ظهر الإمام محمد ديكو، وهو شخصية دينية ذات تأثير سياسي واسع في مالي، من جديد في الجزائر، مقدّما درسا حول العلاقات التاريخية بين الجزائر ومالي، في وقت تشهد العلاقات بين البلدين أصعب مراحلها، بعد إطلاق السلطة العسكرية الحاكمة في باماكو خلال الأشهر الأخيرة، اتهامات ضد الجزائر بالتدخل في شؤونها الداخلية.
وتأتي زيارة ديكو إلى الجزائر، بوصفه مرجعية دينية كبيرة في منطقة الساحل، حيث زار جامع الجزائر الذي دُشّن حديثا والتقى عميده الشيخ مأمون القاسمي الذي لديه رتبة وزير في الجزائر. والمعروف أن الزيارة السابقة للإمام المعروف بانتقاده للسلطة العسكرية الحاكمة في باماكو، قد تسببت في توتر في العلاقات بين الجزائر وباماكو في ديسمبر الماضي، خاصة بعد استقباله من قبل الرئيس عبد المجيد تبون، وهو ما احتجت عليه بشدة سلطات باماكو في ذلك الوقت، وتصاعد الأمر بشكل غير مسبوق إلى ما يشبه الأزمة.
وبدا من خلال الكلمة التي ألقاها الشيخ ديكو في جامع الجزائر، محاولة إعادة الأمور إلى نصابها بين البلدين، بالنظر إلى التاريخ الهائل المشترك بينهما. وركّز الشيخ في حديثه على الأُخوّة الإسلاميّة، وعلى العلاقات التاريخية العلمية التضامنية بين الجزائر وإفريقيا. وشكر الجزائر، عن الدّور الذي تقوم به من أجل إفريقيا، في إحلال السّلم وفضّ النزاعات والدفاع عن الشّخصية الإفريقية وحرية اتخاذ القرار. كما تحدّث عن العلاقة الأخوية القوية بين الجزائر والماليين، مبرزا أثر علماء الجزائر على المنطقة، وبالخصوص أهل توات (جنوب الجزائر)، ومنهم سيدي المختار الكنتي القادري، وقبله الإمام محمد بن عبد الكريم المغيلي، وأن تمبكتو وغاو وباماكو تشهد على هذه العلاقة العلمية.
ويلي ظهور الشيخ ديكو، تصريحات الرئيس الجزائري عن العلاقات مع دول الساحل خاصة مالي والنيجر. وقال تبون في حواره الدوري مع الصحافة الجزائرية، قبل يومين إن بلاده لم تفرض نفسها ولا مرة على مالي والنيجر وتم التعامل معهما منذ الاستقلال على أساس “مبدأ حسن الجوار”. وذكر أنه كلما اندلع نزاع في الجارة مالي، كانت الجزائر تتدخل لتصلح بين الفرقاء “وهو ما دفع بهيئة الأمم المتحدة لطلب منا التنسيق من أجل المصالحة بين الأطراف المالية”.
وحول التطورات الأخيرة خاصة إلغاء مالي العمل باتفاق المصالحة في الجزائر، قال الرئيس الجزائري، إنه إذا رفضت الأطراف في مالي أو النيجر اليوم أداء الجزائر فلديها كل الحرية في تسيير شؤون بلادها، مجددًا التأكيد على أن الجزائر لم تكن يومًا دولة استعمارية أو استغلالية للثروات أو البلدان “وإنما تتعامل على أساس أننا دول شقيقة”، مذكرًا بأنه تمت برمجة إنشاء مناطق حرة مع هذه الدول، بالإضافة إلى مجالات التكوين في الجيش والطلبة وغيرها.
ولفت الرئيس تبون إلى أن الجزائر “تقدم خدماتها لجيرانها دون أن تمن عليهم فهذا بالنسبة لها واجب تجاه أشقائها”، مشيرا إلى أن “الإنسان العاقل يمكن أن يستوعب خطورة التدخل الأجنبي وإلى أين قد يوصل على الرغم من أنه لا يمكننا فرض أو لوم أشقائنا على اختياراتهم، غير أن التجربة التاريخية تؤكد أن أي تدخل أجنبي في المنطقة يزيد من صعوبة إيجاد الحل”. وكانت الجزائر قد انتقدت علنا وجود ميليشيات فاغنر الروسية في مالي وتحدثت عن رفضها لكل وجود أجنبي في دول الجوار.
