من البديهي اليوم القول إن فلسفة طه عبد الرحمن تستحقّ الصدارة في منظومة الفلسفة الأخلاقية، وأن سؤال الأخلاق الذي تصدّر بعثه الفكري المعاصر بات، بحد ذاته، ظاهرة عالمية، تقرع طغيان المادوية الشرس على حياة التصوّر الإنساني وأصل الوجود، ثم على كارثة تنحية كونية الروح في الوجود وفي الذات البشرية وفي السلوك. وحين نصف عبد الرحمن بأستاذنا عبر السطور فهو تجسيدٌ حقيقي لمعنى تصدّره هذا الرواق الفلسفي المهم للغاية، في زمن العالم الأخير.
ولست في وارد شرح فلسفته، وإنما في عرض تفصيل مهم أحسب أنه من أولويات الجيل الجديد، في دراسة فلسفة عبد الرحمن والتعقيب عليه مع بقاء مكانته العليا، وأحدّد هنا ما وقع في فهمي من دمج طه عبد الرحمن في نقده فلسفة الحداثة، لمسلكيْن مهمّين بينهما توافق، ولكن بينهما اختلاف كبير، وخصوصا في مآلات هذه الفلسفة التي سُمّيت ما بعد الحداثة، أو كانت تبعاً لسلطان الحداثة ذاتها، وبين فلسفة التنوير الأول ودوافعه، وأين هو مركز الانحراف في الرؤية النقدية للفلسفة الأخلاقية لهذا الجيل، مع فهم الدافع التاريخي في النصّ الديني والسلوك الكنسي المسيحي. وهو ما يقتضي تفصيلا مهما وتشريحا معمّقا، ربما اقتضى فهم حياة أولئك الفلاسفة ذاتهم، ثم قراءة نصوصهم ومنعطفاتها. ولكنني أختصرها هنا لتحرير موقفنا من فلسفة النهضة في الغرب، أهو مرفوض بالمطلق وباطل في كل قواعدها التـأصيلية، وخصوصا المتعلقة بالعمران الاجتماعي، أم هي عالم ضخم من البحث والتأمل، حاول الخلاص من بيئةٍ فاسدةٍ ضيّعت خطاب الدين الأصلي في وحيه ومركزه الروحي الرشيد، ثم استتبع الفساد والطغيان السياسي على مجتمعاتها، ودَمج بين النص الديني المحرف (وكهنوته) والسلطان السياسي، ففرّ أولئك الفلاسفة (في الجيل الأول) إلى نحت الدين الطبيعي في السلوك البشري، يبحثون عن الفطرة التي أنبتها الله في العالمين، وجاء الدين متمّماً ومرشداً لها في رحلة الأرض وصلاحها العمراني الأخلاقي، الذي لم يجده فلاسفة التنوير الأول، في نصوص المسيحية وما خالطها من وثنيّة الرومان والإغريق، فأصابوا في بعض رحلتهم وانحرفوا معاً.
ومع الجذر الذي قد يربط بين فلاسفة الحداثة العدمية الأخيرة وفلاسفة النهضة الأوروبية الأولى، وهو ما يفهم في “سؤال الأخلاق” لطه عبد الرحمن، إلا أن هناك تباينا مهما بينهما، هو من أولويات فلسفة الاستغراب الشرقية، التي تحتاج إلى اعتناء خاص يصعب فيه الإجمال، بل قد يترتّب على دمج المسارين خطأ كبير في التحرير، وفي التجريد الذي تحتاجه الأمم الشرقية، والقرية الكونية العالمية الباحثة عن الإنقاذ الأخير. وقد أدرج عبد الرحمن روسّو، في هذه النظرية، وقد قضيتُ زمناً في دراسة فلسفته وحياته، ونقده من خلال الرؤية الفلسفية الإسلامية، وبرز لي عدم دقة موقفه، وخصوصا بأنهُ في تدليله على موقف روسو استدلّ بعبارة التعبد للضمير، مؤشّرا إلى أن روسّو كان يعبد ضميره، وكأن الدين الطبيعي قد تحوّل إلى وثنية في ذاتية روسّو الروحية، صنمها الضمير، وهذا غير صحيح، وبالذات في اعترافات الكاهن سافوا، الممتلئة بالدلالات الإيمانية الروحية التي أثّرت في حياة روسّو.
