Share
  • Link copied

خواطر رمضانية(26): في ذكرى عزيز بلال.. إعادة قراءة الاشتراكية

سنتعرّف على هذه الشخصية الفذة وعلى بعض أهم أفكارها.. لكن قبل ذلك  نتحدث عن الشيوعية بصفة عامة، خاصة عن حدث انهيارها السياسي، وعن ضرورة دراستها بموضوعية:

1- إعادة دراسة الشيوعية

يشكل حدث الانهيار الكامل للشيوعية، كمذهب وممارسة، أحد أبرز منعطفات التاريخ السياسي المعاصر، خصوصا في عالم تقاربت أطرافه، وتبادلت التأثيرَ دولُه. فسقوط معسكر كان قوة عظمى يعني تبدل الموازين السياسية كلها. وانهيار النظام الدولي الذي تأسس عليه.

والواقع أن انهيار المعسكر الاشتراكي سياسيا لم يكن أمرا بعيدا في أدبيات الفكر الإسلامي المعاصر، فلقد سبق لرواد أمثال أبي الأعلى المودودي وسيد قطب أن توقعوا ذلك، ولأن الفطرة لا بد أن ترجع يوما إلى الله، وإن لم يكن أحد يتوقع أن يتم ذلك بهذه السهولة وتلك السرعة.. ومما يذكر هنا أن مؤرخ الحضارات الإنجليزي “أرنولد توينبي” كان قد تنبأ –بصفة باكرة نسبيا- في مطلع الستينيات بالسقوط الحتمي للشيوعية حين قال قولته الشهيرة: (إن دراسة الشيوعية ينبغي أن تتجه من الآن إلى متاحف التاريخ)، وفسر ذلك بـ (أن الشيوعية مولود شرعي للحضارة الغربية، وهي سترجع إليها يوما لا محالة).

وهذا يشير بجلاء إلى خاصية من أهم خصائص حضارة الغرب، وهي أنه –وقد بنى مدنيته على أسس بعضها هش-  يواجه أزمات ومشكلات عميقة في مسيرته التاريخية، واستمرار هذه الأزمات ينذر بانفجار عنيف يصيب مجتمعاته ويدمرها، لكن الغرب يملك دائما قدرة على تجاوز هذه الأزمات حين يضع بنفسه بديلا مناقضا سرعان ما يدخل في صراع مع الوضع السائد مما يعطي له دفعة جديدة وأملا جديدا يجعل استمرارية التاريخ عملية ممكنة.

هكذا جاءت الثورة الفرنسية سنة 1789م فتحا للباب المسدود الذي وصلت إليه مجتمعات الأرستقراطية، وجاءت لتنادي بمبادئ الحرية والأخوة والمساواة. ثم لما وصل الغرب الرأسمالي إلى قمة إنجازاته –وكذا إخفاقاته أيضا- ظهرت الشيوعية أو الاشتراكية –كصورة معدلة- آخر القرن التاسع عشر لتحاول تجاوز أزمة المنظومة الرأسمالية، ليس في بعدها الاقتصادي فقط، بل في مظاهرها الفلسفية والاجتماعية والسياسية أيضا. ويخطئ من يظن أن الرأسمالية مجرد شكل من أشكال التنظيم الاقتصادي، بل وراء ذلك فلسفة كاملة للحياة نعرفها بالليبرالية، وحضارة الغرب الرأسمالي في مختلف أبعادها الإنسانية خير دليل يوضح ذلك.

ورغم انتماء كلا الفلسفتين لحضارة تاريخية واحدة، إلا أن هذا لم يمنع من دخولهما في صراع طويل استغرق حوالي نصف قرن فيما سمي بالحرب الباردة، هذا الصراع الذي اختلطت فيه تباينات القيم والرؤى إلى جانب تضارب المصالح والأطماع..

