بعد ظهر يوم الـ 22 من شهر نوفمبر من سنة 1957، في ثكنة إفني للرماية التابعة للاحتلال الإسباني للصحراء المغربية، أصر شرطي من السكان المحليين الذين كان جيش فرانكو يقوم بتجنيدهم، على رؤية النقيب روزاليني. رغم الرفض في البداية بذريعة أنه مشغول، إلا أن إلحاح الشخص بأن الأمر عاجل ولا يتطلب أي تأجيل، دفعه لقبول لقائه.
فتّش أحد الضباط الشرطي المحلي كاملاً، للتأكد من أنه لا يحمل أي شيء خطير معه، قبل أن يحاول إقناعه بإخباره بفحوى ما يريد قوله للنقيب، إلا أنه رفض، وشدد على ضرورة أن يكون النقيب أول من يعرف. حرك الرقيب شاربه ورفع هاتفه متصلا بالنقيب لإخباره بأن المعني يدعي أن لديه معلومات مهمة، والتي اتضح لاحقاً أنها تتعلق بنية جيش التحرير، مهاجمة حاميات إسبانية في سيدي إفني، في ذلك الصباح.
وصفت جريدة “إل إسبانيول”، في تقرير لها، الأمر بأنه كان بداية لـ”حرب عبثية”، “لن يتمكن أحد من الانتصار فيها، وهذا لن يؤدي إلا إلى فقدان الدم والحياة”، متسائلةً: “لماذا بدأت مثل هذه الحرب؟”، قبل أن تضيف في محاولة للإجابة: “من الضروري العودة إلى الماضي البعيد للأحداث، من أجل معرفة سببها”.
في سنة 1868، وقع السلطان محمد الرابع، معاهدة مع إسبانيا، كانت الأخيرة مهتمة وقتها بالمنطقة، من ناحية لحماية مصائد الأسماك التي تم تركيبها، ومن جهة أخرى من أجل منع أي قوة استعمارية أخرى من إقامة قواعد على الساحل أمام جزر الكناري، إلا أن الاحتلال العسكري لسيدي إفني، لم يحدث إلا في سنة 1934 بعد حملات الكولونيل كاباز وقتها، حسب الصحيفة.
في الـ 2 من شهر مارس سنة 1956، منحت فرنسا الاستقلال للمغرب، واضطرت إسبانيا سياسيا لفعل الشيء نفسه، لأن إجراءات الحماية التي اتخذتها نابعة في الأصل من معاهدة موقعة مع فرنسا وليس مع المغرب.
بعد أن عاد الملك المنفي محمد الخامس، لتولي زمام الأمور بالمغرب، وتعيين ولي عهده الحسن الثاني، البالغ من العمر 26 سنة، رئيسا للأركان العامة للقوات الملكية المسلحة، سرعان ما أظهر قوميته وطموحاته في استعادة الأراضي المغربية المحتلة، متابعةً أن المغرب وقتها لم يكن مستقرا، في ظل انتفاضة عدد من القبائل.
في سنة 1957، كان جيش التحرير الوطني يضم 20 ألف رجل مسلح تسليحا جيداً، 5000 منهم بالقرب من سيدي إفني. وكان رئيسهم كبير بن إبراهيم، فيما كان مسفيو بن حمي، رئيسا للجيش في المنطقة الجنوبية، وهو ضابط صف سابق في الجيش الفرنسي، كان قد تركه للانضمام للمقاومة المغربية، ولديه خبرة في الحرب العالمية الثانية والهند الصينية.
كان العديد من أعضاء جيش التحرير ذوي الخبرات المماثلة، وجنوداً ممتازين. تكتيكهم بسيطا للغاية: الهجوم المفاجئ ثم العودة بسرعة إلى الملجأ على الحدود مع الأراضي التي كانت تحتلها إسبانيا، حيث كان لديهم معسكرات ومستودعات أسلحة ومؤونة.
في وقت مبكر من صباح يوم 23 نوفمبر 1957، أطلق ماريانو جوميز زامالو إي كويرس، الجنرال العام للجيش الإسباني في المحمية السابقة، والذي كان قد نبه لنوايا جيش التحرير المغربي. في البداية، لم يكن الإسبان يرون أن التحركات المغربية أمر حتمي الوقوع، حتى أنهم سمحوا بالاحتفال بحفلة توديع العزوبية للضباط في كازينو سيدي إفني.
