في ظل الاستعمار الفرنسي الذي خيم على المغرب لعقود طويلة، برزت شخصيات وطنية عديدة ناضلت بشجاعة وإصرار من أجل الحرية والاستقلال. ومن بين هؤلاء الأبطال، يتألق اسم علال بن عبد الله، الذي ضحى بحياته في سبيل الوطن. نشأ علال بن عبد الله، المولود في مدينة جرسيف عام 1916، في بيئة مشبعة بروح الوطنية والنضال ضد المستعمر. وقد قام بعملية بطولية كان لها تأثير كبير في تسريع مجرى الأحداث في المغرب آنذاك، وألهبت مشاعر الشعب المغربي وألهمتهم لمواصلة الكفاح والتضحية بالغالي والنفيس من أجل نيل الاستقلال وعودة الملك الشرعي للوطن.
مؤامرة نفي محمد الخامس والأسرة الملكية
كان الملك محمد الخامس محبوباً لدى المغاربة، وارتبط بعلاقات وثيقة مع قيادات الحركة الوطنية، حيث دعم مطالبها في الاستقلال. هذا الأمر لم يرق للمستعمر الفرنسي، الذي حاول التحكم بالملك الشاب. لكن محمد الخامس رفض التوقيع على القوانين التي تصدر باسم الملك، مما أثار غضب فرنسا وأعوانها. بدأت الضغوط والمناورات لإبعاده عن المشهد السياسي، وتم تدبير مؤامرة لخلعه. انعقد اجتماع في مراكش برئاسة التهامي الكلاوي، حليف فرنسا، لسحب الشرعية الدينية من الملك، مما أدى إلى نفيه وأسرته إلى جزيرة كورسيكا في 20 غشت 1953، ثم إلى مدغشقر في يناير 1954.
لقد ظن الاستعمار الفرنسي أن صغر سن السلطان محمد الخامس سيمكنهم من تحقيق مشروعهم الاستعماري في راحة وأمان، إلا أن التاريخ أكد عكس ذلك بالتمام والكمال. إذ أن السلطان محمد الخامس سلك درب النضال والكفاح مبكراً من حيث لم يحتسب الاستعمار الغاشم. كان هذا النفي محاولة لكسر روح المقاومة المغربية، وهذا ما لم يتأتَّ للمستعمر، إذ ربط المقاومون كفاحهم الوطني من أجل الاستقلال برجوع المغفور له محمد الخامس إلى عرشه. وتحول بذلك محمد الخامس إلى رمز للنضال الوطني.
يوم 20 غشت 1953
في 20 غشت 1953، طوقت القوات الفرنسية القصر الملكي بالرباط ونفت الملك محمد الخامس والأسرة الملكية. أثار هذا الحدث استياء الشعب المغربي، حيث اعتبر خلع الملك خلعاً للسيادة المغربية. يقول المؤرخ عبد الكريم كريم في كتاب “ثورة الملك والشعب”: “كان نفي الملك محمد الخامس وأسرته إلى جزيرة كورسيكا ثم إلى مدغشقر بمثابة صدمة نفسية عنيفة للشعب المغربي، حيث اعتبروا هذا الفعل انتهاكاً لكرامتهم وسيادتهم الوطنية.”
كان حدث نفي الملك محمد الخامس محاولة من المستعمر الفرنسي لكسر روح المقاومة المغربية. ومع ذلك، فإن هذا الفعل أثار موجة من الغضب والاستنكار في صفوف الشعب المغربي، مما أدى إلى تصاعد عمليات المقاومة والمظاهرات المطالبة بعودة الملك الشرعي محمد الخامس.
دمية الاستعمار بن عرفة
في محاولة يائسة للسيطرة على الوضع في المغرب، عرض الجنرال كيوم على بن عرفة أن يصبح سلطاناً للمغرب. وافق بن عرفة على هذا العرض، مما جعله دمية في يد الاستعمار الفرنسي. ومع ذلك، قوبل هذا القرار برفض شعبي واسع، حيث اعتبر المغاربة بن عرفة خائناً للوطن.
