Share
  • Link copied

خاطبوا الوجدان والقلوب.. هكذا لعب الإبداع الفني والأدبي دورًا في تأسيس إسرائيل!

إن للصّراع الفلسطيني-الإسرائيلي وجوهًا كثيرة، منها ما هو جَليّ، يَظهر في عالم القوة المادي الكثيف، ومنها ما هو خفي، ذو صلة بعالم الأفكار المثالي اللطيف. فقد سعى كل طرف من طرفَي هذا الصراع- على امتداد القرن العشرين وإلى اليوم- لإعداد القوة لتحقيق الغلبة فوق الأرض، من جهة؛ وإلى تحريب النفوس وتجييش المشاعر؛ بغية تحقيق الصمود والنصر في عالم الأفكار والمخيلة، من جهة أخرى.

ونحن هنا نكتفي بالحديث عن وجوه الصراع المتعلقة بالمخيلة والأفكار. إذ إن كل طرف من طرفي الصراع يستدعي- من بين ما يستدعي في المقام الأول- نصوصًا مقدسة تعطي للصراع بعدًا عقديًا.

لكن، ورغم أهمية البعد العقائدي في تحديد شكل الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، فإننا لا نقف عنده في سياقنا هذا؛ لأننا نريد، بدل ذلك، الوقوف عند الإبداع الفني والأدبي والفكري وأثره في تشكيل الوعي بهذا الصراع. ونحسب أن للفن والأدب والفكر دورًا كبيرًا في التأريخ للقضية الفلسطينية، والتعريف بها، وتوثيق محطاتها الكبرى، وتفسير مجرياتها وأحداثها. كما نحسب أن الاستهانة بهذا الدور لا تكون إلا من عقل غافل آفل.

من يقرأ كتاب “حياتي” لـ “غولدا مائير”، تستوقفه معلومة مهمة، مفادها أنَّ الجيل المؤسس لإسرائيل كان تأثره برواية “ثيودور هرتزل” التي عنوانها: “الأرض القديمة الجديدة” (Altneuland) تأثرًا بالغًا يفوق كل شيء.

فهذه الرواية، التي كتبت سنة 1902- أي بعد مرور ست سنوات على كتابه “الدولة اليهودية” (Der Judenstaat)- جاءت لتعطي فكرة “العودة إلى أرض إسرائيل” أفقًا تنتقل معه من مرحلة المشروع السياسي العقلي الجامد، إلى مرحلة الفكرة التي يتحرّك لها الوجدان وتهفو إليها القلوب. وبهذا الاعتبار تدخل رواية هرتزل الطوباوية- وهي عمل فني متخيل- في عداد الأعمال التي تأسس عليها الكيان الصهيوني.

إنَّ الإبداع الفني الأدبي والفكري، مثلما ساهم في التأسيس للدولة العبرية، فقد ساهم كذلك في تسييجها وتحصينها على مستوى المخيال الجمعي الغربي، بحيث صار المساس بحق من حقوقها كالمساس بأقدس الحقوق على الإطلاق. لم يأتِ هذا التقديس من فراغ، ولكنه ثمرة قرن من الإبداع الفني والفكري، إبداعٍ ظل يصب في ترسيخ فكرة انتماء إسرائيل إلى الغرب الحديث المتنور، في مقابل انتماء محيطها إلى الشرق القديم الظلامي.

هذا ما نجده معبرًا عنه في كتابات “برنارد لويس”، على سبيل المثال، التي تختزل الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي في مقولة جاهزة؛ مفادها أن الفلسطيني ينتسب إلى ثقافة عربية إسلامية متخلّفة عن ركب الحضارة الغربية، عاجزة عن الانخراط في منظومتِها الثقافية الحديثة، في مقابل الإسرائيلي الذي هو جزءٌ من هذه الحضارة، يتفاعل مع ثقافتها الحديثة الكونيّة.

إنَّ حرص إسرائيل على الانتماء إلى الغرب فنيًا وفكريًا وثقافيًا يحمل دلالات جيو-إستراتيجية وعسكرية لا بد من الإشارة إليها. فالقول بهذا الانتماء يَلزم منه القول، بأن كل عدو لإسرائيل هو عدو للغرب المتحضر.

