لا شك أن مستقبل الحركة الإسلامية و العمل الدعوي، من القضايا المهمة التي تستحق أن تولى قدرا من الاهتمام من قبل الباحثين و المهمين، و هو مهم ليس فقط، بالنسبة لهؤلاء، و إنما بالنسبة لجمهور المسلمين عموما، و للمهتمين بمستقبل الدعوة ومستقبل الإسلام خصوصا، حيث يعتبر مستقبل أية دعوة أو أي دين مرتبطا بمدى همة المنتسبين إليه و العاملين على الدعاية له. فكيف يمكن تقويم واقع الحركة الإسلامية مقارنة بالأمس؟
إنه مما لا شك فيه أن الحركة الإسلامية اليوم تعيش على وقع انكسارات و تراجعات مثيرة، و تعرف إخفاقات و هزائم مدوية، لا سبيل إلى التنكر لها، لأن الواقع لا يرفع، كما يقولون. لقد فقدت الحركة الإسلامية كثيرا من هيبتها و زخمها و قوتها، و خسرت مصداقيتها بين جماهيرها، ولم يعد بمقدور قياداتها الزعم أنهم قادرون على السيطرة على الشارع، و سحب البساط من تحت أقدام خصومهم الإيديولوجيين. إن حاضرها اليوم، كارثي، بالمقارنة مع ما كانت عليه بالأمس، يوم كان المهتمون الغربيون يزعمون أن الإسلام السياسي هو “صوت الجنوب” و لا يتحدثون إلا عن سطوع نجمه، فما هي الأسباب التي تسعف في تفسير ما آلت إليه الحركة الإسلامية؟ أي لماذا انتهت إلى الإخفاق و الهزيمة؟
لقد كانت الحركة الإسلامية ـ كما يقول عبد الإله بلقزيزـ حركة “ظفراوية” تتغذى على إخفاقات غيرها، و تتقوى بضعفها، و كانت قوية و ضخمة عندما كانت تحافظ على عذريتها و طهارتها، و لم تكن قد تقلدت أية مسؤولية من مسؤوليات الشأن العام، و لم تخضع لأي اختبار، وكانت لا تزال حركة معارضة، تزايد على غيرها بما تزعم أنها البديل، و أنها القادرة على النهوض بالأمة، وأن خطابهاـ الذي يمتح من الماضي و يتكئ عليه في التأصيل لمشروعه ـ هو الخطاب الأوحد الذي لم يتم تجريبه، و أنه بمجرد أن يصلوا، هم، إلى السلطة، سوف يتغير كل شيء ، وستخرج الأمة من التخلف و تحقق إقلاعها الحضاري.
اليوم، و قد سقطت أوراق التوت عن عورات منظريها و قياداتها، و أصبحوا عراة امام العالم، تأكد للناس و للشعوب ـ التي كانت متعلقة بهم معلقة عليهم آمالها ـ أنها لا تختلف عن غيرها من ذوات “المشاريع التغييرية” و لا تحمل أي جديد، و أنها إنما كانت تمارس السياسة بالدين، الذي لا حظ لها منه إلا الخطب و المحاضرات، وأنها اخفقت في ممارسة السياسة كما أخفق غيرها، و كان إخفاقها أشد، و الأمر هنا لا يحتاج إلى كثير بيان، فالنموذج المغربي ناطق لوحده، بفساد النخبة السياسية الإسلامية، و زيف صلاحها و صدقها، فلم تلعن الجماهير حزبا سياسيا كما لعنت هذا الحزب “الإسلامي” و لم تحقد على نخبة كما حقدت على نخبتهم، خاصة و أن “الزعيم” ـ عندهم ـ ما فتئ يستفز شعور الشعب، بالقول أنه ـ هو زمرته ـ جاءوا إلى الحكومة من أجل الرفع من مستواهم المادي، و من أجل قضاء حاجاتهم الشخصية، و يذكرهم بما كانوا عليه من الفقر و ما أصبحوا عليه من الغنى، و لا يقف الأمر عند فشل النخب الإسلامية في المغرب فحسب، بل إن هذا الفشل و هذا الإخفاق امتد ليشمل كل الدول العربية التي وضعت جماهيرها ثقتها فيهم.
