شارك المقال
  • تم النسخ

رسالة إلى زميلي اليساري

أشكرك زميلي (ح.م)  المحترم جدا ، وباقي الزملاء المنتمين لنفس المدرسة .

 لقد كشفتم  لي عن كريم معدنكم ونبل اخلاقكم وصدق مشاعركم ، وابنتم لي عن علو كعبكم وكيف لا وانتم يشهد عليكم  تاريخكم وماضيكم وحاضركم  النضالي   والحقوقي والفكري ،

وقد أبنتم  لي عن فكركم الراقي ولغتكم البليغة والفصيحة المتناسقة المتراصة والمليئة بالمعاني العميقة.

 لقد كانت تعليقاتكم متميزة  تنم عن فكر متوثب ثاقب، صارم وذلك من بديهيات الامور  فقد تربيتم في مدرسة تؤمن بالعلم والعقل ، ولذلك فإنني ابوح لكم بمحبتي   وتقديري .في أي  مكان كنتم او ضفة اقمتم.

 واقول لكم  أن الاختلاف لا يفسد للود قضية وإنني دنيويا وأرضيا اؤمن بما تؤمنون به مع بعض الاختلافات والتفاصيل الصغيرة التي لا تمس بالجوهر والاهداف المرجوة ،

 فأنا اؤمن بفصل الدين عن الدولة.سياسيا وليس أخلاقيا، على اساس ان لا يكون هذا الفصل فصلا كاملا  وتهائيا ،وعلى أساس الاعتماد في الحكم وقيام الدولة على الدين القيمي .

 فقد فشلت كل  التجارب الحديثة والقديمة كتجربة الفتنة الكبرى وتجربة الامويين والعباسين والصفويين والسلاجقة والمماليك والعثمانيين وتجربة الاخوان المسلمين   وحركات الاسلام السياسي  ، في الشرق والغرب .

فشلت كل هذه التجارب  في تحقيق العدل والرفاهية. والاستقرار ،وضمان كرامة الإنسان وهذا الفشل لم  يكن  مرتبطا بالمسلمين فقط ولكن كان سمة  الحكم المطلق الفردي الاستبدادي في كل العصور الوسطى ، لكن الأمم الأخرى استطاعت  الانفلات من الماضي وتحقيق الدولة الحديثة المتقدمة ،

 وبالعكس  فقد تسبب اقتران هذه الدول القديمة  بالدين في كوارث تاريخية وحروب دموية  ,لأن  هذه الدول قامت بفهم بشري  وثوقي يختبأ وراء المقدس ، والدين بريء من أخطائها  وفشلها، وفي مثل هذا النوع من الدول  ، سيطر  االملوك واالأقوياء على الحكم باسم الله  ، فقد قال ابو منصور السفاح العباسي انا ظل الله في الارض ويذكر الطبري في كتابه تاريخ الأمم والنلوك وابن الأثير في الكامل في التاريخ ان السفاح استضاف أمراء بني أمية في قصره بعد أن اعطاهم الأمان ، وجلسوا ياكلون على مائدته، وبعد ان شبعوا قام بقتلهم ، جميعا وغطاهم بالإزار، وجلس يكمل اكله في شهية ومثله من الطواغيت من اخرج جثث المعرضين من القبور وقام بصلبه وحرقها

وقد كان الامويون والعباسيون  معتمدين على الحتمية القدرية وانه لا يتم في ملك إلا  ما أراد الله والحال ان الله على خلاف ذلك منح للانسان حرية الإرادة الإنسانية وحرية الاختيار حتى يكون التكليف قائما على اساس منطقي ، ويكون الجزاء والعقاب قائما على العدل الالهي المطلق وليس على العبث فهو لا يمكن ان يقدر ويكتب على عباده الاقدار وفعل الشر ثم يحاسبهم على ذلك حاشا في حق الله أن يكون ظالما ،

 اعتقد ان الدين والتدين ضروري  كتجربة روحية جوانية داخلية من أجل الانعتاق والخلاص وتطهير النفس والقلب وربطه بالله ودعم  علاقة الفرد مع ربه.

