رحل دونالد ترامب عن البيت الأبيض بعد أن استنفذ كل المحاولات للطعن في نتائج ومصداقية الانتخابات الرئاسية ، كما لم تمثل مقاطعته لحفل تنصيب جو بيدن رئيسا جديدا للولايات المتحدة الأمريكية أية مفاجأة. فلقد تعود الجميع على خطابه الشعبوي و تدويناته وخطبه المتسمة بالحدة في الأسلوب والمغالطة في المضمون،وتضخم في الأنا ، ناهيك عن توظيف محكم لمشاعر الخوف تارة، وتقمص دور الضحية تارة أخرى. كما اتخذت شيطنة الآخر تكتيكا متكررا ومتخذا أوجها مختلفة حسب المناسبات وحسب الظرفية السياسية. فتارة يتجسد الشرفي الصحافيين والمؤسسات الإعلامية التي تنتقد سياساته (التي ينعتها بFake News )،وتارة أخرى يتمثل في خصومه السياسيين في الحزب الديمقراطي الذين يتهمهم بكونهم يجسدون النخبة المتعالية البعيدة عن المواطنين البسطاء، والمتآمرة مع الدولة العميقة التي تحاربه. وفي مناسبات أخرى يخلع ترامب صفة الشر على قوى خارجية تتآمر على زعامة ومصالح أمريكا مثل الصين وإيران.
تواصل مباشر
تمثل أول مؤشر لقياس نجاح الترامبية باعتبارها أسلوبا خاصا في التواصل السياسي الأمريكي، في عدد متابعي خرجاته الإعلامية. فقد كان الرئيس الأمريكي الأسبق يتوفر على 88 مليون من المتتبعين على تويتر، كما أن حصوله على أزيد من 71 مليون صوت خلال الانتخابات الرئاسية الأخيرة، بزيادة خمسة ملايين صوت عما حصده في مواجهة هيلاري كلينتون سنة 2016. وهذا الرقم القياسي الذي لم يحصل عليه أي رئيس أمريكي سابق من المعسكر الجمهوري أو الديمقراطي قبل انتخابات نوفمبر 2020، يؤكد أننا إزاء ظاهرة سياسية وإعلامية فريدة.
تميزالخطاب الشعبوي لدى ترامب بالابتعاد عن لغة الخشب، والتركيز على التشكيك في كلام النخب الاقتصادية والعلمية والإعلامية، مقابل الإعلاء من كلام أشخاص خارج المؤسسات establishment ،وتفضيل خطاب المؤامرة المزدهر على الأنترنيت حيث تتساوى القيمة العلمية لمن يتحدث بناءا على مستندات ومراجع وحجج، وبين من يطلق الكلام على عواهنه. فمنطق التشكيك في كلام النخب الاقتصادية والسياسية والإعلامية يصب الماء في طاحونة الخطاب المؤامراتي الذي يجد ضالته في أفكار وأطروحات مبسطة وسهلة الفهم وخاضعة لمنطق واحد.
خطاب المؤامرة لدى ترامب كان يلتقي ويتماشى مع الحضور القوي لنظريات المؤامرة Qanon في صفوف أعضاء الحزب الجمهوري والمتعاطفين معه بحيث كانوا ينشرون مزاعم من قبيل أن أسرة الرئيس جون بايدن “بيدوفيليون”،وبأن ترامب هو الوحيد الذي تصدى للاتجار بالأطفال. كما ظل هؤلاء يرددون بأن الديمقراطيين و”الفاك نيوز”(يقصدون وسائل الإعلام) سرقوا الانتخابات ولا أدل على ذلك، في نظرهم، كون ترامب تنبأ قبل إجراء الانتخابات بعدة شهوربسرقة الديمقراطيين لنتائجها، ولم يفلح تقدم بايدن بسبعة مليون صوت في الاقتراع المباشر وب306 صوت في المجمع الانتخابي مقابل 232 صوت لفائدة ترامب في تغيير تلك القناعة !
