سألني بعض الشباب عن أدلة ما على وجود عالم الغيب، وهو شباب مؤمن، لكن يسأل لتطمئن نفسه، كما قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: (وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيـي الموتى. قال أوَ لم تؤمن؟ قال بلى ولـكن ليطمئن قلبي. قال فخذ أربعة من الطير.. إلى آخر الآيات ).
وكنت كتبت من سنين كتاب” الغيب والعقل. دراسة في حدود المعرفة البشرية.” تناولت فيه موقف العقل الإنساني من عالم الغيب ومن الإيمان عموما.. وحاولت فيه أن أطرق الموضوع بمنهج جديد وبقضايا جديدة.. في إطار الفكرين: الإسلامي القديم والأوربي الفلسفي. وأحسب –والله أعلم- أنني نجحت نسبيا في ذلك، لأن الكتاب هو أكثر كتبي نجاحا وسط القراء. وصدرت له طبعة ثانية، كما تُرجم إلى اللغة الكردية، وقرّرته بعض الأقسام الجامعية ضمن دروسها.
وفي هذا السياق سأحاول أن أقدم شيئا جديدا مختلفا عن الأجوبة الكلاسيكية التي نجدها في كتب الاعتقاد وأصول الدين.. أي أحاول أن أجتهد في أمور جديدة.. لذلك فهذه الأجوبة لا تغني عن مباحث كتب العقيدة.
1- يمكنك أن تشتري المنظار بأثمان تتراوح بين 300 يورو إلى 4000 يورو. توجد أنواع وأشكال وأحجام متنوعة وبقدرات متفاوتة. ثم تحرى ليلة صافية لا ضباب فيها ولا غيوم.. وراقب السماء وتفرج على حركات الأفلاك، وانظر إلى الشهب الحارقة والنيازك اللامعة كيف تمر بسرعة هائلة في الفضاء.. وسترى آلاف النجوم المتلألئة في السماء.. وسيبدو لك القمر قريبا حتى تستطيع أن تميز السلاسل المرتفعة من الأحواض المنبسطة.. وستشعر من أعماقك بأن وراء هذا الجمال خالقا عظيما، ومن وراء هذا الجلال ربا رفيع الدرجات، ووراء هذا الكمال مبدعا حكيما..
وفي جسدك النحيل الضئيل ستسري قشعريرة.. وستشعر روحك بالحرية وبالرغبة في الانطلاق نحو السماء والسباحة مع الأفلاك.. أما عقلك فسيدوخ بمشاهدة العظمة.. وكرر هذا الأمر.. وكرر المشاهدة.. إنك ما دمتَ تراقب السماء وتتفكر في خلق السماوات والأرض.. فأنت في عبادة.. بل في بعض أفضل أنواع العبادة.. ولربما ستحب ذلك.. ولربما تكون من علماء الفلك في حضارتنا القادمة.
2- اشتر مجهرا (أو ميكروسكوب). وهنا الشيء نفسه: مراقبة الجزيئات بالمجهر.. فإذا حصّلتَ مجهرا جرب كل شيء يقع تحت يديك: رمل وحجر وأوراق شجر ومعادن.. وجرب أيضا الخلايا الحية، ويمكنك أخذ بعضها من الغشاء الداخلي للفم. وكذا الحشرات الصغيرة جدا. هذه الجولة في المجهر ستقربك إلى العالم الصغير.. وستلاحظ أن ذات النظام والتناسق اللذان يوجدان في العالم الكبير يوجدان أيضا في العالم الصغير الذي لا يقل إعجازا وروعة.. بل الإنسان نفسه صورة عن العالم الكبير، كما قال الشاعر:
وتزعم أنك جرم صغير *** وفيك انطوى العالم الأكبر
وإذا حصلت على المجهر فقد ينفع أسرتك أيضا أو أبناءك.. وقد يظهر فيهم عالم أو عالمة أحياء.
نحن نشتري لأولادنا ولأنفسنا ألعابا أو هواتف.. آخر صيحة.. لكن لا نشتري لهم منظارا أو مجهرا يكون لهم وسيلة عبادة وتفكر وعلم.
3- اقرأ عن الباراسيكولوجيا، وإن أمكنك ذلك فبالإنجليزية أو الفرنسية. والباراسيكولوجيا هو علم دراسة الظواهر غير العادية التي يمكن أن تكون من أثر قدرات بشرية غير معروفة، أو من عمل مخلوقات أخرى عاقلة. وهذه الظواهر لا تدخل في نطاق علم النفس الحديث.. وتوجد أعاجيب في هذا الباب. وقد انتهت الباراسيكولوجيا المعاصرة إلى إثبات وجود الظواهر الغريبة، وهي نوعان: ظواهر الاستشفاف ESP، وظواهر التأثير في المادة بغير المادة PK.. لكنه وقف عاجزا في الأكثر عن تعليل هذه الظواهر وتفسيرها.
