ربّما أتّمت “صالِحة حَمدين” الآن، عامَها الثاني العِشرين، بعدَ ثمانية أعوامٍ مِن سَفَرها الطّفلِ عبرَ خيالاتِ التّمني والإحالة إلى جائِزة هانز كريستيان الدّوليّة للقصّة الخياليّة. ربّما اجتازَت شهادَة الثانويّة العامّة وأهدَتها لوالِدها القابع خلفَ قضبانِ العدوّ، ولتجمّعها البدويّ الصامِد جدًا، لتجمّعات عرب الجهالين، والخانِ الأحمر، والأغوار ولكلّ المناطِق المهدّدة بالنّكبة الجديدة:الضّم. ربّما تزوّجت الآن، وربّما لم تحظَ بفرصة استِكمالِ دراسَتها، لكنّ ما لا يَقبلُ الشّك، ولا يَقبلُ دُخولَ (ربّما) أنّها ما زالت تعيشُ في الطّرقاتِ الوعِرة لتجمّع عرب الجهالين، وتواجِه الاحتِلال العُنصريّ وآلاتِ قمعه بيديها الصّلبتين من خيمَتها الصّغيرة في (وادي أبو هِندي)، وأنّها ما زالت، عبر رؤاها، تنظُرُ إلى وطنٍ فلسطينيّ كامِل التّراب، وإلى الفِكرة التي لم يستَطيع احتِلالٌ على وجهِ الأرضِ فرضَ الحِصار عليها: الحريّة. أستذكرها اليوم، وما تبقّى من فلسطين، بعد ما ابتلعته النّكبة والنّكسة ووحش المستوطنات، يواجه نكبة أخرى تتمثّل في ضمّ مناطق من الضّفة الغربيّة لدولة الاحتِلال التي تمارس أبشع أبارتهايد في التاريخ بحقّ الشّعب الفلسطينيّ وأرضه وتراثه وذاكرته.
كتبتْ صالحة:
“اسمي صالحة، أنا من مَدرسة عرب الجهالين، أعيشُ في خيمة صغيرة في (وادي أبو هندي)، عمري 14 سنة. في النّهار أدرسُ بمَدرسة القصَب، وقد صَنعوها من القَصب؛ لأنّ الجنود أعلنوا أنّ أرضنا منطقة عسكريّة مُغلقة، حيث يتدرّبون على إطلاق النار في منطِقة الزراعة، يَعيشُ معنا في الخيمةِ سَبعون نعجة، وأقوم أنا بحلبِها بعد أن أعودَ من المدرسة، وأصنع الجُبن ثمّ أبيعه لأهل المدينة.
الطّريق هنا وعِرة؛ لأنّ الجنود يمنعونا من تعبيدها، ويتدرّبون على إطلاق النار في الليل، وأنا أكره صوتَ الرّصاص، أكادُ أجنّ منه، فأهربُ، نعم أهرب. لا يوجد لديّ دراجة هوائيّة؛ لأنّ الطريق وعرة، ولا سيارة عندي ولا طيارة، لكن عندي شيء أستخدمه للهروب، اقتَربوا، اقتَربوا، سـ”أوشوشكم” سرًا، عندي خروفٌ يطير، اسمه “حنتوش”، لونه أسود، وأذناه طويلتان، له جناحان سريّان، يخبّئهما داخلَ الصوف، ويخرجهما حين أهمس في أذنيه يا حنتوش، يا خروف، اطلع جناحيك من تحت الصوف، أغنّي في أذنيه، فيما يبدأ الجنود بالتدرب على إطلاق الرصاص، أركبه فيطير بي، والبارحة هربنا إلى برشلونة، سَنقول لكم شيئًا، في (وادي أبو هندي) لا يوجد ملاعب أصلًا؛ لأنّ الأرض مزروعة بالألغام.
في (برشلونة) قابلنا “ميسي” صاحب الأهداف الكبيرة، لعبنا معه لساعات طويلة، خروفي “حنتوش” كان واقفًا حارسًا للمرمى، وأنا أهاجم “ميسي” وفريقه، أدخلنا في مرماهم خمسة أهداف، أراد “ميسي” أن يضمني أنا و”حنتوش” إلى فريق (برشلونة) لكنّنا رفضنا، نريد أن نعود إلى (أبو هندي)؛ لأنّ الأغنام هناك تنتظرني، فلا يذهب أحدٌ غيري ليحلبها، فأبي في السّجن منذ ستّ سنوات، وبقي له تسع عشرة سنة، سأقول لكم سرًا: أخبرني “ميسي” أنّه سيزور (وادي أبو هندي)، بعد سنتين سَنقيم مونديال 2014 في (وادي أبو هندي)، سننظّف معًا الأرض من الألغام، وسنبني أكبرَ ملعبٍ في العالم، وسنسميه ملعب حنتوش، وسيكون الخروف شعار المونديال، وأهلًا وسهلًا بكم جميعًا في (وادي أبو هندي)، نحن جميعًا بانتظاركم”.