 أما بالنسبة لامور الدولة والسياسة فإن الله ترك لنا باب  الاجتهاد مفتوحا فهو لا يمكن ان يلزمنا بقواعد تنتمي الى فترة  من الفترات التاريخية والحالة ان التاريخ يتطور ، والرسول  صلى الله عليه وسلم مات ولم يترك شكلا محددا للحكم ، وأن ما تم في عهد أبي بكر  رضي الله عنه بالشورى كان مختلفا عن ما تم مع عمر رضي الله عنه بالتعيين ، وهو مختلف بدوره عن ما تم مع عثمان  رضي الله عنه بقرار  أهل الحل والعقد  ولجنة التشاور ،السداسية  وهو كذلك ما لم  يتم مع علي كرم الله وجهه من الحكم بالأغلبية وكل ذلك كان مختلف عن ما تم مع معاوية والملك الجبري الوراثي والدولة العباسية والحكم المطلق وكل هذه الاشكال من الحكم ليست من أصول الدين ولا أركانه وإنما كانت اجتهادات البشر ، أعتقد أن الله ارسل الرسل والانبياء  من أجل توحيد الألوهية وعبادة الواحد الاحد وهي رسالة كل الاديان .

ولكن ورغم ذلك  فإنه يكون من اللازم  اعتماد القيم الدينية كالوفاء والأمانة والصدق وذاك  لقول الرسول ص انتم ادرى بشؤون دنياكم اما التجارب التاريخية فهي تجارب بشرية وليست توجيهات الآهيا

.

، وأؤمن بالدولة المدنية الديموقراطية الإشتراكية الاجتماعية ذات النزوعات الإنسانية  وفق ما توصل اليه الفكر العلمي في آخر اجتهاداته ، ،

 كما  أومن بحقوق الانسان كما هي متعارف عليها عالميا ،مع بعض التحفظ  في بعض القضايا ،فيما يتعلق بالمثلية  لأنها ضد الطبيعة والفطرة البشرية  وهذه المثلية اعتبرها مرضا نفسيا يستلزم التدخل العلاجي وليس الإقصائي ،فالمثلية أعتقد انها  مثل  الانفصام والذهان  وغيرها من الامراض،  وكذلك كل ما يتصل بقضايا الاعدام والتي ارى انها ترتبط بتطور وتغير الظروف وانتشار الجرائم البشعة واغتصاب الاطفال ،

 نعم زميلي اعرف انه ليس العقاب كافيا لمحو الجريمة ، كما قال ميشيل فوكو  في كتابه ميلاد مؤسسة السجن ، ولكن  الإعدام مع ذلك يمكن ان يحقق الردع العام ، وعلى العموم يمكن التخلي  والتراجع عنه بعد ارتفاع اسبابه و تحقيق دولة الرفاهية والحقوق ،

واعلن لكم أنني أومن بالحقوق النسوية لأن المرأة كائن مساوى للرجل وينبغي الاجتهاد في النص الديني بما يلائم تحقيق حقوقها ، وذلك ممكن بالتأويل، فكلام الله حمال أوجه ولا تنتهي حقيقته وأسراره ، وإلا لما كان كلاما إلاهيا ، فهذا  الكلام  ليس مرسلا فقط للناس في القرن السادس أو الثامن أو العاشر الهجري وإنما  هو مرسل للعالمين وهو كالترسبات والتركمات الجيولوجية والاركيولوجية فكل فترة تتحدث وتكشف عن  وقائعها واحداثها  وقد درسنا في مادة العلوم أن كل طبقة . تخزن فيها تاريخيا بيولوجيا وكذلك طبقات القرآن ،يخزن فيه اسرار  ولهذا يخطأ الشكلانيون التقليدانيون  لانهم لا يرون إلا من خلال عين وطبقة السلف وذلك عصر قد مضى وولى ، لكن كلام الله مستمر في كشف معاني رسالته ما  استمر الوجود  وبيان  أسراره ، فهو حمال أوجه كما قال علي كرم الله وجهه ،

وأخيرا أقول والله اعلى وأعلم وقد حكى هذا القول الجاحظ العقلاني الاعتزالي  أن أي رجل صالح من الاخيار هو  بالضرورة  من الناجين الفائزين  ، لأن المقصود الإلهي ان يؤهلنا للانسان الأسمى على حد قول نتشه، وإلا لما استخلف في الأرض الانسان ،وقد كان بقربه الملائكة الذين يسبحون ويعبدون الله ويفعلون ما يؤمرون ، ولكنه أجابهم بعد استنكارهم أنه يعلم ما لا يعلمون .