4- احضر حلقة صوفية. لا أقصد هنا أن تتصوف أو تدخل طريقة صوفية ما.. لكن أعني أنه يمكنك أن تحضر بعض جلسات الصوفية وتستمع لما يروج فيها من السماع والذكر.. ويمكنك أن تدخل في حوار مع بعض الحاضرين، واسألهم عما يفعلون وما يرون.. ستحس بالغيب.. وستشعر أنك أقرب إلى عالم الغيب العجيب. لن ترَ شيئا محددا، لكن روحك ستشعر بأشياء غير محددة… وسيساعدك هذا على الطمأنينة إلى أن الغيب حق.. وأن وراء العالم المادي الظاهر عوالم غير مرئية.. لكنها موجودة.
5- تيمكنك أن تحضر بعض جلسات الصوفية وتستمع لما يروج فيها من السماع والذكر.. ويمكنك أن تدخل في حوار مع بعض الحاضرين، واسألهم.. ستحس بالغيب.. وستشعر أنك أقرب إلى عالم الغيب العجيب. لن ترى شيئا محددا، لكن روحك ستشعر بأشياء غير محددة… وسيساعدك هذا على الطمأنينة إلى أن الغيب حق.. وأن وراء العالم المادي الظاهر عوالم غير مرئية.. لكنها موجودة.ــــــــزوج! وقد تقول ما العلاقة بين الزواج وما نحن فيه. والجواب أنك حين تؤسس أسرة ستشعر بعالم الغيب وبأن الغيب يحيط بحياتنا من كل ناحية. تعيش مع إنسان يشاركك في الإنسانية، لكنه يختلف معك في بعض الأمور البيولوجية والنفسية.. فترى بأم عينيك معجزة الأسرة، وكيف يتكامل الزوجان… لتأسيسها.. إن العلاقة الزوجية من آيات الله الكبرى.
ثم ستأتي مرحلة الحمل والولادة.. وهي المعجزة الكبرى في الخلق.. ستخوض تجربة فريدة من نوعها.. من نطفة حقيرة لا شأن لها.. سترى الحياة تبدأ داخل بطن زوجتك.. وتكبر وتكبر.. كل يوم تكبر.. وأنتَ وأنتِ تتفرجان على ذلك.. ولا تصنعان شيئا.. تدب الحياة في بطن زوجتك ويبدأ الجنين في الحركة.. وهكذا تمر الشهور.. حتى تأتي اللحظة الخارقة: لحظة الولادة.. فإذا بين يديك طفلك أو ابنتك.. كائن بشري كامل، لا ينقصه شيء.. يصرخ بين يديك ويتحرك تحت نظرك.. وقد جاءك لا تعرف كيف.. لكنه جاءك.. آنذاك ستذكر ولاشك الله الخالق.. الرب البارئ.. وستعرف أن الحياة ليست عبثا وأن عالم الغيب يشملك ويهيمن على حياتك.. من حيث تدري أو لا تدري.
6- والآن أذكر شيئا آخر، وإن كان لا يتيسر في الغالب: إذا حضرتك فرصة شهود غسل الميت، وكنت تملك الشجاعة الكافية، فقد يفيدك ذلك، وقد تحس بداخلك بأن الغيب حق. طبعا تحتاج أن تكون قويا، فهذه تجربة صعبة، وقد تلازمك صورة الميت مسجى على الطاولة مدة طويلة. لكن إن كنت حريصا ولابد على الاقتراب من بعض مسائل العالم الآخر.. يمكنك أن “تخوض” هذه التجربة.. إذا تيسرت لك. ستلاحظ ولابد أمورا. وإن لم يتيسر ذلك فاقرأ عن تجارب الاقتراب من الموت في الباراسيكولوجيا الحديثة.
*مفكر وأستاذ جامعي
بسم الله الرحمن الرحيم، ألم، ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين: الذين يومنون بالغيب، ويقيمون الصلاة، ومما رزقناهم ينفقون.
نلاحظ من خلال هذه الآية الكريمة أن أول صفات المتقين: الإيمان بالغيب، وبعدها تأتي الصلاة والزكاة…
فكيف لإنسان لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر أن يصلي أو يزكي أو يصوم…
ولا ننسى أن الفترة المكية كانت لتأسيس هذا المفهوم، الذي جعل من معتقديه صناع حضارة بعدما كانوا في الجاهلية