صوت ملائكي صدح بتلاوة آيات الذكر الحكيم يترجل إلى دار البقاء. صوت جهري عريض وعالي الطبقات، ذو شجن وحنين أذاق الناس حلاوة القرآن وفتح عقولهم وقلوبهم لتدبر أعماقه، عبر بقاع العالم الإسلامي والعربي. صوت أراح السميعة في مأثمهم وأيضا في أفراحهم على مدار العام. صوت نقش اسمه بعمق إلى جانب عظام القراء في مصر أمثال محمد رفعت، محمد صديق المنشاوي، محمود الحصري وعبد الصمد عبد الباسط وغيرهم.
إنه شيخ القراء ونقيبهم في مصر، آخر مجودي كتاب الإسلام من الزمن الجميل، إنه شيخ التلاوة المصرية محمد محمود الطبلاوي. كان قدر هذا القارئ العظيم أن تتخطفه يد المنون في شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن.
قدّر الله أن تنتهي حياة آخر القراء العظام في مدرسة التلاوة المصرية، الشيخ محمد محمود الطبلاوي الذي ظل يمتّع بصوته السامعين على مدى سبعة عقود.
وعلى مائدة الإفطار أخذ يسامر أفراد أسرته فردا فردا، وبعد أن انتهى الجميع من الإفطار، واستمر السمر، التفت الشيخ إلى ولده الصغير عمر البالغ من العمر عشر سنوات، ودعاه إليه، واحتضنه طويلا وقبّله، ثم أوصاه الوصية الأخيرة بضرورة استكمال حفظ القرآن، لأنه سبيل النجاح والنجاة.
ستة وثمانين عاما حملها نقيب القراء الراحل فوق ظهره، وهو صاحب الأسلوب الفريد الذي ميزه عن غيره طوال عقود، وحقق حلم أبيه محمود الطبلاوي، الذي رأى في المنام من يبشره بطفل وحيد سيكون له شأن بالقرآن.
رحلة بدأت بحلم رجل بسيط في منطقة ميت عقبة بالقاهرة، هو محمود الطبلاوي، بأنه سيُرزق بطفل حافظ للقرآن، وفي أواخر عام 1934 ولد محمد، فلما بلغ الرابعة من عمره ألحقه والده بكتاب المنطقة، وهنالك لاحظ الشيخ غنيم شيخ الكتاب جمال صوت الطفل قبل أن يتم حفظ كتاب الله في العاشرة من عمره، لتمر الرحلة بمنعرجات بلغت ذروتها بقراءة القرآن في جوف الكعبة، كما لم يفعل قارئ من قبل.
هذه الواقعة التي لم يفتأ الشيخ الراحل يفاخر بها محدثيه، ويقول “لقد شممت ريح الجنة حينها وأنا أقرأ القرآن في جوف الكعبة في رمضان”.
حدثت هذه الواقعة فترة السبعينيات حينما كان جالسا مع الملك السعودي الراحل خالد بن عبد العزيز آل سعود فاصطحبه معه لغسل الكعبة، ثم طلب منه قراءة قوله تعالى “إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً” إلى نهاية الآيات.
لم يتخيل إمكانية تحقق هذا الحلم ذلك الفتى القارئ الذي بدأ نشاطه قارئا متجولا في مناسبات عامة بمحافظة الجيزة وما حولها، واشتهر بحلاوة صوته وتفرد طريقته وطول نفسه، فباتت العائلات الكبيرة تتسابق لحجزه في مناسباتها.
بدأت رحلة الطبلاوي مع التلاوة في المناسبات وهو في الثانية عشرة من عمره، مقابل عشرة قروش لليلة (الجنيه يتكون من 100 قرش وكان القرش ذا قيمة وقتها)، ثم بات يدعى للتلاوة في مآتم لكبار الموظفين والشخصيات البارزة والعائلات المعروفة بجوار مشاهير القراء الإذاعيين قبل أن يبلغ الخامسة عشرة، وارتفع أجره إلى خمسة جنيهات.
ووقعت نقطة التحول الأبرز للشيخ باعتماده في الإذاعة المصرية عام 1970م، وهناك سجل الشيخ المصحف المرتل والمجود والمعلم، وفي حواراته المتعددة للصحف، كان الطبلاوي يؤكد أن “الإذاعة لها فضل كبير على أهل القرآن”.
كان الشيخ مشهورا قبل التحاقه بالإذاعة، التي زادته شهرة، وساعدته على السفر إلى مختلف دول العالم.
يروى عن الشيخ حكاية لها شهود عيان، ووقعت في العاصمة الإيطالية روما، بعد ترتيل القرآن بالمجلس الإسلامي بالمدينة، دعاه البابا يوحنا بولس الثاني بابا الفاتيكان للقائه، فوافق على شرط واحد أن يلتقيه البابا أمام المصعد تقديرا للكتاب الذي يحمله الطبلاوي، ووافق البابا.
أما في أميركا فقد شهدت إحدى قراءاته هنالك إسلام العشرات على يديه عقب انتهائه من القراءة، كما ذكر بنفسه في أحد حواراته.
وبدا أن السبعينيات مثّلت عصر الانطلاق الكبير للطبلاوي، حيث اختير قارئا للجامع الأزهر، في تحقيق لأمل قديم ظل يراود الشيخ ويدعو الله أن يحققه، وعلم لاحقا أن وزير الأوقاف وقتها طلب كشوف المتقدمين ولم يجد اسم الطبلاوي بينها فأمر بوضع اسمه وجعله مقرئا الأزهر.
لاحقا صار الطبلاوي نقيبا لاثني عشر ألف مقرئ في مصر، ورغم ضخامة العدد فقد أعرب الطبلاوي في تصريحات عديدة له عن أسفه لـ “فوضى” القراءة، حيث فتحت الفضائيات الباب لقراء غير معتمدين، كما لم يعد للمستمعين قارئ يعرفون موعد إذاعة قراءته فينتظرونه، كما كان الأمر سابقا.
ومع هذا العدد الكبير للقراء، صار نقيبهم وشيخهم يتأسف لتردي أحوالهم المادية، وانعدام الخدمات المقدمة لهم، لذا انصرف أصحاب المواهب والأصوات الجميلة عن المجال ولم تعد الساحة تشهد بروز أصوات بروعة السابقين، بل صار معظمهم مقلدين للسابقين، لا سيما مع اختفاء منظومة الكتاتيب التي كانت تفرز حفّاظاً للقرآن يكون من بينهم أصوات نادرة.
وفي نصائحه للمقرئين الجدد، ينصح الطبلاوي بالقرب من الله سبحانه وتعالى وبالتقوى والسخاء والزكاة عن نعمة الصوت الحسن، واليقين بأن القرآن له كرامات دون حصر.
وباستثناء الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، امتازت علاقة الطبلاوي برؤساء مصر المتعاقبين بالتقارب، وكان الرئيس الراحل أنور السادات هو أكثرهم حرصا على تقريب الشيخ الراحل إليه والاستماع منه، وكشف في أحد حواراته القديمة عن أمنية لم تتحقق وهي زيارة القدس برفقة السادات نهاية السبعينيات.
وتلقى الطبلاوي دعوة وحيدة من الرئيس مبارك للقراءة في عزاء حفيده في القصر الجمهوري لثلاثة أيام، ووصفه الطبلاوي في أحد حواراته بأنه “سمّيع للقرآن”.
ورغم هذا التقارب مع السلطة أبدى الطبلاوي في تصريحات عديدة ألمه من عدم تقديره بالتكريم داخل بلاده، رغم تكريمه خارجها.
وقد كان الشيخ الطبلاوي دائما يقوا “القرآن يجمع البركة وينير القلوب ويحفظ البشر ويعطيهم الأمان والقناعة، هذه الثروة الحقيقية التي لا جدال فيها، والقرآن الكريم أسعدني وكرمني وأعزني مع الزعماء وأحياني حياة كريمة”. رحمه الله وأسكنه فسيح جناته.
تعليقات الزوار ( 0 )