من يقرأ كتاب برنارد لويس عن توتر العلاقة بين الإسلام والحداثة (What Went Wrong)، يدرك أن المقصود من وراء إضفاء صفة الحداثة الغربية على التجربة الفنية الإسرائيلية، في مقابل التنافر بين الثقافة العربية الإسلامية وهذه الحداثة، هو الانتقال من العلاقة مع الغرب من مستوى التحالف الإستراتيجي إلى مستوى الانصهار الثقافي.

فإذا كان التحالف الإستراتيجي ظرفيًا، قد يتقلب مع تقلب مصالح الدول، فإنَّ الانصهار الثقافي، على العكس من ذلك، هو من جنس الأمور الجوهرية التي يصعب الانفكاك منها.

إسرائيل، إذن، هي الغرب، والغرب هو إسرائيل، تجمع بينهما قيم ثقافية فنية وفكرية راسخة، كما يوحدهما الصراع ضد همجية الآخرين ووحشيّتهم ونزوعهم نحو معاداة قيم الغرب الحديثة.

يجد هذا الكلام تجسيده الأمثل فيما نسمعه من مفكّرين مرموقين، أمثال: “هابرماس”، وما تشهده أوروبا اليوم من اصطفاف اليمين المتطرف الغريب وراء إسرائيل وتقديمه كل أنواع الدعم المعنوي والمادي لها في عدوانها على غزة، دعم بلغ درجة الانخراط المكشوف في حملة المطالبة بمواصلة القصف الجوي للمدنيين، في مقابل مَن يطالبون بوقف إطلاق النار.

إنَّ ما يحصل اليوم يشي بأن اليمين المتطرف يجد في الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي ما يجدد به بلاغته العنصرية التي تقوم على أسس فكرية “مانوية” تقسم العالم إلى داخل وخارج، إلى ذات خيّرة وأخرى شرّيرة، إلى متحضر ومتوحش، إلى أوروبي مندمج وأوروبي غير قابل للاندماج.

إننا نشهد انزلاقًا دلاليًا وبلاغيًا خطيرًا باتجاه تسويغ سيناريوهات تنقية الفضاء الغربي، سواء القيمي أو الجغرافي، من شوائب الحضور المزعج للآخر، هذا الآخر الذي يتم تجريده من صفاته الإنسانية.

يحملنا هذا التصور للاندماج الحضاري والثقافي الغربي- الإسرائيلي على الاعتقاد بأننا نخرج من مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية- التي شهدت محاولات لترسيخ قيم الديمقراطية والتعددية وحقوق الإنسان الأساسية- لنعود إلى المرحلة التي سبقتها؛ أي مرحلة الأيديولوجيات الشمولية التي أثبتت فشلها في الانفتاح على العوالم الخارجية فأنتجت لنا النازية والفاشية.

ونحسب أن الكثيرَ من الغربيين- سواء كانوا يهودًا أم مسيحيين وعلمانيين- يدركون خطورة السير في هذا المنحى، باتجاه عالم منغلق على ذاته، تحكمه أيديولوجيات ذات نزعة تطهيرية.

كل من كان له حظ من مروءة ورجاحة عقل يقرّ بخطورة الانصهار بين شمولية اليمين المتطرف في إسرائيل، وشمولية اليمين المتطرف في أوروبا؛ فهذا الانصهار لن يقف عند حدود القبول بما يقع أمام أعيننا اليوم من إزهاق لأرواح الأطفال، وتدمير ممنهج لمقومات الوجود الفلسطيني، بل يعِد بمستقبل مظلم تنعدم فيه أسباب الاستقرار والتنعم وتعايش الغرب السلمي مع الآخرين.

هناك مؤشرات كثيرة تدلّ على أن الارتفاع المهول في منسوب العنف الرمزي الذي يستهدف المسلمين داخل الغرب قد يتحول إلى عنف مادي، ما لم تبرز نخب سياسية تتحلى بالحكمة، عوض النخب المتطرفة التي تقبل الانصهار الإسرائيلي- الغربي الشمولي أفقًا للتفكير.

من المفارقات الكبيرة أن تتحوّل إسرائيل، المدينة الطوباوية الفاضلة- التي أراد لها مؤسسوها أن تكون ملاذًا آمنًا يُخلِّص ساكنيها من أسر الشمولية الأوروبية- إلى رأس حربة هذه الشمولية وقلعتها المتقدمة خارج حدود الغرب. لا شيء أفضل من الإبداع الأدبي يقرّب لنا حقيقة الشمولية التي تتخذ من الانصهار الإسرائيلي-الغربي قاعدة تتأسس عليها.