و إذا كانت هذه حال جماعات “الإسلام السياسي” فإن حال جماعات “الإسلام الراديكالي” و “الجهادي” لا تختلف عنها من حيث المصير الذي انتهت إليه، فقد ظهر لكل ذي عينين أنها أدوات، تستعملها القوى الكبرى للقتل و التدمير، و تقضي بها مآربها، و ـ شاءت أم أبت ـ لا تملك لنفسها حولا و لا قوة، حتى و إن خُيل لها غير ذلك .
لقد ظهر من خلال عدد من التسريبات أنها ليست إلا بنادق للإيجار، وقتلة تحت الطلب، و أن قياداتها ـ عددا منهم على الأقل ـ تم تجنيدهم و توظيفهم من قبل استخبارات عالمية، و أنها تنفذ لها أجندتها لا أقل و لا أكثر، سواء وعت ذلك أو لا، و أن قيادات تلك التنظيمات التي أوهمت الشعوب أن مشروعها مشروع “نبوي صادق” حتى اغتر بها عدد من الشباب و انخدع فتحول إلى وقود لنا لا تتوقف عن الحرق ،يتأكد ذلك، في كونها تلعب أدوارا مزدوجة ـ شعرت أو لم تشعرـ حيث تُستعمل عناصرها للتدمير، و يستعملها من تروج للناس أنها تجاهد ضده، لتبرير بقائه على السلطة وإضفاء الشرعية على استبداده. و يكفي النظر إلى تاريخ هذه التنظيمات، للتأكد من مدى صدق هذه الدعوى، و انظر إلى رأس حربة هذا اللون من الإسلام، لترى كيف مكنت ” لهبل العصر” كما يسمونه، للسيطرة على الوطن العربي و احتلال بلدين مسلمين، و كيف ساهم فرعها في بلاد الرافدين في إذكاء الصراع الطائفي المقيت بين المسلمين، و كيف تفيد منه الأنظمة في تكريس تسلطها و مواصلة قمعها لشوبها، بذريعة مكافحة الإرهاب، و كيف ارتد “الجهاد” المزعوم إلى داخل الوطن العربي، و استهدف العرب و المسلمين، حتى إذا قلنا الإسلام الراديكالي” ضر و لم ينفع و خرب و لم يبن لم نعدُ الصواب، فقد ولغ في الدم وأزهق الأرواح و الأنفس و هدد الأمن و الاستقرار في عدد من بلدان الوطن العربي المنهك و المثقل بالجراح.
أما بالنسبة للإسلام “السلفي” الموالي للسعودية، فأمره لا يخفى على أحد، و الأدوار التي يلعبها لصالح التخلف و الانحطاط، و لصالح الأنظمة المستبدة، لا تحتاج إلى ان نُذكر بها، فهي تنظيمات أقل ما يقال عنها، انها أدوات يتم استعمالها لتقليم أظافر التنظيمات “الإسلامية” الطامحة إلى الوصول إلى السلطة و المناضلة ضد الدول. و هذه الحقيقة أيضا، تظهر واضحة في تأويل الدين، نفسه، لصالح الاستبداد و إصدار الفتاوى المنفرة من جماعات النضالية “الإسلامية” و اعتبار هذه الأخيرة، أخطر على الدين من الأنظمة القائمة، من حيث أن هذه الأخيرة لا تزيد عن أن ترهن حاضر الأمة و مستقبلها للأجنبي، و لا تتدخل في ما يتعلق بعقائد الناس، في حين أن تلك الجماعات تشكل تهديدا مباشرا على الدين نفسه، لأنها طوائف بدعية، وبالتالي، تكون مواجهتها أولى من مواجهة تلك الأنظمة. و قد بدا ذلك في الرسالة التي وجهها أحد قياداتهم لمريديه و أتباعه في ليبيا، محرضا إياهم على القتال ضد الجماعات الإخوانية الموالية لتركيا
الأمر الذي شوه الدين نفسه، و أسهم في إسقاط “قداسته” و إخراجه عن وظيفته الوجودية السامية، فتحول إلى “إيديولوجيا خطيرة” كما توقع المرحوم محمد أركون.