وفعلا كذلك كان ،

ولذلك سينجو معظم الخلائق من الأخيار الصالحين  ولذلك يقول الله تعالى:(إن الذين آمنوا  والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر  وعمل صالحا فلهم اجرهم  عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون)صدق الله العظيم

و كما  قال أيضا  :

(مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ ۚ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا) صدق الله العظيم

 وفي هذا المقام اقول انه لا  اعتقد بالنسخ جملة ، والله أعلم  فهو مسألة اجتهادية اختلف العلماء في عدد الآيات المنسوخة.

والإمام صلاح الدين الصفدي الأديب المؤرخ من علماء القرن التاسع الهجري وهو صاحب كتاب الوافي بالوفيات وكتاب اعيان العصر ،  قال في تفسيره كشف  الاسرار وهتك الاستار ، بإنكار النسخ ،

 وكيف ينسخ الله كلامه وهو المكتوب  منذ الازل فهو لا يمكن ان يعدل بالزيادة  أو النقصان لان ذلك يسقطنا في إشكالات منطقية اما  المقصود من الآية  التي تقول ما ننسخ من اآية  او ننسها  ناتي بمثلها أو خير منها  ،

فقد قال احد المجتهدين أن النسخ هنا ليس الإزالة والإلغاء  وإنما التصوير والنقل  وان المقصود  بالأية هنا هو ليس السورة  وإنما الظاهرة  الكونية كآية نزول المطر مثلا  فتقول ننسخ أي ننقله ونكرره والمقصود  من ننسها ليس النسيان وإنما التأخير .ومنها النسيئة .

  وقد يكون النسخ هو التدرج في كشف الاحكام.

 لا يمكن إلغاء كل كلام الله العقلاني الإنساني الرحماني بأحاديث الآحاد ، وهي كلام بشري أدنى في الرتبة والدرجة من كلام الله  وكلام  الله كله صالح لكل الازمان ولا يمكن إلغاء أيات الرحمة  لصالح  ايات السيف التاريخية المرتبطة بأسبابها ، ومنها مسألة ما ملكت ايمانكم  ، والتي كانت مقبولة في العصور الوسطى حين كان الضمير الانساني يقبل حصول ذلك ولكنها الآن من الجرائم ضد الإنسانية .

 ، ولكن الله كشف عبر كلامه عن بعد آخر لنا ,  ولم يعد  مقبولا خطف السبايا والتسري بهم كما فعلت داعش مع الازيديات ، فالله   هو الحق والعدل ولا يمكن ان يرضى بالظلم والرسالة تتطور بتطور التاريخ ، حسب فهم وأمكانات كل فترة وحسب الحد  الفكري والابستيمولوجي .

ومنكروا النسخ في القرآن علماء كثر منهم على سبيل المثال لا الحصر  ابو مسلم محمد بن بحر الاصبهاني  المعتزلي المتكلم اللغوي المحدث المتوفى 322 ه  صاحب كتاب جامع التأويل لمحكم التنزيل ، وكتاب الناسخ والمنسوخ ومنهم ابن الجنيد  والشيخ محمد عبده ، والشيخ رشيد رضا والشيخ محمد الغزالي المصري وعدد آخر من العلماء ،

لا يمكن التضحية بآيات الرحمة لصالح آيات السيف .والله اعلم بالحقيقة فإنما هو اجتهاد متواضع مني فإن أصبت فلي اجرين وإن اخطات فلي اجر الاجتهاد .