يُخَيّل إلينا ونحن نعيد قراءة كتاب “ألدوس هاكسلي” “عالم رائع جديد” (Brave New World)، هذا الكتاب الذي كُتب سنة 1931، وكأننا أمام عمل كُتِب لوصف أحوالنا اليوم، ونحن نواجه استبداد الشمولية الإسرائيلية-الغربية المستحكِم.

فالعالم الذي يصفه “هاكسلي” عالم مغلق، عالم يسود فيه النظام، عالم يمنح سادتُه المواطنين السعادة ويسلبونهم الحق في معرفة الحقيقة، عالم تُساس فيه العامة بالتنويم المغناطيسي منذ الصغر، وبالمخدِّرات في الكِبَر. فالمواطن الصالح في العالم الرائع الجديد لا يُفكّر، بل يكتفي بترديد ما لُقّن في الصغر من مبادئ ومقولات تصبّ كلها في تمجيد نمطه في الحياة في مقابل أنماط العالم المتوحش.

ويبرز من بين الأشباه في هذا العالم ثلاثة شخوص تستقل بموقفها من حقيقة السعادة الممنوحة ومن البلاغة المعتمدة في صياغة هذه الحقيقة، ومن العالم الرائع الجديد كله.

فأما الموقف من حقيقة السعادة داخل هذا العالم، فيجسده “برنارد ماركس” المتبرم من واقعه اليومي البئيس، التوّاق إلى شيء آخر، هذا الشخص الذي لا يخفي تفهمه لأنماط حياة المتوحشين أثناء زيارته لعالمهم.

وأما الموقف الثاني فيجسده “واتسون هيلمهولز” الذي يستبد به شعور غامض بأن هناك أشياء أخرى نستطيع التعبير عنها لولا ضيق المسالك البلاغية المعتمدة من طرف الساهرين على الإعلام.

وينتهي الأمر بصاحبي هذين الموقفين إلى النفي والإبعاد عن المركز.

وأمّا “دجون المتوحش”، وهو الشخص المحوري في الرواية، فيبلغ به الإعجاب والافتتان بهذا العالم في بداية الأمر درجة كبيرة، حتى إذا خبِره من الداخل وجده عالمًا خاليًا من القيم، يقوم على تسطيح الوعي، وإخفاء حقائق الدين الجوهريّة، وطمس معالم فنون الماضي الراقية، وتفكيك أواصر القرابة داخل المجتمع.

يعجز “دجون” عن توصيل هذه المشاعر للآخرين، وذلك لأنه لا يتقن إلا لغة قديمة اكتسبها عبر احتكاكه بمسرحيات شكسبير، وهي لغة تحمل قيمًا أصبحت بالية، وتجسّد ضروبًا من البطولة الشعرية المهجورة.

يشتد الخناق على “دجون” في هذا العالم، فيعمد في نهاية الرواية إلى شنق نفسه، فيجده الآخرون جثة معلقة تتدحرج في كل الاتجاهات، كناية على فقدان الوجهة.

ننا نقف اليوم، من داخل الغرب، أمام قصة المواجهة بين “غزة المتوحشة” و “عالم إسرائيل- الغرب المتحضر” أصنافًا ثلاثة: منا من يردد المروية الرسمية المركوزة في وجدان وعقول الغربيين بفعل سطوة منظومة فكرية فنية إعلامية مستحكِمة؛ ومنا من يجرؤ على الشك في صدق هذه المروية ومن يريد إعادة صياغتها، فيواجه التهميش والنفي والإبعاد عن المركز؛ ومنا “المتوحش” الذي يصدح بالحقيقة عارية، وهذا لا مكان له داخل العالم المتحضر.

الحقيقة هي أن فلسطين ليست مدينة فاضلة جامعة مانعة، تجمع قيم الخير والجمال، وتمنع دخول قيم الشر والقبح؛ بل فلسطين ستظل أغنية يلهو بها طفل صغير، أغنية تنبع من تضاريس الأرض وتعكس ميلوديتها؛ قصيدة تحيل على الزعتر والليمون والزيتون وطائر الحسون. وهذا مصدر قوتها وسبب من أسباب بقائها حية رغم الدمار.

Share
  • Link copied
المقال التالي