إذا كان من الخطأ تعريف الغيب بأنه ما يقابل الواقع، لأن الغيب واقع، فكذلك لا تصح مطابقة الغيب بـ”اللاعقلاني”، لسبب بسيط هو أنه لا يوجد في أحكام العقل ما يضاد وجود الغيب. يقول رشيد رضا- في تلخيص هذه القاعدة الكبيرة-: “ليس في الإسلام شيء يحكم العقل باستحالته، وإنما فيه أخبار عن عالم الغيب لا يستقل العقل بمعرفتها، لعدم الاطلاع على ذلك العالم، ولكنها كلها من الممكنات التي أخبر بها الوحي فصدقناه؛ فالإسلام لا يكلف أحدا أن يأخذ بالمحال”. ولذلك يخبر القرآن عن المشركين أنهم وإن كذبوا بالآخرة، إلا أنهم ليسوا على يقين من صحة موقفهم هذا: (بل ادّارك علمهم في الآخرة، بل هم في شك منه) ، لأن الآخرة ليست مستحيلة عقلا.
وهكذا فالوحي الصريح لا يتناقض أبداً مع العقل الصريح، بل هما متوافقان، لأن كليهما من الله تعالى، ومن آثاره في الوجود، فهو الخالق لكل شيء، وهو القائل: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا).
يقول محمد البهي: “وأمران شأنهما هذا الشأن لا بد أن يتفقا في التحديد الإجمالي -على الأقل- لطريق الإنسان في حياته، وغايته في وجوده. فإن بدا أن هناك اختلافا بين تطبيق رسالة الوحي واستخدام العقل، كان منشأ هذا الاختلاف: إما تحريف رسالة الوحي، أو سوء استخدام العقل. والمحرِّف… هو الإنسان، هنا وهناك”. ولذلك ألّف ابن رشد: “فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال”. وبعده ألّف ابن تيمية: “موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول”، أو “درء تعارض النقل والعقل”.
والذي يتصور وقوع تعارض بين الوحي والعقل في قضية محددة يخطئ، لأنه أسقط من حسابه عامل تعدد العقلانيات واختلافها، فهو يظن أن العقلانية خط سكوني واحد لا يتغير. ثم هو يفترض أن الحدود بين ما هو عقلاني وغير عقلاني حدود ثابتة ونهائية، وهذا أمر – كما يقول طه عبدالرحمن – “ينقضه واقع تطور المعارف الإنسانية، بحيث لا نجانب الصواب إن قلنا بأن “العقلانية” و”اللاعقلانية” إنْ هما إلا طرفان متقابلان لسلّم واحد، بينهما مراتب لا حصر لها، تتزايد أو تتناقص فيها درجة العقلانية أو اللاعقلانية”. ولذلك لا توجد حدود فاصلة بين النظر العقلي والدين، و”تدخُّل القيم الدينية في تكوين النظر العقلي أمر لا يمكن إنكاره ولا ضبطه”، وما المفهوم الفلسفي للظاهرة -مثلا- ببعيد عن معنى “التجلي” الديني.
لهذا كانت العقلية الإسلامية عقلية “غيبية علمية”، تجمع بين الإيمان بالغيب، والتشبع بروح العلم ومناهجه. يقول سيد قطب في تفسير ذلك: “إن العقلية الإسلامية لتجمع بين الاعتقاد بالغيب المكنون الذي لا يعلم مفاتحه إلا الله، وبين الاعتقاد بالسنن التي لا تتبدل، والتي تمكن معرفة الجوانب اللازمة منها لحياة الإنسان في الأرض، والتعامل معها على قواعد ثابتة، فلا يفوت المسلمَ العلمُ البشريُّ في مجاله، ولا يفوته كذلك إدراك الحقيقة الواقعة؛ وهي أن هنالك غيباً لا يُطلع اللهُ عليه أحدا، إلا من شاء، بالقدر الذي يشاء”.
والقرآن الكريم لا ينفي العلوم الظاهرة التي يصل إليها الإنسان بعقله وبحثه وتجربته، وإنما ينكر عليه اكتفاءه بها وإلغاءه لغيرها من المعارف، وعلى رأسها ما يتعلق بالغيب: (وعد الله لا يخلف الله وعده، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا، وهم عن الآخرة هم غافلون).