وتابع الرئيس الجزائري يقول: “أنني أشهد أن الجزائر لم تكن لديها أي أطماع أو تمارس الضغط على الأشقاء في مالي، فالجزائر ارتأت أن الصلح والمصالحة الوطنية بين الأطراف في هذا البلد هو الحل الوحيد”، مبرزا أن الجزائر في إطار مساعيها ذهبت إلى أقصى مدى “في الدفاع عن الوحدة الترابية لمالي ووحدة الشعب المالي وإلى يومنا هذا لا تزال تعمل في هذا الاتجاه”. ولفت إلى أن هناك أطراف تريد تطبيق أجنداتها في المنطقة، معيدًا التأكيد على أن “الجزائر لم تمثل في يوم من الأيام أي خطر على جيرانها”.
وفي 26 يناير الماضي، أعلن المجلس العسكري في مالي، إنهاء العمل بشكل فوري باتفاق الجزائر للسلام الذي يعود لسنة 2015. وذكرت السلطات العسكرية المالية في بيان على التلفزيون الرسمي إنه لم يعد من الممكن الاستمرار في الاتفاق بسبب عدم التزام الموقّعين الآخرين بتعهداتهم و”الأعمال العدائية” التي تقوم بها الجزائر، الوسيط الرئيسي في الاتفاق، على حد قولها. واستندت السلطات المالية على استئناف عدد من الجماعات المسلحة عملياتها العسكرية ضد الجيش المالي في شمال البلاد بعد ثماني سنوات من الهدوء. ونتيجة لذلك، قال المجلس إن ما يسمى باتفاق الجزائر لم يعد قابلا للتطبيق. وأعلنت الحكومة “إنهاء العمل بالاتفاق بأثر فوري”.
وكان ذلك متوقعا في سياق الأزمة المفاجئة التي شهدتها الجزائر وباماكو، منذ ديسمبر الماضي، بعد أن قررت السلطات المالية سحب سفيرها. وردت الجزائر في ذلك الحين، باستدعاء سفير مالي لديها، وإبلاغه عن طريق وزير الخارجية شخصيا أحمد عطاف، بأن كافة المساهمات التاريخية للجزائر في تعزيز السلم والأمن والاستقرار في جمهورية مالي كانت مبنية بصفة دائمة على مبادئ تمسك الجزائر الراسخ بسيادة مالي وأن الحلول السلمية هي الكفيلة بضمان الاستقرار في البلاد.
وتفجّر الغضب المالي بعد الاجتماع الذي دعت إليه الجزائر بين الأطراف المتصارعة في مالي، واستقبال الرئيس تبون في الجزائر العاصمة، الإمام محمود ديكو. وفي هذه النقطة، وقع الخلاف، فقد اعتبرت الجزائر أن هذه الاجتماعات التي تمت مع قادة الحركات الموقعة على اتفاق السلم والمصالحة في مالي المنبثق عن مسار الجزائر، تتوافق تماما مع نص وروح الدور الجزائري. بالمقابل، احتجت الخارجية المالية على كون هذه الاجتماعات “أفعال غير ودّية” و”تدخل في الشؤون الداخلية” لمالي.
وقادت الجزائر وساطة لعودة السلام إلى شمال مالي بعد “اتفاق الجزائر” الذي تم توقيعه في 2015 بين الحكومة المالية وجماعات مسلحة يغلب عليها الطوارق. ومنذ نهاية أغسطس الماضي، استأنفت هذه الجماعات المسلحة عملياتها العسكرية ضد الجيش المالي في شمال البلاد بعد ثماني سنوات من الهدوء. ويتنافس المتقاتلون من أجل السيطرة على الأراضي والمعسكرات التي أخلتها قوات حفظ السلام التابعة لبعثة الأمم المتحدة المنتشرة منذ 2013 في هذا البلد، والتي طردها الجيش منذ استولى على السلطة في انقلاب عام 2020.
(القدس العربي)
تعليقات الزوار ( 0 )