انا يا زميلي لا اتحدث عن هذه الوقائع في الزمن الغيبي كوقائع وحوارات مشخصنة ولكنني اتحدث عنها  رمزيا وهي خارج التصور والادراك البشري لانها تمت في منطقة خارج العقل النظري ، المادي المحسوس ،

  ولذلك فإن الله بعلمه وقدرته  استخلف الأنسان في الأرض رغم خطا آدم وقد تحقق الهدف فحمل الامانة

 هذا الانسان العظيم وكما عنه الشيخ ابن عربي الانسان كون صغير والعالم إنسان كبير

وقد أضاء  الأرض بعد الظلام  والسكون  وواصل، الحلم هذا المخلوق الضعيف العريان ،  غير وجه الكون واقام   الحضارات والعلم والعمران وبنى الدول وكفر وآمن ، واكتشف المكتشفات واخترع اعظم الاختراعات التي لم تكن تخطر على البال من السيارات والطائرات والهاتف والانترنت  والوصول إلى القمر ، ولا زال  مستمرا في تحقيق الهدف من الخلق

،وأومن كذلك ان الباحث المجتهد إذا استعمل عقله وهو هبة الله ، وحقق المسائل تحقيقا علميا ووصل إلى الالحاد أو الكفر او اللاأدرية فإنه معذور لأنه استعمل العقل النظري حيث لا يجب  ان يستعمل ،فهو يكون كم يزن بميزان الذهب البطاطس ، لأن امور العقائد من وجود الله وغيرها من الامور  العقائدية الغيبية  والتي تقع خارج إدراكات العقل البشري النظري المادي الذي يعتمد التجربة والملاحظة , لان حاصل ذلك أن الله هو خالق  الزمان والمكان وهو يقع خارجهما ، ولا سبيل لإدراك وجوده إلا بالاستدلال على أسمائه وأثاره ولا سبيل لإدراكه الا بالإحساس القلبي ، والتجربة الروحية الفردية. ، نعم انا لم أجده بالادلة والحجج العلمية المنطقية والبرهانية إلا في فترات قليلة  حسب ما ظهر. لي من دليل الغائية ودليل النظام ودليل السببية ،  ولذلك تشككت وجدفت ، في فترة من فترات حياتي لكنني رجعت وآمنت .

 ولذلك ومنذ وعيت وأنا أبحث عنه بين الكتب فوجدته أحيانا واختفى عني أحيانا أخرى لكنني اكتشفت ان الطريق الذي كنت اسلكها طريق خاطئ وان السبيل إليه هو ان  اجلس الى الارض واغمض عيني واستنسق الهواء  وبهدوء

 وفعلا رفع عني الغطاء وكشف الحجاب فاحسست بحضوره الطاغي ، المهيمن ،وللإمام الرازي تجربة مشابهة فقد دلل على وجود الله بألف دليل لكنه انتهى إلى القول بالحيرة ، ودعا الله أن يرزقه إيمان كإيمان العجائز .

حقيقة لقد  رفع  عني الحجب التي تحجبه،وهو ليس الها  مشخصنا  يجلس في مكان ما   على كرسي فالله ليس كمثله شي وهو منزه عن الحوادث ،  لأنه يستحيل  ان يحتويه مكان  او يحيط به زمان وهو ليس محدودا  بحد  أو جهة فهو محايث للعالم وليس داخله موازي له  ومسيطر عليه  ، لأن وجوده هو الوجود  الحق ووجود العالم محدث وكل حادث هو بالضرورة فان.

هو ليس مثلنا هو قوة عظيمة مدركة مريدة، حية، عالمة، مهتمة بشأن العالم بدون كيفية او وضعية وسنعلمها جميعا بعد حين ،

وليس العالم الآخر ماديا ملموسا كما يتصور العامة والناس البسطاء ،لان ظهور الله وتجليه له تمظهرات  تختلف درجاتها من الإنسان الأمي  البسيط الى العارف والمفكر والفيلسوف والملحد والمؤمن  ، فالله له تمظهرات حسب رقي الإدراكات فكل يعرج إليه بمعراج ،

وكل ما قلت إنما هو اجتهاد مني فإن أصبت فالحمد لله وإن أخطات فالله يغفر لي خطأي، ، والله تعالى أعلم وأعلم.

زميلي العزيز اعتذر كثيرا على الإطالة في مواضيع قد لا تثير اهتمامك أو أنها لا تتمتع بالاولوية عندك فأنت مشغول بأسئلة الحياة ، ولكنها المحبة والرغبة في التواصل والكشف عن أوجه الاتفاق والاختلاف.  .انا شاكر لكم اهتم.

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي