Share
  • Link copied

حمودي: الصراع بين “الدعويين” و”الحداثيين” مُضر بالطبقة الوسطى.. والتمازج بين المحيط والخليج “عملة صعبة”

حاوره نور الدين لشهب

دعا عبد الله حمودي، عالم الأنثروبولوجيا المغربي، إلى إخراج التمازج من خانة المهملات ما بين مجموعة عناصر أمازيغية، وأيضا ما بين الأمازيغيين أنفسهم، وأمازيغية وعروبية، وما بين عروبيين أنفسهم.

واعتبر حمدوي أنه منذ نزوح العرب إلى هذه المنطقة لم يكن هناك برنامج للقضاء على الأمازيغيات، كما تدّعي بعض الأصوات، على عكس بيض أمريكا الذين وضعوا الهنود في محميات.

ودعا عالم الأنثروبولوجيا المغربي، أيضا، إلى الحفاظ على ما وصفها بـ”العملة الصعبة” التي تمتلكها المنطقة، وهي الاندماج والتمازج الذي لا تزال بلدان متقدمة تبحث عنه إلى حدود الآن.

وطالب عبد الله حمودي، عالم الأنثروبولوجيا المغربي، إلى تحرير الخطاب السياسي الراهن، لأن الصدام بين المعسكرين الدعوي والحداثي يضر بالطبقة الوسطى ولا تستفيد منه سوى الأنظمة الشمولية.

وانتقد حمودي، في هذا الحوار الشامل، بعض المصطلحات التي جرى تداولها في المجال السياسي ومنها مصطلح “الإسلامي” واقترح بَدلها مصطلح “دعوي” لأن الدعوة منفتح أفقها بينما الإسلام السياسي يسد أفق الدعوة ويحصرها في الجانب السياسي.

إليكم الحوار مع الأنثربولوجي عبد الله حمودي…

أستاذ حمودي أهلا وسهلا ومرحبا بك في حوار مع جريدة هسبريس، دكتور حمودي ليس لديك هاتف نقال خلوي أو صفحة على مواقع التواصل الإجتماعي كـ”الفايسبوك” أو “تويتر”، كيف لعالم في الأنثروبولوجيا أنْ يحجم عن التواصل في زمن انفجار التواصل؟

شكرا لكم، هذه مناسبة سعيدة للتواصل معكم والجواب عن أسئلتكم.

أولا، ليس لدي هاتف نقال لأنه ليست لدي حاجة به، فأنا لستُ رجل قرار أو لدي مهمة تستدعي الاتصال الدائم كي أجيب، ثانيا ابنتي وابني الآن تجاوزا الخامسة والعشرين سنة، يعتمدان على نفسيهما، ويتصلان بي عبر الهاتف الثابت أو عبر البريد الإلكتروني، فلا داعي للهاتف النقال، كما أقدم للناس مواعيد للاتصال بي إما من الساعة السابعة والثامنة والنصف صباحا أو بعد الثانية والنصف بعد الزوال، لكوني أكون مشغولا بين الساعة التاسعة والواحدة بعد الزوال في مكتبي، وليس لدي هاتف في مكتبي.

أما بالنسبة لـ”تويتر” إن اطلعتَ عليه، ستجد أن بعض محاضراتي تقوم بنشرها الهيئات التي تستدعيني على هذا الموقع، وكمثال على ذلك محاضرة ألقيتها بجامعة دينيك بالهند تم نشرها في “تويتر”، وهذا الأخير بالنسبة لي أداة للتواصل للإنسان الإخباري والصحفي أو لبعض الأمور المستعجلة كالأخبار، وأنا كباحث ما أكتب من مقالات وكتب هي للكاتب المتأني الذي يحب التفكير.

كما أن هناك مواضيع الساعة كإصلاح التربية والتكوين أبدي فيها رأيي في الجرائد الوطنية، مثلا في جريدة كـ”أخبار اليوم” أو جرائد أخرى، فلا أحس بالحاجة لتلك الوسائل، أما بالنسبة للـ”فايسبوك” فهو اجتماعي ومهم في حد ذاته، أو هو شيء يتعاطاه أناس يريدون تبليغ أفكارهم يوميا، أنا أعرف مثلا أن الفقيه الريسوني له صفحته في “الفيسبوك”، وفقهاء آخرون لهم صفحاتهم في “الفيسبوك” يمكن أن تكون لهم أغراضهم الخاصة، أما أنا فليست لي أغراض به وهو أداة للتواصل الاجتماعي. طبعا، قد أبحث يوما ما عن آراء الناس في موضوع معين كباحث لكن ليس الآن.

ربما يتعلق الأمر بموضوع الدعوة والدعاية؟

نعم، موضوع الدعوة والدعاية؛ نعم أنا كتبت فصلا في ذلك في الكتاب الجديد الذي صدر لي مؤخرا..

نعود معك لكتابك الجديد المعنون بـ”الحداثة والهوية سياسة الخطاب المعرفي حول الحكم والدين واللغة”، في هذا الكتاب أطلقت على الإسلاميين مصطلح “الدعويين” أي أنهم يمارسون الدعوة عن طريق الدعاية؛ ما الفرق بين الدعاية والدعوة أو ليست الفصائل الأخرى تتوسل بالدعاية من أجل الدعوة؟

طبعا هذا سؤال وجيه، لكن أظن أني فرقت في الكتاب بين الدعوة والدعاية. أقول مصطلح الدعوة هو ناضج تقليديا في هذا المجال: مصطلح الدعوة هو العودة إلى الله بالوعظ والرسالة والخطبة أو أي شيء، لكن بالنسبة لي هي الدعوة إلى تصحيح المسار في الدين أو إلى تبليغ الناس إلى مباشرة شعائرهم أو التعلق بها، هذه هي الدعوة.

لكنَّ الفرق هو أن الرجل أو المرأة اللذين كانا يقومان بالدعوة كانا لا يسدان أفق الناس، فهما يدعوان إلى الله ولكن يتركان الناس أحرارا بالنسبة لآفاقهم. اليوم الدعوة الجديدة تسد الآفاق. فإذا قرأت اليوم مثلا أمثلة مغربية، ستجدها تشبه الشرقية -وأنا قرأت لسيد قطب والمودودي أو حسن البنا لكوني درستهم في الجامعات، هؤلاء بالنسبة لي يسدون الأفق ويقولون -بالنسبة لي- الأفق الوحيد للفلاح في الدنيا والآخرة هو هذا، وإلا فإنكم مفسدون أو جاهلون يمكن الحكم عليكم بالتكفير والجهاد فيكم. هذا هو الفرق بين الدعوة والدعاية، فالدعوة هي دعوة الناس إلى الرشد وإعانتهم على دينهم وتتركهم أحرارا في أفق تفكيرهم ومعاملتهم…

فهمت من كلامك أن هذه الدعوة تسد الأفق وتمارس خطاب الإكراه على الناس، لكن، أليست الدعوات الأخرى الإيديولوجية دعوات كذلك وتمارس الدعاية لتسد الأفق على الناس؟

هذا سؤال وجيه، لكني لما صغت مفردة “دعوي” كان ذلك بالأساس لحل مشكل مفردات “إسلامي” و”غير إسلامي”؛ وكانت العلوم السياسية الفرنسية اخترعت هذا المصطلح المشؤوم “الإسلاميون”. وأنا أقول إن الناس في بلادنا مسلمون ويهود وكل الناس مسلمون وليس فرق بين هذا إسلامي وهذا غير إسلامي، رغم أن هذا مسلم لا ينخرط في التنظيمات التي تدعو إلى الإسلام، فصغت هذا المفهوم حتى نفرق بين الدعوي وغيره؛ فالناس كلهم مسلمون، لكن عندنا اليوم تنظيمات دعوية، ولا أريد أن أقول إسلامية لأننا سنسقط عن التنظيمات الأخرى صفة الإسلام.

هذا مفهوم واضح، لهذا صغت مفهوم “الدعوية”. ما أقوله في ذلك الفصل، هو أن هناك الكثير من التنظيمات أو الأشخاص الذين يدَّعون الدعوة، ولكن في الحقيقة يمارسون دعاية سياسية في قالب دعوة. وطبعا، أنا شخصيا أحبذ الرجوع إلى الدعوة بمفهومها القديم الذي عرفته.

في الصفحة 150 من نفس الكتاب تقول بأن ثنائية حداثي/غير حداثي هي مفتعلة ويبقى النظام السياسي هو المستفيد من اصطدامات حاصلة بين معسكرين ينتميان في حقيقة الأمر إلى الطبقة الوسطى بالمغرب، ولكن النظام السياسي نفسه له وجهان حداثي/غير حداثي بل إن التقليد هو الغالب كما يرى الكثير من الباحثين، فكيف يمكن دحض هذه الثنائية.

قصدي في تلك الصفحات أن أقول إن هناك الكثير مما هو مشترك بين الناس الذين يقولون عن أنفسهم أنهم حداثيون أو يعتبرهم الآخرون حداثيين، وبين الناس الذين يعتبرون أنفسهم إسلاميين كما يقولون أو ينعتهم الآخرون بذلك النعت.

أنا أقول إن هناك الكثير من المشترك، وذلك المشترك يوجد في الحياة اليومية وفي الممارسات الأساس، مثلا ليست هناك طريقة دفن خاصة بالحداثيين، وليس هناك طقس خاص بالحداثيين في الزواج الحداثي، كما أن الدعوي والحداثي يبحثان عن الحافلة ثلاثة أيام قبل العيد كي يشاركا أهلهما في أكل “البولفاف” (شواء عيد الأضحى).

هناك إذن حياة وممارسات يومية كثيفة، وهناك مشترك في التفكير لأن الحداثي والدعوي، كما هو الحال بالنسبة لي، يدعوان إلى تخليق الحياة العامة وتخليق السياسة أو تخليق ميدان المال والمعاملات المالية. فأنا أفكر في خلفية الفصل بينهما ونسيان المشترك. في الكتاب هناك الكثير من القواسم المشتركة، والسؤال هو إذن: لماذا القطيعة؟ ما هي وظيفة القطيعة؟ أو ما هي الوظيفة التي تكمن في كون الحداثي يقول: “هذا أصولي متجمد”، ومن يسمى بالإسلامي يقول: “هذا حداثي ملحد”؟؟!!

مثلا، الأستاذ الريسوني كلما تحدثنا عن الحريات الفردية، يقول زنا المحارم! فمن يقول بزنا المحارم من بين الحداثيين؟ فمن ينادي بالحرية ليس غرضه هو زنا المحارم. وكما قال الغنوشي في تونس: لا مشكل مع الخمارات فستبقى في تونس مفتوحة، وكأن الحداثيين الذين ينادون بالحرية لا هم لهم إلا تناول النبيذ!

يجب التخلي عن هذا النوع من التفكير، فهناك المشترك وهو كثير، والسؤال يبقى هو: لماذا ننفي المشترك؟ لمَّا نتساءل لماذا ننفي المشترك بهذه الطريقة العنيفة، نجد أن ذلك النفي يفتح باب السياسة وباب الدعاية. إذن أنت في الحقيقة كدعوي تريد إقصائي أنا كحداثي من المشاركة في الميدان السياسي أو في ميادين أخرى عبر آلية هذا النفي.

إذا أردت أن تقصيني فأقصني. فأنت حر، قل: أقصيك! لكن المشكل يكمن هنا بالضبط، فالدعوي لا يقول لك: أقصيك، بل يقول لك عوض ذلك أنت حداثي وأفكارك دخيلة على المجتمع رغم أننا في ممارساتنا وكيفية عيشنا وفي التدين سواسية، فالحداثيون يصلون كبقية الناس بالجماعة ويصلون في بيوتهم ويتحاشون الكذب أو الغش وهذا شيء مشترك.

مثلا، لماذا نلغي المشترك ونتشبث بتلك النمطية في التصنيف والحكم؟ فحين يشتغل التنميط تكون سياسة الخطاب، وهذه الأخيرة هي شيء يقولب الخطاب وينمطه، لكن صاحب الخطاب أو منتجه لا يقول: إني أنمط لأقصيك من السياسة، فسياسة الخطاب تكون خفية وكامنة.

