من الظلم محاكمة سيد قطب خارج سياقه التاريخي والسياسي وبشكل متشنج ومتسرع وبخلفية أيديولوجية، وليس على أساس نقد فكري موضوعي.
لقد عرف سيد قطب تحولات وتقلبات كبيرة في حياته الفكرية والثقافية والسياسية فقد كان في بدايته وفديا وناقدا أدبيا رفيعا محسوبا على مدرسة عباس محمود العقاد. وقد امتلك سيد قطب موهبة أدبية قامت على أساس نظري وإصرار قوي على تنميتها بالبحث الدائم والتحصيل المستمر، حتى مكنته من التعبير عن ذاته وعن عقيدته يقول:
(إن السر العجيب – في قوة التعبير وحيويته – ليس في بريق الكلمات وموسيقى العبارات وإنما هو كامن في قوة الإيمان بمدلول الكلمات وما وراء المدلول وإن في ذلك التصميم الحاسم على تحويل الكلمة المكتوبة إلى حركة حية المعنى المفهوم إلى واقع ملموس).
وقد نشر العديد من المقالات النقدية في المجلات والصحف عن العقاد والرافعي وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وجمع بعضها في كتابه كتب وشخصيات وكانت له معاركه النقدية الحادة فقد كان أحد كتّاب مجلة الرسالة لصاحبها الأديب أحمد حسن الزيات التي نشر فيها كثيراً من مقالاته. كما أصدر ديوان شعر بعنوان الشاطئ المجهول عام 1935 م وكتاب طفل من القرية عام 1946 م وهو سيرة ذاتية من يحاكي فيها كتاب الأيام لطه حسين وفي هذه المرحلة أيضًا أصدر كتاب النقد الأدبي أصوله ومناهجه عام 1948 م. وقد تميز سيد قطب بالجمع بين الأصالة والمعاصرة برزت َ على الأخص في كتابه في ظلال القرآن.
وفي المرحلة الأدبية لسيد قطب ظهرت بواكير اهتماماته الإسلامية فنشر مقالة عن التصوير الفني في القرآن في مجلة المقتطف، ثم ما لبث أن عاد إلى الفكرة ذاتها فتوسع فيها وأصدر كتابه التصوير الفني في القرآن، وكتابه الأدبي الرائع مشاهد القيامة في القرآن وهما دراسة جمالية بلاغية جديدة في الإعجاز البياني للقرآن،
ويعود الفضل الكبير لسيد قطب في اكتشاف َوظهور الروائي الكبير نجيب محفوظ الذي اعترف في احد حوارته بهذا الفضل وذلك عندما تناوله سيد قطب في أحد مقالاته الأدبية وكان اذاك نجيب محفوظ كاتبا روائيا مغمورا، وبعد حديث سيد قطب صار محفوظ نارا على علم ولذلك أصبح سيد قطب حجر الزاوية في رحلة محفوظ إلى جائزة نوبل للأدب، و تبدأ هذه الالتفاتة النقدية الادبية، عندما أشهر قطب قلمه مدافعاً عن الروائي الشاب، آنذاك، نجيب محفوظ، في مجلة “الرسالة”، عام 1946، فقد كتب حينها:: (من دلائل غفلة النقد في مصر، أن تمر هذه الرواية “القاهرة الجديدة”، دون أن تثير ضجةً أدبيةً، أو ضجةً اجتماعيةً، لأنّ كاتبها مؤلفٌ شابٌّ!”. رحلة من تناول روايات محفوظ بدأها قطب، في نيسان (أبريل) عام 1944، بالكتابة عن رواية “كفاح طيبة”، ثم “خان الخليلي”، وختمها برواية “القاهرة الجديدة).
لقد كانت كتاباتٍ سيد كتابات نقديةً، ساهمت، بشكل رئيس، في سطوع نجم محفوظ في سماء الرواية، ليحصد الشاب، الذي تجاهله النقّاد في بداية كتاباته، جائزة نوبل للأدب، في عام 1988. واستمر سيد قطب على هذا المنوال، وقد بلغ فيه مبلغ الأدباء الكبار،
ولم يحدث له التحول الكبير إلا بعد سفره للولايات المتحدة الامريكية مبعوثا عن وزارة المعارف المصرية ولم تكن له حينها علاقة بالإخوان، المسلمين فقد كان على صلة وثيقة بجمال عبدالناصر رالذي عينه رئيس هيئة التحرير فقام جمال وعاهده على الدفاع عنه، وهو ذاته الرجل الذي أمر بإعدامه فيما بعد.كان جمال عبد الناصر يعلم المكسب العظيم من انضمام سيد للهيئة فعرض عليه استلام وزارة المعارف فرفض سيد هذا العرض وأعلن انشقاقه عن هيئة التحرير. وهكذا انضم سيد قطب إلى صفوف الإخوان لكنه ما لبث أن أصبح أكبر من التنظيم، ولم يعد محسوبا عليهم ولا على غيوهم.
