حينما كنت أتفحص في ذلك السلوك الراقي للفقيد، وما كان عليه من أخلاق، وما حازه من ضمير وطني صادق متعفف ومتجرد، وما بذله من مواقف صلبة وصامدة، قبل استقلال البلاد في مرحلة الكفاح، وبعده في مرحلة البناء الوطني، كنت أجد لذلك جذرا وأصلا في تنشئته وتربيته، ففي سنه الرابعة من طفولته، وبعد يتمه من والدته الودغيرية النسب، تكفل برعايته زوج عمته، وهو الفقيه العالم الحاج محمد الحجوجي، والذي كانت له زاوية علم وتصوف في مدينة دمنات، يدرس فيها أحاديث الإمام البخاري، ويقيم فيها حفلا للختم من كل سنة، يحضره كبار علماء المغرب، وكان الرجل من أعلام الوطنية وشهدائها، إذ لما أرغمته سلطات الاستعمار وأذنابه على توقيع عريضة خلع الملك محمد الخامس، دعا الله دعوة أن يقبض روحه ولا يقع في هذا العمل الخياني الخسيس، ففاضت روحه من ليلته، دون أن يوقع العريضة المشؤومة ودون أن يمالئ الخونة على غدرهم.
وفي هذه البيئة تشرب الطفل سقي الصدق والعلم في الدين والوطنية والإباء، وفي يفاعة فتوته وعندما نزح إلى الدار البيضاء، كان له شرف التلمذة والتوجيه على يد واحد من عظماء الوطنية وقادة كفاحها المرحوم بوشتى الجامعي، وكان له شرف الرفقة والصحبة مع سيد الشهداء المغاربة، وقائد العمل الفدائي محمد الزرقطوني.
هكذ نشأ الحاج الحسين برادة، وهكذا عاش مع الجيل الذهبي الفريد في تاريخ الكفاح الوطني، الذي صدق رجاله ما عاهدوا الله عليه، ولذلك حينما يتحدث كاتب أو باحث أو مؤرخ أو معجب عن هؤلاء الأهرام في الكفاح والجهاد والوطنية، ففي ذلك الحديث عبرة وقيمة وغناء، ولكن أن تجالس هرما من أهرامها وأبطالها في مثل هالة المرحوم برادة، فتسمع لحديثه عن بطولات التحرير، ففي ذلك متعة الروح، ولذة الحياة، وبلسم النفس، بما تشتفي منه الذات التي تحن إلى جذرها وأصالتها، الأصالة التي نبتت في تربتها الأمة المغربية المتجددة، حينما انبثقت حية، بفضل مثالية هؤلاء الرواد العظام والعمالقة الأبطال، الذين علموها التمرد على الأغلال، أغلال الاستعمار البغيض، وألهموها الانتفاض على الأوهاق، أوهاق القهر والعبودية والإذلال، فنهضت متحدة على قلب رجل واحد، ملتفة حول منهج دقيق من دعامتين عظيمتين راسختين: الاستشهاد أو عودة المغرب إلى استقلاله والملك الشرعي إلى بلاده وعرشه.
في رحلة الحكي القيم النبيل، الذي كانت تجود به ذاكرة الحاج الحسين برادة، وتفيض به سجيته، بالعرفان لأولي السبق والفضل بفضلهم، بما يثير الشجون والأشجان، ويزرع الحياة في أحداث ومراحل ومحطات، من تاريخ ماجد تليد لمغرب ناهض أبي، في هذا الحكي يستشعر السامع حقا لذة الاعتزاز بالانتساب إلى الأمة المغربية العظيمة، التي أنجبت ذلك الرعيل الأول من رجالات الجهاد والكفاح الوطني، الذين حينما أعلنوا الكفاح المسلح في وجه الغاصب الفرنسي المقيت، المدجج بالسلاح والجبروت والعتو، لم تكن لهم من قوة، سوى أرواحهم، التي أودعوها أكفهم، وبضع رصاصات ومسدسات صدئة، ولكنهم كانوا جبالا شاهقة، معانقة إرادتهم للثريا في علياءها، بما كانوا يملكونه من الهمم والمطامح الغالية، والصمود الأسطوري الراسخ، والعزم الفولاذي الثابت المصمم على قطع دابر الاستعمار ودحر وجوده.
وعلى درب القيادة الأولى الاستشهادية للمقاومة، تتالت أفواج الفدائيين الذين عطروا ثرى البلاد بدمائهم الزكية، شهداء تحدوا الموت الزؤام، ومعذبين صابرين، قهروا آلات التعذيب الوحشية لجلاوزة الاستعمار في السجون والمعتقلات، ومقاتلين أشاوس واجهوا جيوش التنكيل والبطش والغدر، بشهامة الأبطال، في الشوارع وفي الوهاد وفي الجبال، إلى أن مرغوا غطرسة البغي الاستعماري في أوحال الانهزام والانكسار، واستقبلت الأمة الوليدة المتحررة، بعد المحن السوداء الأليمة، وطنها المنعتق من السلب والحجر والاستعمار، وسلطانها الملك الشرعي العائد من المنفى، عودته المظفرة الخالدة.
وما أحوج الأمة المغربية القاهرة للاستعمار، في عهد أجيالها الجديدة، إلى الالتفاف حول تاريخها، ومآثر ملاحم أبطالها، الذين صنعوا وجودها بإبائهم وشموخهم وتضحياتهم الجسام.
فالأمة التي لا تعرف أبطالها ورموز كفاحها، ولا تقتفي آثارهم، ولا تنعش وجدانها وذاكرتها بالاحتفاء بمواقفهم وفدائيتهم، هي أمة ضائعة تائهة، مذبذبة ومترنحة، وآيلة إلى التساقط مرة أخرى فريسة بين أيادي الغاصبين الاستعماريين الجدد، لأنها تكون قد اختارت أن تضل طريقها وهويتها، ورضيت أن تبقى مبتوتة الصلة بأمجادها وقيم سؤددها ومثل كرامتها.
الرحمة والغفران لفقيد الوطنية الحاج الحسين برادة، والمجد والخلود لبطولات المجاهدين والشهداء.
*محام بهية الدار البيضاء
تعليقات الزوار ( 0 )