بعيدا عن الجوانب العسكرية والإنسانية التي كثر الحديث عنها على هامش “طوفان الأقصى”، هناك “مكاسب جانبية” ربما لم ينتبه لها كثيرون، ولم تنل ما تستحقه من اهتمام وعناية.
يتعلق الأمر عموما بـ”مكاسب” جديدة، وغير متوقعة بالنسبة للقضية الفلسطينية على المستوى الدولي، وأيضا بـ”مكاسب” للمغرب بشكل خاص.
بالنسبة للفئة الأولى من هذه المكاسب، يمكن أن نسجل ما يلي:
– فقدت الرواية الإسرائيلية سيطرتها المطلقة، حيث على عكس ما كان يحدث سابقا، نجح الفلسطينيون بإمكانياتهم المتواضعة، في مزاحمة الماكينة الدعائية الصهيونية الأخطبوطية، بفضل ثورة المعلوميات، وتحديدا بفضل مواقع التواصل الاجتماعي التي قضت نهائيا على كل تقنيات التعتيم التقليدية.
– تبعا لما سبق، تشكل فعلا رأي عام غربي مناهض لإسرائيل، واكتسب كثيرون الجرأة على انتقاد الكيان صراحة وعلنا وبحدة، رغم سيف “معاداة السامية” المصلت على رقاب النخبة حتى في أعرق الديموقراطيات الغربية.
– المسيرات الضخمة في كثير من العواصم الأوروبية أكدت منحى التغيير، حيث تمثل حيثيات إقالة وزيرة الداخلية البريطانية مؤشرا واضحا، على أن رجل الشارع في بريطانيا وأوروبا وأمريكا، لم يعد جزء من “القطيع” الذي يصطف تلقائيا بناء على محددات دينية أو عرقية، بل أصبح يتفاعل مع الواقع من زاوية إنسانية.
– مما ساهم في هذا الانقلاب، استهداف المدنيين بشكل عمدي، وقصف المستشفيات تحديدا، وهي فعلة لم تقدم عليها حتى النازية والفاشية في الحرب العالمية الثانية.
– خرجت قضية فلسطين من الأرشيف، وتأكد للعالم أنه لا حل من خلف ظهر أصحاب الشأن أنفسهم، لأنهم المعنيون أولا وأخيرا بهذه القضية، وأن اتفاقات “التطبيع” لا يمكن أن تغير من طبيعة هذا الملف، ولا من مساره.
– اكتشف البعض ربما، أن ما يهم إيران أولا وأخيرا هو مصالحها القومية الضيقة، وأن الشعارات المرفوعة حول الجهاد والقدس وتحرير فلسطين، ليست أكثر من لافتات للمزايدة.
وفي انتظار ما سيكشفه المستقبل من صفقات تبرم حاليا خلف ستائر سميكة مع “الشيطان الأكبر”، ليست الأولى من نوعها، لابد من تسجيل تراتبية الولاء عند الجماعات والتنظيمات “العربية” الخاضعة لـ”ولاية الفقيه”، حيث لا شيء يعلو على مصلحة إيران.
– في نفس السياق، رسمت علامات استفهام كثيرة حول “حزب الله” الذي يطالب دولا عربية تبعد آلاف الأميال عن فلسطين، بالتحرك عسكريا، بينما يكتفي هو بمناوشات “رفع العتب”، مع أنه يملك -حسب أقل التقديرات -150 ألف صاروخ شديدة التدمير، يمكن أن تطال كافة الأراضي المحتلة، والسبب في هذا “التولي يوم الزحف” بسيط جدات، يتمثل في أن ما يهمه هو مصالح إيران بالدرجة الأولى، ولا تفسير للأمر غير ذلك.
– نفس الملاحظة، يمكن تسجيلها على نظام بشار، الذي قتل وسحل وشرد ملايين السوريين، بل مارس التطهير الطائفي، وسلم أملاك أبناء البلد كغنائم باردة للمليشيات التي مارست كافة أشكال البطش بالنساء والأطفال، بل لم تسلم منها حتى قبور بعض أعلام أهل السنة، والذي لم يكن يتردد في إلقاء البراميل المتفجرة على المدنيين في الأسواق والمدارس والمستشفيات، بل ويستمتع بمشاهد الأشلاء والدماء، بينما حافظ على وضع النعامة في مواجهة الكيان الذي لم يتوقف عن قصف “دولة الممانعة” على مدى سنوات، وهو قصف قوبل دائما، وفي أقصى الحالات بالبلاغات والبيانات والتهديدات الفارغة.
