يحظى العنوان بنصيب مهم من اهتمام الكاتب، و قد يجهد كثيرا من أجل صياغته بما يخدم تفاصيل المؤلَّف، و لا يهدأ مجذاف المؤلِّف إلا بعد ضمان كثافة تشويقية قادرة على إثارة شهية القارئ وحماسته، و للعنوان عند رولان بارث دور أساس إزاء النص و الكتاب بأكمله، كما ينفتح على مجالات تأويلية خصبة بالنظر في حجم المعلومات التي يبرزها حول المحتوى قليلة كانت أو كثيرة، و سواء أكانت مضمرة أو بارزة، فالعنوان إذن، محطة رئيسة تقتضي التوقف عندها و التفحص في مجمل القراءات المحتملة لها، إنه علامة دالة و أيقونة جديرة بالتمحيص و المجالسة، ويمنح بعدا محفزا بغرض استثماره في تقليب الصفحات و قد يتعدى ذلك إلى فعل الاقتناء…هكذا يغدو العنوان-بناء على هذه المعطيات- رقما صعبا في التكتيك الدينامي للمؤلَّف، ومعادلة تحتاج التحليل والاستنطاق.
و يندرج عنوان الشاعر محمد بلمو ضمن العناوين الخبرية المثقلة بالتطريزات المجازية والاستعارات النوعية في بعده التكتلي والتجميعي، إذ تظهر أناقة الشاعر في انتقاء الكلمات الثلاث وبطريقة تنم عن فصاحة الرجل و تبصره البلاغي و اللغوي، ومن شأن التوغل في دلالة كل كلمة أن يشعرنا بالكثير من الألم والأمل، وامتزاج المعنى باللامعنى، ثم انتظار ما قد يأتي و ما لا يأتي.
و يؤشر العنوان”طعنات في ظهر الهواء” على الكثير من الهموم الذاتية، وتمتد فتندغم والهموم الجماعية في الأبعاد النفسية والفكرية والثقافية، وقد دأب شاعرنا دوما على تغليف عناوين دواوينه بمثل هذه الأبعاد رغبة منه في استفزاز القارئ و تثوير طاقته النقدية والفنية كما في ديوانه الموسوم”رماد اليقين”.
اختار بلمو صيغة الجمع، وتأثير هذه الصيغة أقوى وأشد من صيغة المفرد من ناحية الدلالة والمعنى، وإذا تمعنا في “طعنات” نلفيها صديقة حميمة للغدر والخيانة، وهنا ينطرح السؤال المؤرق: ما علاقة الطعنات بالغدر والخيانة؟.
تنوجد الإجابة على هذا السؤال في قصائد الديوان وأخص بالذكر قصيدة”أريج”، حيث يبوح الشاعر بخلجات أثيرة تتناسل ألما وأملا، لقد خلف رحيل الحفيدة جرحا غائرا وعميقا في جسد الشاعر وعالمه النفسي، حتى إنه فقد عقارب الاتجاهات والاحداثيات في عالم بلا معنى ولا منطق.
ولا يقف بلمو عند حدود المكان والزمان، بل إنه يمارس سلطته الفنية بخصوبة بالغة، ويسلّط رؤيته الجمالية في مكون”ظهر الهواء”، وهل للهواء ظهر؟ أليس الهواء من مرادفات الحياة؟ كيف هو إحساس الهواء عندما يطعن؟ هل الاحساس نفسه الذي يحسه الانسان؟.
يصبح بلمو بهذا الطرح التساؤلي معادلا للهواء، ولا يفرق بينهما أي شيء، يتحدان ويتفقان، يتألمان معا ويتقاسمان القرح نفسه، يتشاركان في الهوية والمرجعيات. وإذا كان بلمو يعاني تسلل الموت إلى جسد أريج بدون رحمة، فإن الهواء يعاني غدر المصانع والمعامل الملوثة، وبلا رحمة أيضا، هكذا يصدح صوت المعاناة والوجع في رحم الأمل، بلا هوادة يصر بلمو والهواء معا على شق طريق التجدد والبعث النفسي والوجودي.
ويبدو العنوان مثقلا بالمجازات و الاستعارات، إذ يحتمل أكثر من قراءة بلاغية وفنية تبعا لفك الشفرات السيميائية الكامنة فيه، فقد جعل الشاعر للهواء ظهرا، وصوره في صورة انسان يتلقى الطعنات، الواحدة تلو الأخرى، وهذه الفحوى المجازية تجعل من علاقة الجزئية بين الظهر والانسان قائمة على جمالية شاعرية باذخة، تسائل الكائن والممكن، ولا يعقل أن يمتلك الهواء ظهرا، غير إن مقصدية الشاعر أكبر من ذلك، فهو يدثّر الهواء بعباءة بشرية تحس وتشعر وتتفاعل مع أحوال الزمن ومتغيراته، كما يستطيع هذا الهواء أن يبوح بما يعتصر داخله من ألم حاد نتيجة النفايات التي تخنقه والغازات التي تسوّد بياضه. وتتأنق الإستعارة في صلب العنوان مجددا، فتكسبه صبغة التحدي والمواجهة، إنها استعارة الروح والحب، روح أريج وحب الشاعر لها، بهذا التأويل البلاغي، يقحمنا الشاعر في اللامتناهيات من الدفقات الشعورية التي تنسكب زلالة كماء يبلل ظمأ العطشان في شدة عطشه لكنه يأبى القطرة الواحدة، إنه يطمع في أكثر من ذلك لعله يستعيد حيويته ونشاطه، والمتصفح لصفحات الديوان يلمس تيمة الحزن التي تقض مضجع الشاعر، فلا قطرة العزاء استطاعت التخفيف من بطش الموت، ولا قطرة النسيان استطاعت انتشال بلمو من حداده، تتجمع الأحزان وتتشابك في ما بينها، ثم تتمدد بالطول والعرض لتتحول إلى طعنات غادرة تزور الشاعر وتتأوب شاخصة في حله وترحاله، ورغم ذلك فهو يقاوم ويجابه، كما قاوم القيصر يوليوس طعنات الغدر ممن وثق فيهم، فحمل جراحه يتلوى ألما ويبثها لصديقه بروتوس، ينشده الأمل ويطلبه العون باسم الصداقة، لكن بروتوس لم يتجاوب لنداء زميله، وبدون أدنى شفقة أخرج سيفه ثم طعنه، ليس في صدره فقط، بل في ميثاق الصداقة والثقة والزمالة.
العنوان، إذن، أشبه بالسمفونية والمعزوفة الرخيمة، وكل مقطع منها يجرك إلى خلق عالم هادئ بغرض الاصغاء لصوت الألم الذي تحدثه الطعنات في جسد كل واحد منها، بشكل أو بآخر، لكن، هل علينا أن نستسلم؟ لا، علينا أن نجابه وأن نصمد، فما دامت هناك حياة، هناك أمل…
تعليقات الزوار ( 0 )