بهذهِ القصّة القصيرة جدًا فازَت صالِحة بجائِزة هانز كريستيان الدّوليّة للقصّة الخياليّة للعام 2012 من بينِ نحو 1200 قصّة مُشارِكة. كانَ خيالُها خصبًا بما يَكفي ليحمِلها إلى ما تُريدُ الطّفلة فيها، كانَ خصبًا ليخلق جَدلًا وجوديًا في ماوراء النّص، وليصفَعَ العالَم على وجهَه: هُنا يبحثُ الطّفل الفلسطينيّ عن الحياة كأطفالِ العالم، ولو لم تَكن سُبل الفرحِ معبّدة، ولو كانَت أحلامُه (روتينًا) يوميًا لطفلٍ في مكانٍ آخر. هنا لم يَعد هُناك فرق بين الواقعيّة والفنتازيا؛ فما يشاهده ويكتبه الفلسطينيّ واقعيًا اليوم لم يُخلق إلّا في أذهانِ مترفي الحُزن في اللّيالي الباردة للرّواية، أو في قلبِ “جوناثان” عِندما صَعد إلى “أنجيلا”؛ الحياة الثانية المُتخيّلة في رواية النّرويجيّة أستريد ليندرجين، كأنّ ذلكَ الخطّ الفاصِل بين الواقعيّ والمتخيّل اختَفى، فهَل سيصدّق العالَم بعدَ آلافِ الأعوامِ أنّ عشر نساء بكينَ على قبرِ شهيد واحد أخفت القذائِفُ ملامِحه، وكلٌ واحدةٍ منهنّ تظّنه زوجها كما أوردَ إبراهيم نَصر الله في “أعراس آمنة”، هَل سيصدّق العالَم أنّنا نكتبُ أدبًا واقعيًا محضًا فقط، ولو كانَ بطله “حنتوش”!
كم هي مرعبة طفولتنا المُتورّطة بفكرة البُطولة، المَحرومَة من حقّ الحياة، واللّعب، المتملّصة من أسمالِ الضّحية. المشهدُ اليوميّ يتكرّر: سَيغيب الشّهيد الطّفل عَن مَقعدِه الدّراسي للعامِ المقبل، ستفتَقدُ أمّه حركَته الشّقية في البيت، سينامُ سريره باردًا، وباكرًا، لا أحد سَيبحثُ في مواضيع التّعبير التي كتبها ومزّقها عَن رغباتِه، ولا أحد سيدخل خلسَة لمخيّلته ورؤاه؛ ليعرفَ أحلامَه الصّغيرة: السّفر، العَشاء الحميميّ مع العائِلة، دراجَة هوائِية، حَفنة فرح، ورغيفِ سعادَة ساخِن، ستفتقده أزقّة المخيّمات الضّيقة، وكرته الأثيرة، وألعابُ طفولَته التي تكسّرت بينَ الطّفولة والبطولة، ولم تحدّد موقفها مِن الأمر، سيفتَقده مستَقبله الذي انتزعَ مِنه خلسَة، كانَ يحلم ربّما أن يكونَ طيارًا، أو بستانيّ حديقة، أو طبيبَ قلب، كانَ يحلمُ أن ينصَهر المخيّم إلى حدودِ البحر، وتعود فِلسطين تسعى إلى الشّواطئ، كانَ سيكتب سرديّة طويلة عن البحر والبرتقال، والرّجالِ البنادِق، لفرطِ ما كانَ يتهجّى روايات كنفاني. سيَغيب جدًا عَن فكرة الجسد والمكان عند حسين البرغوثي، وسيخلقُ جغرافيا جديدة بلا حدود أو أسلاك شائِكة، ثمّ يحضر كلّ ليلة على هيئة حمامةٍ بيضاء، أو عصفورٍ ملوّن إلى “شبّاك” طفلٍ آخر يملأ حلمه بالصَباحات النّقية، قبل أن يأتي الجنود مدجّجين بخوفهم لاقتلاع بسمة طفلٍ.. أو شالِ جدّة تسعينيّة.
لو أستطيعُ إعفاءَ (ربّما) من التّكرار المملّ في نصوصِ الفلسطينيّ لفعلت، وأيضًا لكنت أعفيت “حنتوش” مِن دخولِ الأسطورة، وارتِداء وجه المُخلّص.
تعليقات الزوار ( 0 )