– وأختم بالإشارة إلى مكسب مهم جدا تمثل في نموذج جديد لتهريج النظام الجزائري ومزايداته، يتمثل في “تفويض” المجلس الوطني الشعبي الرئيس تبون بـ”إعلان الحرب” على إسرائيل.. فهل هناك عبث أكبر من هذا؟
إن هذا النظام الذي يصبح ويمسي على صرف أموال الشعب على مناكفة المغرب والتشويش عليه، لا يجد سوى التهريج لتطبيق شعار “مع فلسطين ظالمة أو مظلومة”..
وقد شاهد العالم كيف أن هذا النظام الذي ينفق بسخاء على تسليح البوليساريو، لم يكتف بالإنشاء والمزايدات الفاغرة، بل أضاف إليها قدرا كبيرا من التهريج.
****
أما بالنسبة لمكاسب المغرب من هذا “الطوفان”، فيمكن أن نتوقف عند ما يلي:
– انكشف أمر بعض “الكتبة” الذين كانوا يقدمون أنفسهم كناطقين “رسميين” باسم مربع صناعة القرار، حيث اتضح من سرعة تماهيهم مع الكيان وعدوانه، ووقوفه خلفه، أنهم ليسوا حتى سعاة بريد، بما أن الموقف الرسمي جاء فوق ما كان متوقعا، رغم حديث كثير من المصادر الإعلامية عن ضغوط كبيرة تعرض لها المغرب لإدانة حركة حماس صراحة.
وحين نتحدث عن ضغوط، فإن الفكر يتجه حتما ومباشرة إلى قضية الصحراء، لأنها نقطة الضعف الرئيسية التي يتم الابتزاز من خلالها.
لا يحتاج الأمر إلى ذكاء خارق لإدراك أن صمود المغرب أمام هذه الضغوط، فضح الولاء الحقيقي لمن اعتبروا -صراحة أو ضمنا- أنهم “كلهم إسرائيليون”.
– تأكد أيضا بما لا يدع مجال للشك، بأن الكيان، فشل -رغم كل الإمكانيات المتوفرة والوسائل المستخدمة- في اختراق النخبة الحقيقية المؤثرة، بل إن كثيرا ممن كانوا يستفيدون من الأكل على موائده، إما انقلبوا ضده أو اختفوا خوفا من مواجهة طوفان الرأي العام.
أما الذين مازالوا يدافعون -بوجوه مكشوفة- عما يسمونه “تطبيعا”، فكثير منهم إنما يفعل ذلك من باب “التبرهيش” ومناكفات “الذراري”، لأنهم اعتادوا دائما على معاكسة التيار الجارف والبحث عن الشهرة بـ”الشذوذ”.
– لقد نجح الطوفان في إحياء قضية فلسطين في قلوب الأجيال الجديدة، التي فتحت عينيها على كم “طوفان” من البروباغندا عن التسامح والسلام.
فمشاهد الدماء والأشلاء وصور الدمار، محت بجرة قلم، جهود سنوات من “التضبيع” لإنتاج أجيال ضائعة تتماهى وتذوب في “تقليد الغالب” و”عبادته”.
إن صورة مجزرة واحدة من مجازر الكيان الأخيرة، كانت كافية لهدم “الهيكل” على رأسه وعلى رؤوس “الكهنة” الذين باعوا العجل فعلا لعبدة العجل..
– اتضح أن بعض “المنابر” التي تم تسخيرها للترويج لـ”التطبيع” أكلت ولم تنتج ما كان متوقعا منها، وهذا ليس كشفا جديدا إلا بالنسبة للجاهلين جهلا مركبا..
فالبلد الذي يختم القرآن في مساجده أكثر من 51 ألف مرة في الشهر (أكثر من 660 ألف ختمة في السنة) لا يمكن أن يتم غسل دماغه ومحو قناعاته بمقالات أو مقاطع فيديو رديئة..
****
وبعد؛
هذه مجرد لائحة أولية لكثير من المكاسب التي تحققت بفضل طوفان الأقصى، تتراوح بين التغييرات الجذرية التي عرفتها توجهات الرأي العام الغربي، وبين انكشاف حقيقة بعض العرب والمسلمين المتاجرين بالقضية الفلسطينية، وبين عودة القضية الفلسطينية إلى موقعها الحقيقي في الشارع المغربي، مع تعثر مسلسل التطبيع مرة أخرى..
وهذه كلها مكاسب تحققت -في جزء كبير منها- بفضل جنون العظمة الذي أصاب الكيان، الذي ظن أنه وصل فعلا إلى نهاية التاريخ، ونسي أن الإنسان هو من يصنع التاريخ ويحرك عجلته..
تعليقات الزوار ( 0 )