والآن بعد سقوط المعسكر الشيوعي نحتاج لقراءة هادئة لهذه التجربة البشرية التي لا شك كان لها إيجابياتها ومواطن نجاحها.. وعلينا تجاوز الصراع الإيديولوجي الذي انتهى أكثره بين التيارين الإسلامي والشيوعي إلى أفق استيعاب جوهر الفكر الاشتراكي أو على الأقل التلاقي معه في القضايا الأساسية.. هنا يفيدنا  عزيز بلال رحمه الله.. فقد كان يرى بنظره الثاقب  والبعيد مأزق الفكر الشيوعي، ويعي أهمية الدين في المجتمعات العربية.. لذلك فقد كان حاضرا في ذهنه سؤالُ كيفية تنزيل الفكر الاشتراكي في بلاد إسلامية..

2- من أفكار عزيز بلال

هذا رجل عظيم، لعلّ أكثر الأجيال الحديثة والشابة لا تعرف عنه شيئا. إنه عزيز بلال: الأستاذ الجامعي، والمفكر الاقتصادي، والمناضل السياسي، والشخصية الوطنية الكبيرة.. والذي خسرناه باكرا وفي قمة عطائه السياسي والفكري، حيث “مات” يوم 23 ماي سنة 1982 في حادث غامض بفندق كونراد هيلتون بشيكاغو.. رحمه الله.

لقد كان عزيز بلال شيوعيا، ثم اشتراكيا.. لكنه أبدا لم يكن ينظر إلى الفكر الاشتراكي نظرة جامدة وإيديولوجية تمنعه من الانفتاح  على الأفكار الأخرى والعوالم الأخرى.. من هنا احترامه العميق للثقافة التقليدية والعميقة للشعب المغربي والتي يشكل الإسلام أساسها الأول.

إذن انهار الاتحاد السوفياتي، فكانت  نهاية الشيوعية كإيديولوجية شاملة.. وهو ما حدث بعد وفاة عزيز بلال رحمه الله بسنين قليلة.

هل هذا يعني أن الفكر الاشتراكي انتهى ولا مكان له في عالمنا، فلا حاجة للاهتمام به؟ لا، أبدا. يجب أن نعرف أن الاشتراكية فكرة مختلفة عن الشيوعية، صحيح أنها تطورت عنها، لكن الاشتراكية رؤية مميزة ومختلفة.. وفيها جوانب مهمة يجب أن يلتفت الفكر الإسلامي المعاصر إليها بجدّية ويتأملها.. إن هذا الفكر يحتاج لإعادة قراءة الاشتراكية سواء في بعدها النظري أم في أبعادها العملية المتعددة، ويجب أن يتجاوز الفكر الإسلامي آثار المرحلة السابقة التي شهدت صداما بينه وبين الفكر الشيوعي خاصة.. مثلا ينبغي الاعتراف بأهمية العامل الطبقي في التاريخ وفي عالم اليوم.

يقدم عزيز بلال نموذجا ممتازا لفكر اشتراكي مرِن وواقعي وعميق، وفي نفس الوقت فكر مرتبط بالأرض وبثقافة شعوبنا العربية والإسلامية.. فهو لم يكن يحتقر هذه الثقافة، بل كان يحترمها ويدعو إلى تمثلها واستيعابها وفهم الواقع الاقتصادي والاجتماعي في سياقها.

وكانت نيتي هنا أن أقدم فكرة عن آراء هذا الأستاذ العميق وهذا المناضل الصادق.. لكنني وجدت هذا الأمر مستحيلا لغنى فكر الرجل وعمقه حتى إننا اليوم نحسّ براهنيته وبالحاجة إلى الاستفادة منه.