وللتاريخ والحقيقة كان إعدام سيد بسبب رغبة جمال عبد الناصر في الانتقام من رفيق الأمس الذي تحداه ورفض الخدمة تحت إمرته فأنهى وجوده،
و هو بحق كان شهيد رأي وفكر، مهما كان هذا الفكر متعصبا أو متطرفا ،ولكنه يلقى رأيا عبر عنه في كتابه معالم في الطريق، شأنه شأن هايدجر الذي اتهم بالتنظير للنازية، وهو رغم ما ذهب إليه من القول بالحاكمية لله وليس لأي شعب أو بشر ، لم يكن أمير خلية إرهابية، أو رئيسا لتنظيم سري، او مشاركا في جرائم قتل أو اغتيال أو حاملا للسلاح، وإنما كان حاملا للقلم ،ويكفي قراءة بعض ورقات من كتابه الرائع أدبيا في ظلال القرآن والذي كتبه في السجن، واعتبر من خلاله مؤسس التفسير الموضوعي ، والرجل للحقيقة والتاريخ أمضى سنواته الأخيرة من عمره في السجون لم يشفع له مرضه ، متنفسا الهواء والأكسجين برئة واحدة،
نعم كان الظلم والعذاب الذي تعرض له بدون رحمة وهو صاحب الجسم الهزيل ، بون أي وجه حق ، سببا دفعه إلى أقصى أقاصي المعارضة العقدية والدينية والتشدد الشاعري، الذي ذهب به مذاهب من الرفض للمجتمعات القائمة التي وسمها بالمجتمعات الجاهلية، ولم يكن ذلك، رأي أصيلا في فكره ، وإنما كان رد فعل متشنج عما لاقاه، من عذاب وتنكيل، وللحقيقة والتاريخ لم تكن المحاكمات التي أقيمت له ولغيره من المعارضين آنذاك محاكمات تتوفر على أقل وأدنى ضمانات المحاكمات العادلة، و التي لم يطبق بشأنها قانون ولم يتم فيها احترام اجراءات مسطرية شكلية،
وبسبب ذلك الظلم الذي كان سائدا أنذاك في سجن طرة وغيرها من السجون المظلمة السوداء ذائعة الصيت والذي طال المعتقلين الشيوعيين والاخوانيين والليبراليين، ولقد وثقتت جزءا من هذا الظلم السينما المصرية مع عادل إمام في الفيلم الرائع احنا بتوع الاتوبيس، وكذلك فعل الممثل أحمد زكي في فيلمه الرائع ضد الحكومة.
وبسبب هذا الظلم كانت النكسة الكبرى والنكبة العظمى في هزيمة 1967 ضد اسرائيل وتبين أن الله ينصر الدولة العادلة ولو كانت كافرة، ويهزم الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة أخذا بالأسباب والقوانين، نعم كانت لسيد أخطاؤه الانسانية في التعنت والانانية والتطرف وأخطاؤه الفكرية المتشددة، ولكنه مع ذلك لم يكن ارهابيا وأنما مفكرا، صاحب قلم سيال وبحر ثجاج وسيل جرار، ، َفكر وقاد ولا يهم من اقتدى بأفكاره فذلك شأنهم ومبلغ فهمهم، ، أو ممن فسر أفكاره التفسير الخاطئ ، أو أولها التأويل المتطرف، ممن أتى بعده من جماعة التكفير والهجرة وأميرها عبد السلام فرج وما أصدره في كتابه الفريضة الغائبة ، أو من استقى من أفكارها من أتي بعده من الجماعة الاسلامية المسلحة وأميرها أيمن الظواهري،
فحتى الفيلسوف الالماني ماركس تم تأويله في تقعيد وشرعنة العنف الثوري الدموي للماركسية اللينينية.
ورغم ما حدث من تأويل لأفكار سيد قطب فهو في الحقيقة لم يكن أبدا منتميا لأي منها، لانه ببساطة كان قد تم إعدامه حينها قبل ظهور أي من هذه الجماعات ولم تثبت كل محاولات تلفيق التهم التي شهدتها المحاكمة، بل إن بعضا من هذه الجماعات، قد بدعه وكفره، واعتبره وحدويا ،. قائلا بوحدة الوجود على شاكلة محيي الدين بن عربي ، في أحد تأملاته في تفسيره لسورة الحديد، في ظلال القرآن.
الرجل كان صادقا مع نفسه مؤمنا بأفكلره يروم إصلاح مجتمعه وإن أخطأ الهدف والطريق والوسيلة وهو مغ كل ذلك قد مضى ألى ربه بما له وما عليه، والله هو حسيبه وحسيب الجميع،يوم القيامة. لقد كان سيد قطب شاعر وأديبا مرهف الحس فياض المشاعر، ساخن العواطف، ، صاحب قلم جياش لعبت به السياسة ملاعب شتى وطوحت به في أماكن بعيدة موحشة لا يجيد فيها اللعب، رحمه الله، ورحم الله كذلك جمال عبد الناصر،، الزعيم التاريخي للقومية العربية الذي كان يروم بدوره تحقيق حلم الدولة العربية الموحدة القوية المتقدمة لكنه أخطأ الطزيق شأنه شأن سيد قطب ، فهما معا وجهان لعملة واحدة، يشتركان في نفس الحلم بطرائق مختلفة وكانت لهما أهدافا نبيلة لكنهما توسلا للوصول إليها بوسائل خاطئة ، ولدلك فهما الآن عند ربهما يختصمان.
*محام بهيئة القنيطرة
تعليقات الزوار ( 0 )