كانت التوقعات بالهجوم صحيحة، لكن الموارد كانت شحيحة، ففي المدن المختلفة، كانت المفارز إما ضئيلة لاحتواء الهجوم، أو قليلة للقتال لبعض الوقت ضد عدو متفوق يمكنه تركيز قواته في مكان معين. قبل أن تواصل الصحيفة، أن الإسبان، كان لديهم العلم الثاني للمظليين، الذين لم يدخلوا في القتال مطلقا، ووصلوا كتعزيز، إضافة لمجموعة مدفعية، ووحدة بحرية، في المجموع كان هناك 2700 رجلاً.
بدأ الهجوم على سيدي إفني في الساعة السادسة والنصف صباحا، ضد مخازن الوقود والمستودعات والمطار، ومستوطنات الضباط الأوربيين. وتعرضت مفازر المستوطنات للهجوم أو الحصار أو الاستسلام، فقد ساهم التفوق العددي، مع انسحاب القوات الأصلية وانضمامها إلى جيش التحرير، بسبب شعورها “أن دخولها إلى الجنة في خطر، إن تعاونت مع العدو الكافر”.
وذكرت الجريدة، أن حاميات تيليوين، التي تواجد فيها 43 إسباني، و13 مواطنا أصليا، وتيغوسا التي بها 109 إسبان، و39 مواطنا أصليا، وتلاتا مع 101 إسبانيا، و19 مواطنا أصليا، قاومت لمدة خمسة أيام، غير أن تيليوين وتالاتا والمستي وبيفورنا سقطت في النهاية، بعد موت رئيسهم غونزالو فرنانديز، والرقيب روس، وانسحبت القوات إلى تيجوسا.
في حميدوت، تقول الصحيفة، قاتلت فصيلة من الرماة حتى نفذت دخيرتها، أما في سيدي إفني، فلم يكن هناك عدد كاف من الرجال في ذلك الوقت لاتخاذ الإجراءات اللازمة لاستعادة السيطرة على الأراضي التي كانت تحتلها إسبانيا، موردةً أن جنديا آخر قتل هناك، بعدما ردّد عبارة: “سأدخل تلاتا أو الجنة”. معتبرةً أنه كان شجاعا وجريئا، وسلوكه كان بطوليا.
في الساعة الخامسة والنصف من مساء اليوم نفسه، غادر الصف الثالث والعشرون، وهو رتل ضم 57 رجلا، وثلاث شاحنات وسيارة إسعاف لتحرير تلاتا. على متن المركبات كان هناك 37 مظليا، وفرقة قذائف هاون عيار 50 ملم، أخرى مدافع رشاشة. تم استكمال القافلة من قبل نقيب طبي وممارس من السكان الأصليين واثنين من مسؤولي الاتصال وأربعة سائقين.
كانوا في طريقهم إلى الموت، تواصل الجريدة، كانوا يرددون: “أولئك الذين يعرفون كيف يموتون يعرفون كيف ينتصرون”، مسترسلةً أنه على بعد ثلاثة كيلومترات من الهدف، ظهر جيش التحرير مرة أخرى، كانوا ينتظرونهم، ألقى أكثر من مائتي رجل بأنفسهم ضد المظليين. في فجر يوم 26 نوفمبر، شنوا هجوما عنيفا قتل فيه عدد من الجنود والقادة.
في 23 نوفمبر، جاءت التعزيزات من العيون، العلم السادس للفيلق، وفي 27 نوفمبر، من خيتافي، حيث تم إنشاء جسر جوي لتعزيز الكتائب المختلفة، لم تكن الأنباء في العاصمة متفائلة على الإطلاق، فقد سقطت مواقف تابيركوت، وحميدوت، وبيفرنا، وتاموتشا، وسيدي بوريا، وسيدي محمد بن داود وأورقوغ. لقد سيطر جيشر التحرير عمليا على المنطقة بأكملها.