ناقش عزيز بلال أطروحته في الدكتوراه بفرنسا سنة 1965، وكان موضوعها عن “الاستثمار بالمغرب. في الفترة من سنة 1912 إلى 1964.” وهذه دراسة مهمة جدا، ولا يمكن فهم الواقع المغربي دون هذه الرؤية الاقتصادية لسياسة الاستعمار ولامتداداتها – كُلا أو بعضا- بعد الاستقلال. لقد سجل عزيز باكرا هذه الملاحظة العميقة بكتابه: “إن حلّ مشاكل الاستثمار في البلدان المستقلة حديثا لا يمكن أن يكون بمجرد الاختيار التقني  بين مجموعة متنوعة من المتغيرات (يعني الاقتصادية الصِّرْفة). على العكس من ذلك، فهي تتعلق باختيارات  وقرارات سياسية بالأساس.” فالتنمية التي دشنها الاستعمار كانت مشوهة، وكان غرضها إلحاق اقتصاديات الدول المستعمَرة بالمركز.

تأملات عزيز في موضوع التنمية وفشلها في العالم الثالث قادته إلى الوعي بأهمية المحيط الثقافي والاجتماعي والسياسي ودوره الحاسم في عرقلة التنمية أو إنجاحها.. وهذا الموضوع شغل صاحبنا مدة طويلة، ثم وضع عصارة أفكاره في كتابه العظيم: “العوامل غير الاقتصادية للتنمية”، والذي صدر سنة 1980. والحقيقة أن هذا الفكر كان رائدا في عالم الاقتصاد، ليس فقط وطنيا وعربيا، بل عالميا أيضا، إذ كانت النظرية السائدة (كما عند روستو مثلا) تفترض وجود نموذج تنموي متقدم، وهو الغربي، وعلى النماذج المتخلفة في العالم الثالث أن تستدرك الوقت الضائع وتحاول “اللحاق بركب التنمية”. أدمج عزيز بلال عوامل غير اقتصادية في مفهوم التنمية، بحيث إنه لا يمكن تحقيق شيء على هذا الصعيد دون حل المشكلات الأربع: التحرر الوطني، والثورة الاجتماعية،  والتنمية، والحضارة. وهذا المفهوم الأخير يشمل الدين والثقافة المحلية والإرث التاريخي..

كما لعزيز بلال نظرات ثاقبة في موضوع العلاقة مع الاتحاد الأوربي ومشروع المغرب العربي أو المغرب الكبير.
ومن غير المقبول فعلا بعد ثلث قرن من وفاة عزيز بلال رحمه الله أننا لم نقم بدراسة فكره وترجمته، إذ لم يتمّ –في حدود علمي-  ترجمة جميع كتبه، خاصة الكتابين الذين أشرت إليهما، إلى اللغة العربية.. ولا أحد جمع مقالاته المبعثرة في المجلات والصحف، وبعضها بفرنسا كمقالته عن “الفكر الاقتصادي لابن خلدون” التي نشرها سنة 1968..

أقترح أن يقوم أحد الباحثين بالتخصص في فكر عزيز بلال، فهو فكر حيّ نحتاجه اليوم.. فينجز عنه بحثا، إما حرّا أو في إطار دكتوراه. وهذا سيُسهّل عليه مهّمة أخرى هي ترجمة كتبه وجمع تراثه كله.  بالنسبة لباحث جاد ومتخصص في الاقتصاد أو في حقل قريب منه.. يمكن إنجاز هذه المهمة في فترة تتراوح بين خمس وسبع سنين. ولو توفر باحثان على هذا العمل، فإن المدّة تتنصّف.

في انتظار ذلك أتمنى على جامعة القاضي عياض بمراكش أن تطبع الندوة التي عقدتها في أكتوبر 2013 لفكر عزيز بلال: الاقتصادي والإنسان.

ومن الجميل جدا أن عزيزا لم يترك لنا فقط هذا الفكر العميق والمنفتح بإيجابية على ثقافتنا العربية-الإسلامية، بل ترك لنا أيضا ابنا يسير على نفس الدرب، إنه يوسف بلال.. مفكر شاب واعد.

*مفكر وأستاذ جامعي

Share
  • Link copied
المقال التالي