كان تنصيب بن عرفة بمثابة محاولة فاشلة من الفرنسيين لفرض سيطرتهم على المغرب، حيث لم يكن له أي شرعية بين الشعب المغربي الذي ظل متمسكاً ببيعته لملكه الشرعي محمد الخامس.
عملية الشهيد علال بن عبد الله
في 11 سبتمبر 1953، حاول علال بن عبد الله اغتيال بن عرفة أثناء توجهه لأداء صلاة الجمعة. رغم عدم تمكنه من الحصول على مسدس، قرر تنفيذ العملية بسلاح أبيض. انضم إلى موكب بن عرفة وتمكن من الوصول إليه، موجهاً له ثلاث طعنات كانت ستعجل بهلاكه لولا ارتماء ضابط استعماري عليه معترضاً سبيله، وقيام البوليس السري بإطلاق ثماني رصاصات على الشهيد، خمس منها في الصدر والجبين وثلاث في الظهر، مما كان كفيلاً بسقوطه شهيداً مضرجاً بدمائه الزكية.
تضحية علال بن عبد الله لم تتوقف حتى بعد استشهاده، حيث أقدم المستعمر الغاشم على نقل جثمانه الطاهر ودفنه سراً في مكان مجهول بناحية الرماني. كانت هذه المحاولة تعبيراً عن رفض الشعب المغربي للوجود الاستعماري وللخيانة التي تمثلت في تنصيب بن عرفة.
استشهد علال بن عبد الله في هذه المحاولة، ليصبح رمزاً للتضحية والفداء. ورغم فشل المحاولة واستشهاده، إلا أن فعلته البطولية كانت بمثابة شرارة ألهبت مشاعر المغاربة وألهبت حماسهم لمواصلة النضال حتى نيل الاستقلال. وكان لهذه العملية النوعية أثرها البالغ في زعزعة كيان الاستعمار، والتحاق عشرات الشباب المغاربة في صفوف المقاومة وكلهم طموح في حذو نفس المسار البطولي.
انطلاقة ثورة الملك والشعب
ألهبت عملية علال بن عبد الله الحماس الوطني وأججت روح المقاومة، مما أدى إلى تصاعد العمليات الفدائية ضد الحماية الفرنسية. كانت هذه العملية بمثابة الشرترة التي أعطت الزخم لثورة الملك والشعب التي كانت حاسمة في مسيرة الكفاح الوطني المغربي. وكما جاء في كتاب “ثورة الملك والشعب: منعطف حاسم في ملحمة الكفاح المغربي من أجل الحرية والاستقلال” للدكتور مصطفى الكثيري: “لقد شكلت ثورة الملك والشعب حدثاً تاريخياً عظيماً، توج بالنصر الكفاح الذي انطلق غداة توقيع معاهدة الحماية سنة 1912م وخلد أروع صور الوطنية الصادقة وأغلى التضحيات في سبيل الوطن.”
في عام 1954، تصاعدت الأعمال المسلحة بشكل ملحوظ، حيث استهدفت إحدى العمليات باشا مراكش، كما تعرض المقيم العام الفرنسي لمحاولة اغتيال. كان رد المغاربة قوياً وسريعاً، بإشعالهم لفتيل ثورة الملك والشعب، التي عجلت بعودة الكفاح المسلح وظهور العمل الفدائي وتأسيس جيش التحرير.
الأثر والتأثير
أثار استشهاد علال بن عبد الله موجة من الغضب والاستنكار في صفوف الشعب المغربي، مما زاد من عزيمة الحركة الوطنية في نضالها ضد الاستعمار. وكان لاستشهاد علال بن عبد الله أثر بالغ في زعزعة كيان الاستعمار، حيث تلقى المغاربة أصداءها باستبشار وانبهار، مما أدى إلى اندلاع المقاومة المغربية وتوالي فصولها وأطوارها من خلال عمليات نضالية رائدة.