و إذا كانت صورة تلك التنظيمات وفق ما قلنا و وصفنا، فإن الحال بين تلك التنظيمات، لا يبعث على التفاؤل، حيث أن كل و احدة من تلك التنظيمات تتهم غيرها بالخيانة و ترميها بالعمالة، و تفسر وجودها بالتآمر عليها و التنسيق مع “العدو” للنيل منها و استئصال وجودها. و لذك لا تتوقف كل منها عن البراءة من الأخرى و التحريض عليها، و هكذا الحال بين كل من التنظيمات المحسوبة على “السلفية الجهادية” و “السلفية الإرجائية” و بين غيرها من المحسوبة على “الإسلام السياسي” ، كل واحدة من تلك الجماعات تزعم انها وحدها تمثل الإسلام “الأصيل” و أن غيرها تخذله و تغدر به. و الأمر ليس مختلفا بالنسبة للطرق و الزوايا الصوفية و الجماعات المتقاطعة معها، حيث على الرغم من الدعم الذي تتلقاه من قبل الدول، إلا أنه لا صوت لها اليوم و لا أثر، و الكل يلاحظ تراجعا واضحا على مستوى أدائها وتأثيرها في الواقع.
بالإضافة إلى المصير الذي انتهت إليه تلك التنظيمات ، هناك أيضا الحال التي أصبح عليها مشايخ الإسلام، و الفضائح التي تم التركيز عليها في العقد الأخير، و المفارقات الكبيرة التي تعرفها فئة الدعاة و المشايخ و الرموز و الأعلام الدعوية، التي كانت تتناسل كالفطريات، لما تعلم أن الطريق الأكثر اختصارا للوصول إلى النجومية، هو التوسل بالخطاب الأصولي الديني، و التحول إلى احتراف الدعوة إلى الله للتكسب و الاغتناء، فتم كشف حقيقتهم و تحالفاتهم، و علاقاتهم المشبوهة مع أنظمة الاستبداد و الخدمات التي يقدمونها له، وكذا أدوارهم في تضليل الشعوب، و نشر الوعي الزائف و تعميق ثقافة التخلف و الانحطاط، خدمة للقوى الرجعية المتحالفة مع الاستكبار العالمي، وهو الأمر الذي لا يمكن تفسيره إلا برغبة القوى المتحكمة، في وضع حد لهذه الفئة المتاجرة بالمقدس و المغتنية به، و إذا اضفنا إلى ذلك البؤس المعرفي و الفكري الذي يزري بمكانتهم ك “علماء” دين محترمين، و الذي ينكشف في طبيعة ردودهم على خصوم الإسلام و مخالفيه، حيث يبدو تواضعهم العلمي واضحا جدا، إلى درجة أن الإسلام نفسه ـ كما يظهر في خطابهم ـ يبدو هشا و مهلهلا، و غير قادر على الصمود في مواجهة مطرقة الأسئلة النقدية الحارقة، التي ما برح هؤلاء الخصوم يطرحونها، و يستفزون بها العقل المسلم غير المسلح بالعلم و الفلسفة، أقول إذا أضفنا ذلك إلى ما سبق، توضح لنا ان كل الشروط و الأسباب موجودة ليفقد هؤلاء ليس فقط تأثيرهم وسلطتهم على الشارع المسلم و لكن أيضا احترامهم.
يبدو أن الذين مكنوا لهؤلاء، و دعموهم و عملوا على صناعتهم، حتى ظن الناس أنهم فعلا “موقعون عن رب العالمين” و أنهم حراس عقيدته و دينه، هم أنفسهم الذين قرروا إنهاء سلطتهم، و إنهاء وجودهم بالمرة، فعملوا على نشر غسيلهم و كشف زيف تدينهم . كما يبدو و بالواضح، أيضا، أن الحقبة التي اعتبرت الحركة الإسلامية الأقوى في حلبتها، قد انتهت، أو على الاقل سيتم تقليص مساحتها، و التضييق فيها عليها في أفق الانتهاء منها.
