرر مرة أخرى لأن في الإعادة إفادة- هو الجانب الديني الطاغي في هذا الملف.
فوزير الخارجية الأمريكي أعلن صراحة خلال زيارته للكيان، أنه يتحدث من موقعه الديني قبل صفته الديبلوماسية، بما يزكي نظرية المنجرة/هنتنجتون، حول صدام الحضارات.
وأعتقد أن ما يجري حاليا في غزة، يفترض أن يشكل رجة تهز بعض أبناء جلدتنا سواء ممن انحازوا إلى الكيان وارتموا في أحضانه صراحة، لأسباب “ثقافية” بالدرجة الأولى، أو ممن حاولوا إضفاء صبغة “قومية” أو “إيديولوجية” أو “إنسانية” على هذا الصراع مقابل التعمية على البعد العقدي/الديني الذي هو الأساس.
ولا أظن أننا اكشفنا- فقط على هامش “طوفان الأقصى” -ما أشار إليه الرحل المنجرة حول “العدد الكبير من المثقفين المشدودين إلى تقليد الغرب وترديد قيمه وترويجها بوعي أو بدونه”، والذين لم يراع بعضهم حتى دماء مئات الأطفال، فأعلنوا تماهيهم التام مع الكيان في جرائمه.
فنحن أمام محتل لا يكتفي فقط بالاحتلال، بل يريد محو كل أثر تاريخي وبشري وجغرافي وديني وثقافي لضحايا هذا الاحتلال، أصحاب الأرض الأصليين.
وهل يخفى أن الدعم “الدولي” الذي يتلقاه هذا الكيان الاستيطاني اليوم بسخاء، قائم في معظمه على جوانب دينية، وأخرى ثقافية/تاريخية مرتبطة بالتكفير عن جريمة “المحرقة” التي نفذها مسيحيون ولا علاقة للمسلمين بها حتى يؤدوا ثمنها؟
ثم إن هناك بعد آخر، يقود إليه إضفاء الصبغة الدينية على هذا الصراع، خاصة بالنسبة للمسلمين الذين يعتبرون الموت من أجل فلسطين شرفا، بما أن هذا الموت وبهذه الطريقة هو أقصر طريق نحو الجنة.
يتمثل هذا البعد في استحضار الحروب الصليبية وما أدت إليه من مذابح ومجازر في حق المدنيين العزل، والتي تحولت اليوم بتعبير الراحل المنجرة إلى “حرب حضارية”، تختلف أهدافها وغايتها، لكن الدم العربي المسلم هو الذي يسيل في مذبحها.
وأكبر مثال على ذلك، مجزرة المستشفى المعمداني، حيث لم يسبق في التاريخ الحديث والمعاصر أن تم قصف مستشفى حتى من طرف النازيين، بهذه الطريقة الوحشية والتي لا ينافسها في وحشيتها سوى حالة “الإنكار” التي مارسها الساسة والإعلاميون في الغرب، إلى درجة أنه كان هناك إجماع من طرف الإعلام الفرنسي بيمينه ويساره على أن الفاعل “مجهول”.. مع أن المؤشرات والدلائل وتصريحات السياسيين لا تحتاج إلى توضيح..
والمثير فعلا أن ينخرط شخص من قبيل إيدوي بلانيل صاحب موقع “ميديا بار” الشهير، في هذه الجوقة، وهو الذي يقدم دروسا للعرب والمسلمين في مجال “حرية الرأي”، والحال أنه اختار الجانب الذي اصطف فيه عقب هذه المجزرة، بناء على “معتقداته” وليس اعتمادا على معايير مهنية وأخلاقية.
خلاصة القول، إنها صفحة جديدة تكتب بدماء الفلسطينيين ضمن كتاب صدام وصراع وحروب الحضارات، كما نظَّر لها المنجرة/هنتنجتون، اللذين لم يتوقعا -مع ذلك- الدور الكبير الذي ستلعبه ثورة التواصل في تعديل نسبي لموازين القوة بين القوي والضعيف، حيث صارت الضحية قادرة على المقاومة باستعمال سلاح الصورة، كما تأكد جليا بعد مذبحة المستشفى.
ختاما أعتقد أن أهم درس لم يستوعبه الغرب لحد الساعة، هو ما لخصه الراحل المهدي المنجرة بقوله: “حركات التحرر الوطني ليست في حاجة إلى وسيط لتنتفض ضد المستعمر”.
تعليقات الزوار ( 0 )