كنت قد خصصت في كتابي “عبد الكريم الخطابي التاريخ المحاصر” فصلا كاملا عن “جمهورية الريف“. وأعتقد بأن قراء الكتاب قد تمكنوا، بلا شك، من وضع قضية “جمهورية الريف” في سياقها التاريخي، والوظيفي البراغماتي.
من حق المغاربة أن يتساءلوا عن مرجعية جمهورية الريف
لكن من حق مغاربة كثيرين الذين لم يسبق لهم الاطلاع على كتابي المشار إليه، وكتاب “عبد الكريم الخطابي وأسطورة الانفصال” للمؤرخ محمد أونيا، وحتى أولئك الذين لم يقتنعوا برؤية الباحثيْن في موضوع جمهورية الريف، أن تستمر تساؤلاتهم عن حقيقة تلك الجمهورية التي اعتمدها المحاربون المغاربة في الريف بقيادة الخطابي؟ وعن خلفيات تأسيسها؟ وعن موقعها في الخريطة السياسية في مغرب الاحتلال أو الحماية؟ والأهداف والمرامي التي أنشئت من أجلها؟ ولماذا قبل الخطابي صفة الجمهورية بالنسبة للكيان السياسي، الذي أوجدته ظروف الحرب التحريرية، ولماذا قبل أن يطلق عليه لقب الأمير بدل الرئيس، وماذا يعني لقب الأمير في الثقافة الإسلامية السائد آنذاك؟ وهل حقا أن تنكُّر مخزن الحماية وحاشيته لبطولات المغاربة الريفيين، وللخطابي بالدرجة الأولى، ناجم عن إعلان جمهورية الريف؟ أم أن الأمر مرتبط عند هؤلاء بالجوانب النفسية والاجتماعية والثقافية في مواقفهم من المحتلين؟
لكن من زاوية أخرى هل حُكْم أصحاب تلك المواقف على حرب التحرير الوطنية في الريف حكم لا يختلف عن نظر الاستعماريين القائل: إن ما حدث في الريف ليس أكثر من مظاهرة عكست روح الكراهية للأجانب، حسب تعبير تقارير المدرسة الاستعمارية، وأنها ليست إلا لعبة لم تكن تدار لا من قبل المغاربة؛ ولا من قبل الإسبان أو الفرنسيين، وفقا لزعم آخرين؟ وما هي الأسباب التي حذت بالمغرب السياسي عموما، أن يتعامل سلبيا، إن لم نقل عدائيا، مع حرب التحرير الوطنية بقيادة الخطابي، ومع أهل الريف وشمال المغرب عموما، ومع تراث تلك الحرب، التي لا يوجد لها في المغرب حتى متحف يوثق لها، بل لا يوجد حتى قبر للخطابي في المغرب؟
أسئلة تتطلب التفاعل الإيجابي
إنها أسئلة من حق جيل المغرب الحالي أن يتفاعل معها إيجابيا في محاولة لاستيعاب قضايا إهمال شمال المملكة المغربية وإقصائه من دينامية التطور، قصد تجاوزها، خاصة أن منطقة الشمال، بما فها الريف تقع على الساحل الجنوبي الغربي للبحر المتوسط المقابل للشاطئ الأندلسي الذي جعل الأندلسيين يتمتعون بالعيش الكريم، بل بالرفاهية الناتجة أساسا من الصناعة السياحية لشاطئهم، في الوقت الذي يغامر فيه شباب الشاطئ المغربي المقابل للوصول إلى الشاطئ الأندلسي بكل الوسائل، أو الموت غرقا في البحر دون ذلك.
كما تقودنا هذه الأسئلة والتساؤلات كذلك إلى البحث الجاد عما يمكن أن يوصلنا إلى معرفة حاجة الخطابي ورفاقه إلى كيان سياسي لحرب التحرير الوطنية يقوم بوظيفتين على الأقل، أولهما، أن الخطابي ورفاقه لم يكن بإمكانهم أن يقوموا بما قاموا به من دفاع عن وطنهم، ومقاومة المعتدين باسم السلطان، لأن السلطان لم يأمرهم بذلك، بسبب التزامه بعقد الحماية الموقع في 30 مارس 1912. ومن ثمة لم يكن في ذهن الخطابي، أو في مقدوره من الناحية الشرعية والقانونية أن يتجرأ على إحراج السلطان بتوريط اسمه، بأي شكل من الأشكال، في عمليات المقاومة المسلحة، وبسبب تمكن الاحتلال الاستعماري من فرض وجوده فعلا على أركان الدولة أو المخزن على أرض الواقع. ولهذا لم يقل الخطابي أبدا بأنه قاد الحرب باسم السلطان.