يقول ابن عاشورا مفسراً: “وصف حالة علمهم كلها بأن قصارى تفكيرهم منحصر في ظواهر الحياة الدنيا غير المحتاجة إلى النظر العقلي، وهي المحسوسات والمجربات والأمارات، ولا يعلمون بواطن الدلالات المحتاجة إلى إعمال الفكر والنظر… والكلام ُيشعر بذم حالهم، ومحط الذم هو جملة: (وهم عن الآخرة هم غافلون). فأما معرفة الحياة الدنيا فليست بمذمة، لأن المؤمنين كانوا أيضا يعلمون ظاهر الحياة الدنيا، وإنما المذموم أن المشركين يعلمون ما هو ظاهر من أمور الدنيا، ولا يعلمون أن وراء عالم المادة عالماً آخر هو عالم الغيب”.
ويقول سيد قطب -في السياق نفسه-: “ظاهر الحياة الدنيا محدود صغير، مهما بدا للناس واسعا وشاملا، يستغرق جهودَهم بعضَه، ولا يستقصونه في حياتهم المحدودة. والحياة كلها طرف صغير من هذا الوجود الهائل… والذي لا يتصل قلبه بضمير ذلك الوجود، ولا يتصل حسه بالنواميس والسنن التي تصرفه، يظل ينظر وكأنه لا يرى، ويبصر الشكل الظاهر والحركة الدائرة، ولكنه لا يدرك حكمته، ولا يعيش بها ومعها. وأكثر الناس كذلك، لأن الإيمان الحق هو وحده الذي يصل ظاهر الحياة بأسرار الوجود…”
دور العلم الحديث في تقريب بعض مفاهيم الغيب إلى العقل
إن منجزات العلم الحديث واكتشافاته تساعد في تقريب بعض شؤون الغيب إلى الذهن الإنساني؛ فعلم الفلك -مثلا- بحديثه عن الكواكب والشموس والأجرام والثقوب السوداء -أو مقابر النجوم-، يعطينا فكرة عن سعة عالم الآخرة، وهي سعة هائلة تذكرها النصوص، ولذلك قال رشيد رضا: “لا يوجد علم أدل على عظمة الخالق وقدرته وسعة علمه ودقة حكمته من علم الفلك”. واكتشاف البيولوجيا لأنواع من الكائنات الدقيقة التي لا ترى بالعين المجردة كالميكروبات… يدل على إمكان وجود كائنات أخرى لا نستطيع إبصارها حتى بالمجهر، (إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم).
ولو أن أحداً حدّث الناسَ عن الفيروسات -منذ بضعة قرون- لعدّوه مجنونا، ولقالوا: كيف توجد آلاف من الأحياء -لا نراها- في نقطة ماء؟ وكذلك الكهرباء وقوتها وسرعتها وسريانها في الأشياء، والجاذبية وتأثيرها عن بعد، والمغناطيس وحقله…. كل ذلك يمكن أن يقرب لأذهاننا أشياء من الغيب، رغم أنه ليس بين عالمي الشهادة والغيب إلا الشبه السطحي في بعض الأمور.
والمقصود -كما قال صاحب المنار- أننا نقول اليوم:” إن العلوم الكونية لم تُبقِ شيئا من أخبار عالم الغيب غريباً إلا وقربته إلى العقل، بل إلى الحس تقريبا؛ بل ظهر من الاختراعات المادية المشاهدة في هذا العصر ما كان يعد عند الجماهير محالا في نظر العقل، لا غريبا فقط”.
*مفكر وأستاذ جامعي
إن الذين ينكرون الغيب ويؤمنون بالعقل فقط، سقطوا في التناقض، حيث إن العقل نفسه جزء من الغيب,
إن التكلم مع شخص في الصين مثلا ورؤيته كان مستحيلا عقلا قبل التطور التكنولوجي، واليوم أصبح واقعا بكل يسر وسهولة،
إن منكري يوم القيامة والجنة والنار، واعتبارها من المستحيلات، سيكتشفون ضعف رأيهم هذا في يوم لا ينفع فيه مال ولا عشيرة ولا عقلانية…