و لكن إذا كانت هذه الحال هي حال الفئة “العُلمائية” إذا استعرنا هذه العبارة من عند رجال الدين الشيعة، و هي كذلك بدون شك، و هي التي تفسر لنا خروجهم من دائرة التأثير و الفعل، و تحولهم إلى كائنات سلبية معرقلة لمسيرة التحرر و الانعتاق، فإن السؤال الآن هو إلى اي حد يمكن أن يؤثر هذا الوضع على مستقبل الإسلام نفسه؟ و هل يمكن أن نتحدث عن مستقبل مظلم يتهدد الإسلام كدين؟
إنه على الرغم من قول البعض، أن انحراف هؤلاء الشيوخ و الرموز عن الإسلام لا يعنيهم إلا هم، و أنه لا تأثير لانحرافهم على الإسلام، لأنه ـ كما يقولون ـ لا يجوز أن يحاكم الإسلام بأخطاء و خطايا المنتسبين إليه، و إذا كنا نعتبر هذا الكلام لا غبار عليه، إلا أننا نستشرف مستقبل الدين الإسلامي، انطلاقا من محددات و مؤشرات عدة، منها و على رأسها هذه الوضعية التي انتهوا إليها
إن مما لا شك فيه، أن تحطيم الرموز و الأسماء التي ترتبط بها الدعوة إلى دين ما أو إيديولوجيا معينة، مدخل مهم، و مهم جدا، للنيل من هذه الدعوة أو تلك، لأن بيان خيانة تلك الأسماء للدعوة، أدعى أن يجعل المنتسبين إليها من الزاهدين فيها، و ذلك للأن الشك يسيطر عليهم، و يفقدون، بالتالي، الثقة في تلك الأسماء، كما في الدعوة ذاتها.
إن استخفاف الدعاة بالدعوة، يفقدها قيمتها و مصداقيتها و قوتها، و يشجع الناس على انتهاكها و الانفلات منها، كما يزيد ذلك استفحالا، الهجمات المتتالية التي ما فتئ الإسلام يواجهها من الداخل و الخارج، و من قبل أناس لم يعد يعنيهم شيء، و هم مسلحون بالوعي و بالمعرفة، والجرأة التي يتوسلون بها في التصريح بمواقفهم و تحديهم السافر للقائمين الإيديولوجيين، و ما يجر إليه ذلك، من تشجيع غيرهم على أن يحذوا حذوهم، و يعلنوا خروجهم من الدين و يبرؤا منه، الأمر الذي يعني أن رقعة من يجرؤون على إعلان ردتهم عن الإسلام أخذة في الاتساع، في مقابل الخطاب البئيس الذي انتجه هؤلاء الدعاة، و الذي لم يعد يصلح لشيء، و لم يعد مقنعا، لأنه ليس ملائما للمرحلة و ليس في مستوى التحديات، و العاملون عليه لا يجتهدون لتطويره، و إبداع “علم كلام” جديد ، يستوعب المعطيات الجديدة، و يتعامل مع التحديات القائمة المهددة لثقافته، بخطاب جديد يمتح من الفلسفة و العلم، و لا غير.
إنه و أخذا بعين الاعتبار، تلك النهاية التي أضحت عليها الحركات الدعوية، بكل ألوانها و عناوينها، و النتيجة البئيسة التي حصلت عليها، كحصاد لسنوات عديدة من العمل الدعوي الدؤوب، و الصورة التي كشفها عرابو هؤلاء الدعاة و المدبرين للمقدس، بلغة فيبر، و بؤس الخطاب الذي أنتجوه و استثمروا فيه منذ زمن، و الهجمات التي يخوضها جمع ممن يجندهم الغرب، لإشغال العرب و المسلمين، و توجيه بوصلة تفكيرهم، و عجز مثقفي الإسلام عن الرد عليهم الرد العلمي الجاد ، كل ذلك يؤذن بأن التساؤل حول مستقبل الحركة الإسلامية، ليس مبررا فحسب، بل يحمل جوابه في داخله، و يجعل التساؤل أيضا عن مستقبل الإسلام، مشروعا كذلك، ليكون الجواب عنه هو أن الإسلام الذي سيسود، في المستقبل المنظور على الأقل، هو الإسلام الذي لن يحتاج فيه المسلمون إلى “انبياء كذبة” أي إلى شيوخ و دعاة، و إنما سيكون كل واحد نبي نفسه و شيخها
لقد قال أحد مفكري العرب أن ختم النبوة ليس معناه فقط، أن عصر النبوة قد انتهى، و عصر الانبياء قد ولى، ولكن معناه أيضا و على الحقيقة، أن الله نفسه، سيرفع وصايته عن الإنسان، و سيتوقف عن التدخل في شؤونه من خلال التأسيس لقواعد تشريعه و فرضها، و أن الإنسان اليوم هو الذي سيتولى أمر نفسه، و سيعمل على تدبيرها انطلاقا من قواعد عقله و مبادئه، وليس انطلاقا من إملاءات الله وتوجيهاته، التي بكرس بها رجل الدين سلطته.
تعليقات الزوار ( 0 )