وثانيهما، أن الحرب التحريرية كانت وطنية المرمى والغاية، ولم تكن حرب شيخ قبيلة أو عصابة؛ وبما أن الأمر كذلك، فإن الحرب الوطنية تبقى بحاجة إلى كيان سياسي له استعداد للتفاوض مع العدو، والتعبير عن أهدافها ومطالب أصحابها، لدى الرأي العام الوطني والدولي أيضا، فما هو هذا الكيان.؟ بطبيعة الحال لم تكن لا سلطنة ولا مملكة، ولا ولاية دينية، كما أن عبد الكريم الخطابي لم يكن خليفة للسلطان، أو صاحب طريقة صوفية، ولم يكن ممثلا لأي زاوية من الزوايا الدينية، كما كان الشأن بالنسبة للشيخ ماء العينين في الجنوب مثلا، أو الريسوني في الشمال؛ اللذين جمعا بين الصفة الدينية والقبلية والزعامة الشخصية التي تختصر مفهوم الوطن والوطنية في الشخص المتزعم لها، وفي المكاسب السلطوية، القائمة على المزاج الشخصي؛ لذلك وجد الخطابي في كيان “جمهورية الريف” مسلكا ووسيلة عصرية للتفاوض مع العدو بقصد تحقيق الحرية والسلام.
الرأي الشخصي للخطابي في جمهورية الريف
أما رأي الخطابي الشخصي في النظام الجمهوري الذي كانت تدعو إليه بعض الأحزاب الغربية المعاصرة له، فقال بشأنه في الحوار الذي أجراه معه فنسنت شْيين مراسل “جريدة شيكاغو تريبيون” في شهر يناير 1925، المنشور في كتابه “أمريكي بين الريفيين” ترجمة البروفيسور محمد الداودي، في صفحة 198، جاء فيه ما يلي: “تسمية جمهورية الريف هي نموذج مؤسف للتسميات غير الموفقة. إن الصحف الإنجليزية هي التي أطلقت علينا هده التسمية في البداية، وكذلك بعض عملائنا الإنجليز ذوي النيات الحسنة. لكن لم يكن لدينا أبدا جمهورية بالمعنى الغربي للكلمة، ولم نعتزم قط إقامة شيْ من هذا القبيل”:
وخلاصة القول: إن ما يجري اليوم من ادعاءات انفصالية لساكنة الريف عن المغرب من طرف جماعات تعود مرجعياتها إلى فترة الاستعمار، ظهرت، ولا تزال تظهر، في هرطقات أنصاره وتوابعه الذين ورثوه أيديولوجيا وثقافيا، ليحلوا محله، طبقا لما أكده الجنرال ديغول في مذكراته. وللأسف لا زال في المغرب من يروج لخرافة “الانفصال”. وما بلاغ الأحزاب المكونة لحكومة سعد الدين العثماني سنة 2017 التي تبغغوا (من الببغاء) بوجود نزعة الانفصال عند شباب حراك الريف الا أحد الشواهد على استمرار ثقافة تخوين ساكنة الريف للوطن. وفي المقابل، وعملا بقاعدة رد الفعل، لجأ بعض شباب المنطقة إلى تبني خرافة الانفصال، نتيجة يأسهم من السياسات المتبعة في الريف منذ الاستقلال عن الاستعمار.
تهمة الانفصال وانقلاب السحر على الساحر
نعم، إن غياب الرؤية السياسية الحكيمة إلى الريف وإلى وطنيته التحريرية، والعداء المبطن، والصريح، للخطابي قائد الحركة الوطنية التحريرية في مغرب القرن العشرين، والذي لا يزال محروما حتى من قبر له في ثرى وطنه، بعد أكثر من 60 سنة من وفاته في منفاه الثي بالقاهرة، ولا تزال أجيال المغرب المستقل غير مقتنعة بحرمان هذا البطل الوطني عن قبر في وطنه، وعن سبب إهمال الريف وإقصائه من التنمية الاجتماعية، والعلمية، والاقتصادية الضامنة للعيش الكريم للساكنة في وطنهم، والتمادي في اتهام أهل الريف بأنهم انفصاليون. ها هي تهم الانفصال لأهل الريف يلتقطها النظام الجزائري ليعطل بها مصالح المغرب الوطنية. فهل يمكن القول: إن ما لجأ إليه النظام الجزائري من تبني قول جهات مغربية بوجود “نوازع الانفصال عند أهل الريف“ هو انقلاب السحر على الساحر؟؟؟.
من الممكن أن تُحرِم الدولة السلطوية وأحزابها من تشاء، وتتهمه بما تشاء، وتحكم عليه بما ترغب فيه من سنوات السجن والعقاب، لكن الحكمة الوطنية وأبعادها تبعد أصحاب مراكز القرارات النافذة عن الشطط، وتجنبهم الانحدار نحو منعرجات لا تحمد عقباها.
*أكاديمي ودبلوماسي سابق
تعليقات الزوار ( 0 )