من جهة ثانية مكنت البراغماتية السياسية لترامب وللحزب الجمهوري من كسب تأييد فئات اجتماعية متنوعة: فالمحافظون الضرائبيون conservateurs fiscaux استبشروا خيرا من الإصلاح الذي أمنح امتيازات جديدة للمؤسسات والأفراد الأكثر غنى،وإن كان ثمن ذلك المزيد من تضخم العجز الفدرالي،والإنجيليون وجدوا أنفسهم في برنامج ترامب الداعي إلى الالتزام بالدفاع عن الحرية الدينية. وهي مواقف تعكس في مجملها تجذر “الثقافة العبودية”،إضافة إلى تصاعد نفوذ “اليمين الديني”والنزعة المحافظة عموما داخل المجتمع الأمريكي.
القاعدة الجماهيرية العريضة والشعبية الواسعة لترامب، ومن خلاله للحزب الجمهوري، شملت شرائح اجتماعية وعمرية ومجالية مختلفة من الولايات المتحدة الأمريكية(المدن التي يقل عدد سكانها عن مليوني نسمةمثلا)، كما أن مناصرو بيع الأسلحة ومنع الإجهاض وجدوا صدى لتطلعاتهم في خطاباته.نفس الأمر ينطبق على الفئات الاجتماعية التي تضررت مت إجراءات الحجر الصحي .فقد أظهرت بعض الإحصائيات نشرتها صحيفة “ليبراسيون” الفرنسية( بتاريخ 2 نوفمبر2020)، أن 18 بالمائة فقط من أنصار ترامب يعتبرون “الحد من انتشار كوفيد19 أولوية”، بينما اعتبر 68 بالمائة منهم أن الأولوية ينبغي أن تعطى لإعادة دوران العجلة الاقتصادية، ورأى 35 بالمائة منهم أن ارتداء الكمامة اختيار شخصي وليس بالتزام جماعي، واعتبر 68 بالمائة منهم بأن التغير المناخي لا يشكل مشكلا. نفس الموقف السلبي نجده إزاء معضلة التمييز العنصري بالبلاد، إذ اعتبر 75 بالمائة من الجمهوريين بكونه لا يمثل أية مشكل.من هنا تنحصر الحقيقة الوحيدة والأكيدة لدى اليمين المحافظ عموما وأنصار ترامب تحديدا في كونهم القوة الوحيدة التي تستحق حكم أمريكا !
قضايا متشعبة
أكيد أن ترامب لم يؤسس الخطاب الشعبوي بأمريكا، فهو يندرج ضمن التعبيرات عن الأزمات والتحولات الاقتصادية والسياسية والثقافية داخلها مثلما هو عليه الحال بباقي الديمقراطيات الغربية. لكن ترامب بالمقابل أجاد توظيفه لكسب أصوات الناخبين وترسيخ زعامته داخل الحزب الجمهوري.
فالخطاب الشعبوي اليميني المحافظ لدونالد ترامب ارتبط بتحولات داخل المجتمع الأمريكي وأخرى عالمية مثل تنامي القوة الاقتصادية للصين التي أصبحت تشكل خطرا على زعامة الولايات المتحدة على العالم في المدى المنظور. لذا تغذى ذلك الخطاب من الانقسام الحاد بل والقطيعة ما بين عالمين داخل المجتمع الأمريكي في التعامل مع قضايا لها راهنيتها وحساسيتها مثل حرية الإجهاض والانحباس الحراري أو تزايد الفقر والتفاوتات الاجتماعية ، وأخرى “هوياتية” كما هو الشأن في أن يصبح الأمريكيون ذوي البشرة البيضاء الأقلية الأولى في غضون 20 سنة المقبلة ، باعتبار أنه منذ سنة 2016 أصبح كل طفل من بين اثنان حديثي الولادة ليس من بشرة بيضاء.
في معرض تقييمه لسياسة ترامب وما نجم عنها من تعميق الهوة بين رؤيتين ومشروعين للمجتمع الأمريكي أكد الكاتب اليساري الأمريكي نعومي كلين Naomi Klein أنه “إذا اكتفينا بالتخلص منه،فإننا سنعود للوضعية السابقة السيئة جدا التي سمحت له بالفوز.لذا فمن الأولى محاربة الأسباب قبل التجليات”. من هنا فإن مهمة الإدارة الأمريكية الجديدة خصوصا، والحزب الديمقراطي عموما، لن تكون سهلة في مواجهة إرث ترامب وقبل ذلك الأسباب العميقة لنجاح الترامبية.
تعليقات الزوار ( 0 )