كانت هذه الحادثة نقطة تحول في مسار الكفاح الوطني، حيث توحدت الجهود وتكثفت العمليات النضالية لتحقيق الاستقلال. عكس ما كانت تبيته حسابات السلطات الاستعمارية، فقد تقوت وتعززت صفوف الحركة الوطنية وتأججت الروح النضالية في وعي ووجدان الشعب المغربي الأبي، الذي أعلنها ثورة عارمة في وجه التحدي الاستعماري والمساس برمز السيادة والوحدة الوطنية.
كما لقيت هذه الحادثة صدى واسعاً على المستوى الدولي، حيث أظهرت للعالم مدى إصرار المغاربة على نيل حريتهم. إن استشهاد علال بن عبد الله لم يكن نهاية، بل كان بداية لمرحلة جديدة من الكفاح الوطني. فقد ألهمت شجاعته العديد من الشباب للانضمام إلى صفوف المقاومة، وساهمت في تعزيز الوحدة الوطنية والتضامن بين مختلف فئات الشعب المغربي.
عودة محمد الخامس والأسرة الملكية
كانت عودة المغفور له الملك محمد الخامس إلى أرض الوطن في 16 نوفمبر1955 لحظة تاريخية ذات رمزية وطنية عميقة. فقد جسدت هذه العودة التلاحم الوثيق بين الملك والشعب المغربي، حيث استقبله المواطنون بحفاوة بالغة، معبرين عن فرحتهم بعودة رمز الوحدة الوطنية.
وفي 18 نوفمبر 1955، أعلن الملك محمد الخامس انتهاء الاحتلال وبداية عهد الحرية والاستقلال، والانتقال من “الجهاد الأصغر” ضد الاستعمار إلى “الجهاد الأكبر” لبناء المغرب الجديد وتحقيق التنمية والوحدة الترابية. وهكذا، بدأت مرحلة جديدة من البناء والتطوير في المغرب، مع التركيز على تحديث البلاد وتعزيز الوحدة الوطنية.
بعد عودة المغفور له الملك محمد الخامس، كانت أولى خطواته نقل جثمان الشهيد علال بن عبد الله من مكان دفنه السري في منطقة الرماني إلى العاصمة الرباط. تم ذلك في 20 غشت 1957، حيث أُعيد دفنه في مقبرة سيدي الخطاب بجوار مسجد الشهداء، بحضور الآلاف من المغاربة، بما في ذلك رجال الحركة الوطنية والمقاومة وأعضاء جيش التحرير.
في الذكرى الأولى لثورة الملك والشعب، قال المغفور له الملك محمد الخامس خلال حفل إزاحة الستار عن اللوحة التذكارية في الموقع الذي استشهد فيه علال بن عبد الله: “لقد أبينا إلا أن نظهر اليوم عنايتنا بإزاحة الستار عن اللوحة التذكارية المقامة في المكان الذي سقط فيه المغفور له علال بن عبد الله، ذلك البطل الصنديد الذي برهن على أن العرش منبعث من صميم الشعب المغربي، وأنه من كيانه وضمان وجوده وسيادته، فهب يفتديه ويفتدي الأمة المجسمة فيه بروحه حتى سقط في ميدان الشرف صريعاً، مخلفاً للأجيال أعظم الأمثلة على التضحية والغيرة وحسن الوفاء”.
في الختام، تبقى ذكرى استشهاد علال بن عبد الله رمزًا خالدًا للتضحية والنضال الوطني. فقد مهدت تضحيات الأبطال، مثل علال بن عبد الله، الطريق نحو الاستقلال والحرية. يجب أن تظل هذه الذكرى حية في قلوبنا وعقولنا، لتكون منارة تنير درب الأجيال القادمة في مسيرة البناء والتقدم. استلهامنا من هذه التضحيات يعزز عزيمتنا وإصرارنا على مواصلة العمل من أجل رفعة الوطن وازدهاره، ويؤكد أن روح الوطنية الحقة لا تزال تنبض في عروق كل مغربي ومغربية.
تعليقات الزوار ( 0 )