تدعو كافة السياقات لإدارة الدفة نحو ذلك الوجه الحداثي الجديد الذي يتميز ببهائه منسجماً مع معطيات الزمن الجديد، والتغيرات التي طرأت على حياة الأفراد والمجتمعات، فهل يبقى للدين وحالة التدين حاجة في سياق سعي الإنسان للتخلص من عوالق القديم؟
إن المستجدات الإنسانية طويلة الباع، طالت بشتى ما سبق للإنسان مصادفته، فلم يبقي ولم يذر من جانب إلا وأدخل له “نكهة” الحداثة، فلم يعد يستخدم المزارع محراثاً يدوياً، ولم يعد المرسال بحاجة لأكثر من أجزاء ثانية لينتقل من شرق الأرض لغربها. ولكن ذلك كله لم يستطع تغيير الدور الديني الذي لا ينفك يتجدد ويستمر جيلاً بعد جيل؛ وربما قد أثبت ذلك العامل الديني رسوخه، باعتباره منظماً مركزياً لكلا العلاقتين الدائمتين ما دامت السموات والأرض، وهما علاقه الإنسان بربه، وعلاقة الإنسان بالإنسان.
وفي علاقة الإنسان بربه كحاجة ثابتة، لابد من الإشارة إلى أن الإنسان أثبت منذ القدم حاجته للارتباط بالمطلق ، التي لا تتأثر بتطور الماديات، والتي حددها الإسلام في وظيفة تخرج الإنسان من مأزق ثنائيتي ( مطلق الحق ومطلق الشر)، موجهاً إدراكه نحو حقه في رفض كل مظاهر الشر في حياته، بوعيه تفرد الألوهية لله عز وجل، ” أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّـهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ “. ولتقريب التنظير لروحه “الواقع”، فلابد من النظر لانعكاسات الدين، على المجتمع الإنساني ككل والذي لا يغفل فيه عامل الفرد المكون للمجتمع فالدين والتدين يشكلان بوصلة سلوكية دقيقة، توجه الفعل الإنساني، بين نفسه وخالقه، وبينه وبين الآخرين.
مما يعني أن في ذلك “كتالوج” إرشادي يفاضل بين الصحيح والأصح، ولا يقف عند الابتعاد عن الخطأ الواضح وضوح الشمس، فالتدين سبيل للاستزادة الأخلاقية، والسمو فيها. ومن ذلك فهو يشكل مؤشراً ثابتاً في تصاعده نحو بناء المستقبل الأكثر نجاحاً وقدرةً على تجاوز التحديات الفردية من خلال المخزون الروحي والعقلي والقيمي، الذي لا يرد في قاموسه أي من المعاني التي تؤدي للوقوع في مأزق “الانحراف” الفكري والسلوكي، أو الخنوع للضغوطات النفسية كاليأس والإحباط.
وبتحقيق الدين لمقاصده على الفرد، فإن ذلك يمتد للبيئة المحيطة به ككل، من خلال كونها عاملاً رئيساً في إرساء دعامات الأمن المجتمعي، وضمان بناء أرضية تعاون تشاركية خصبة، وصون الاستقرار والطمأنينة المنبثقة من الدراية الفردية المتزنة لما يترتب على الفرد من واجبات تجاه الآخرين، توازي حاجته الملحة بالحصول على ما يستحقه من مكسبات حقوقية، كالعدالة والمساواة، التي تحطم جسور التفرقة والتمييز بأشكاله وأصنافه، الأمر الذي يخلص لنهضة مجتمعية في اقتصاده وثقافته وتعليمه وإعلامه وسياسته الأمر الذي يستحيل الوصول إليه دون بناء ديني مؤثث للهيكلة القيمية الأخلاقية، والتي يمكن معايشتها في الأوامر الربانية، وفحوى القرآن الكريم الحاث على الرحمة والإحسان، يقول تعالى: “حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ”، فإذا اطمأنت النملة التي لا يسمع دبيبها على الأرض بقرب المؤمن، فكيف يكون أثره على المجتمع حوله ؟
إن التماس ضرورة وجود نسمات الدين بين طيات الحياة، تتعاظم موجدةً “متنفساً” قريباً من النفس، ملامساً للفطرة، وهو الذي لا يمكن التوقف عن الاعتراف ببرائته التامة من كافة الطقوس والاتهامات والتداعيات التي زجت بفعل “مشوهي الفطرة”، لتقف بجانب الدين محاولةً التخفي ورائه، واستخدام شعاراته للتبرير الغير مسموح في الدين ذاته، ومن هنا جاءت كافة المفاهيم الخاطئة والمصلحيات الدنيئة المعكرة لصورة الدين، فحواه. والتي لن يقومها شيء كسلامة “التدين” بما يحويه من ممارسات عملية لتعاليم الدين، والالتزام بتشريعاتها، وبتمثيل أوضح هو قول النبي – صلى الله عليه وسلم- في الرد على الصحابي سفيان الثقفي حين سأله عن أمر ينفعه في دنياه وآخرته ويكفيه غيره من السلوكيات، : ” قُلْ: آمَنْتُ باللهِ، ثُمَّ اسْتَقِمْ”، أي، قُل ذلك وأنتَ مُوقن له بقَلبِكَ ثُمَّ داوم عليه وانت بحال استقامة، التي تعني الالتزام بالأوامر والابتعاد عن النواهي، مما يعني أن النقطة الفارقة تكون في الاستمرارية بالعمل الصالح الملازم للإيمان والمنطلق منه، يقول تعالى: “إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ”.
تعليقات الزوار ( 0 )