بدأت القيادة العسكرية الإسبانية في تقبل أن الحفاظ على مواقع بعيدة عن العاصمة مهمة مستحيلة. لقد هاجم جيش التحرير ثم اختفى مثل الدخان، وعاد إلى المناطق التي كانت تابعة للمغرب وقتها، حيث كان بأمان. متابعةً أن الجنرال زامالو لم يكن لديه ما يكفي من القوات أو الإذن لعبور حدود غير مرئية وبالتالي لا يمكن هزيمة العدو.
واستطردت أنه لم يكن هناك أي شيء يمكن القيام به وقتها، فقد كان المغرب حليفا للولايات المتحدة الأمريكية، التي رأت أن الجزائر تشكل خطرا محتملاً بسبب ميلانها للشيوعية. لم تكن مهمة فرنسا الدخول في صراعات جديدة، ما قد يزيد الطين بلة، كما أن واشنطن منعت مدريد من استعمال المواد الحربية التي تم الحصول عليها بعد الاتفاقيات الموقعة بعد الحرب الأهلية.
في 30 نوفمبر، وصل 716 جنديا وضابطا من كتيبة الاستطلاع رقم 9، تحت قيادة القائد مارتن بايلو إلى سيدي إفني من إشبيلية، بعد أيام، وبالضبط في الـ 7 من دجنبر، تلقوا الأمر باستئناف أعمال الإصلاح على الطريق المؤدي إلى تيوجسا، تحت قيادة الملازم روجاس نافاريتي من ميليشيا الجامعة.
خلال اليوم نفسه، تعرض قسم إنساين روخاس هجوما من أكثر من 300 شخصا، ما تسبب في مقتل القائد الذي وصل قبل أيام، كما تعرضت الأقسام التي تحمي الانسحاب لهجمات مستمرة، ما أدى إلى رفع عدد القتلى والجرحى خلال العملية. بعد ظهر الـ 9 من جنبر، وصلت الطوابير إلى سيدي إفني، بعد مسيرة طويلة.
مع وجود القوات الإسبانية في المنطقة، وعدم قدرتها على مهاجمة قواعد إمداد جيش التحرير، كان الشيء الوحيد المعقول القيام به، هو تحرك البحرية الإسبانية، التي لم تستطع القيام بأي هجوم، رغم مناوراتها التي تبين لاحقا أنها مجرد خدعة للفت انتباه القوات المغربية، التي بالفعل وجهت أنظارها إلى المحيط، مع أخذها مواقع دفاعية.
استلمت القوات الإسبانية تعزيزات جديدة في الـ 31 من يناير 1958، بواسطة الفيلق والمظليين وقوات شبه الجزيرة، لتخفيف حدة الحصار الذي فرضه جيش التحرير على سيدي إفني، قبل أن يقوم بالتحرك لاستعادة المواقع التي سيطرت عليها المقاومة المغربية، وهو ما تم في الـ 20 من فبراير من السنة نفسها، غير أن الحملة توقفت على الحدود مع الأراضي التابعة للمغرب وقتها، والتي كانت تمثل قواعد دعم المقاومة.
انخفض نشاط الحرب بعد ذلك التاريخ، بعدما كلفت الحرب إسبانيا 83 قتيلاً؛ 11 ضابطا أو ضابط صف، و72 جنديا، إلى جانب 251 جريحا؛ 33 ضابطا أو ضابط صف، و218 جنجيا، واثنين من الجنود المفقودين. في الصراع بالصحراء المغربية مات حوالي 300 إسباني، وهو ما اعتبرته الجريدة أنه دم “أريق بدون فائدة، وتم نسيانه للأسف”.
بعد 11 سنة على الحرب، وبالضبط في الـ 30 من يونيو 1969، تم إنزال العلم الإسباني من سيدي إفني، قبل ست سنوات وخمسة أشهر على المسيرة الخضراء، التي عاد المغرب عبرها إلى الصحراء. مردفةً أن كاتباً إسبانيا هو خوسيه مرايا غارسيا بايز، نشر رواية بمسمى “حرب سيدي إفني.. مأساة مجهولة”، روى فيها مغامرات بعض الجنود الذين قتلوا في المستعمرة.
تعليقات الزوار ( 0 )