ومع التأكيد على الفارق الكبير بين رؤية قلمي المتواضع وفلسفة طه عبد الرحمن، يقتضي الواجب العلمي وأمانته، وبالخصوص ما نراهن عليه اليوم، من دور الفلسفة الأخلاقية في حوار الحضارات وفي التنوير الرشيد للعالم، يقتضي منا التوقّف والمراجعة والنقاش، لتحرير مدار الخلاف مع الفلسفة الغربية المعاصرة أو حولها، وركّزتُ على روسّو بسبب قدرة التمكّن للتحرير، مع احتمال وجود تقارب مع فلاسفة آخرين. لكن لا بد للناقد من تحقيق أكبر مساحةٍ تمكّن لمواد فلسفتهم وحياتهم الشخصية، للقطع بوجهة النظر واستحقاقها للنقاش.
وأضيف إلى ذلك أن هناك مهمة تتجاوز رؤية طه عبد الرحمن ووائل حلاق، للعبور بفلسفة البناء الآخر لما بعد نقد الحداثة، تحتاج إلى العودة إلى تجريد التراث الإسلامي، والذي دعا إليه عبد الوهاب المسيري، لتأسيس الحداثة الرشيدة، والتي باشرها عبد الرحمن بالفعل، غير أنها لا تزال في طور تنظير أسس الانطلاق. ولكن هذا لا يكفي، فلا بد من انتقال الشرق إلى البديل التأسيسي المؤهل لفلسفة المعرفة الإسلامية، التي تتداخل بل تستبق وتدفع إلى حياة العمران والرشد السياسي والحقوقي لشعوب الشرق، وهذه حالة مرّت بها الفلسفة الغربية، فجزءٌ من تدافعها كان لنهضة قيم الحقوق وتحقيق موازين العدالة، قبل أن تخسف بها المادّوية المتوحشة، فهلكت قيم الروح في مجتمعاتها، وارتدّت على عدالة النظام الدستوري الذي سعى أولئك الفلاسفة إلى تحريره.
أين نحن في النقد المعرفي الأخلاقي من هذه المهام، وأين تقف فلسفة البناء في تفكيك تاريخ الفلسفة الغربية ومعطياتها، وقضية تأميم الحق الإلهي في تكيّة المستبدّ السياسي القديم والجديد، وأين هذا كله من أزمة الشرق الكبرى، وكيف عُطّلت مفاهيم الحضارة الإسلامية، وهنا مقصد المسيري في تجريد التراث للعالم الجديد، الذي ظل فارقه الأخلاقي ممتدّاً، وسُقيا روحه متدفقاً فكانت له بصمة خاصة، رغم سرقة الإسلام في بعض تاريخ المسلمين. فإن كانت هذه المهمة ليست من مسؤولية طه عبد الرحمن ووائل حلاق وحدهما، علينا واجب التحفيز لها، وتحرير المحاولات لعقدنا الاجتماعي ونظامنا الدستوري الحقوقي، الذي يُحقّق الائتمانية والرحمانية التي ينادي بها طه عبد الرحمن، ويطرحها محقّاّ كرؤية حوار حضارات مقابل مآلات فلسفة الحداثة، ولتُحرّر المصطلحات الجديدة لعبد الرحمن وغيره. لا حرج في ذلك، لكن الأهم كيف الوصول إلى قواعد تنظير عملية، تباشر الحياة الاجتماعية والحقوقية والسياسية والاقتصادية، التي يشعر بها الإنسان المعذّب من صلف الحداثة، ومن تزوير المستبدّ المتكئ على التراث.
تعليقات الزوار ( 0 )