أنت تقول بأن النظام السياسي هو الذي يستفيد..؟

طبعا إذا اقتنعت، وأتمنى أن يقتنع الجمهور أن هذين المعسكرين هما من الطبقة الوسطى، وهي الطبقة الخلاقة في المجتمعات، فهي التي تبحث عن الشيء الجديد وتبحث عن تحسين الأوضاع سواء المعنوية أو المادية. إذا كنا من هذه الطبقة، فهذه التفرقة بالتنميط تخدم تسلط الحكم القائم. وهذا بالنسبة لي أنا واضح، فبدلا من التكتل في صف ينادي بما هو مشترك ويمكن أن يضغط على المؤسسة الحاكمة والضغط هنا ليس بمعنى العنف ولكن بمعنى تفاوض صف قوي باحترام وليس بحرق الدار، فإذا توحد هذا الصف (الطبقة الوسطى) بإلغاء ذلك التنميط الشائع والقائم على نسيان المشترك، فيمكننا تحقيق التقدم في اتجاه الديمقراطية لان الطبقة الوسطى منقسمة على نفسها.

تقول كذلك في نفس الكتاب إزاء هذه الاصطدامات بين حداثي/غير حداثي أن الشباب اتخذ حلولا توفيقية مبتكرة إزاء هذا الصراع المفتعل، أو ليس هذا أستاذ حمودي يضرب في العمق خطاطة الشيخ والمريد التي ألهبت مجموعة من المثقفين والسياسيين والمفكرين الذين يتابعونك إبان صدور كتاب الشيخ والمريد في طبعته الغربية مع بداية الألفية الثالثة؟

أنا لا أظن أن هذه ضربة في العمق، وأظن أن سؤالك أعم ويتعدى بكثير كتابي “الشيخ والمريد”. إذا اطلعت على الكتاب، ففي الخاتمة، أقول: إن الشباب لم يبق مقتنعا بهذه الأمور، وبأن الشباب يتوق للتحرر. أقولها في الخاتمة. أنا حاولت البحث في خطاطة هي التي حكمتنا، ورغم ذلك ذكرت في الفصل الأول النضال المرير للحركات الشعبية بما فيها مثلا حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ومن بعده حزب الاتحاد الاشتراكي وأحزاب أخرى ومنظمات أخرى اشتراكية.

في الفصل الأول من الكتاب، أقول إن قوى ليست مطمئنة لهذه الأمور وكل ما حصل تاريخيا أن تلك القوى أضعفت بالقمع وبالرشوة ووسائل أخرى. وأقول في الخاتمة أيضا أن النظام تمكن من تطبيق تلك الخطاطة، ولكن اليوم الشباب أصبح مقتنعا بتلك القضية ولا يطيق هذا الأفق الضيق. وما ظهر اليوم لا يضرب في العمق الشيخ والمريد، لأني لم آت بخطاطة أزعم أنها أزلية.

إن خطاطة الشيخ والمريد تفسير لنظام أُنتج في مرحلة تاريخية معينة، وتقوَّى فيما بعد رغم أن الناس قاوموا من قبل وغُلبوا على أمرهم، والآن الشباب بدأ يخرج من هذه الخطاطة. وأظن الآن أن حركة 20 فبراير وحركات أخرى هي امتداد لهذه الخاتمة.

ربما هذه الخاتمة هي التي جعلت الدكتور حمودي كمفكر مغربي لم يتردد في مساندة حركة 20 فبراير؟

20 فبراير أعتبرها عودة الروح، فلما ظهر الحراك كنت في الهند وأتابع الأحداث عبر الإنترنيت – لاحظ أنا لا أقاطع الانترنيت- وكنت أطبع بعض الأوراق وأرسلها لتنشر في الجرائد لأني كنت مع الحراك يوميا.

أنا لا أتردد في الدفاع عن نفس القيم كالحرية والكرامة والقيم التي تدافع عن المعتقلين كيفما كان لونهم. أنا مستعد للخروج للدفاع عن رفاقي لإعطائهم كامل الحرية والدفاع عن حقوقهم. وروح فبراير أظن أنها لم تمت رغم وجود تفسير لتراجع ذلك. لن أعود لذلك، لكن أقول إن الثورات ليست بقطار تحجز فيه مكانك من طنجة إلى مراكش، وطبعا يتوقف في محطات معلومة ومرسومة مسبقا.

في محاولة تحرير الخطاب السياسي من الاصطدام تتحدث عن التآلف أو التأليف بين الحرية والعدالة في الصفحة 114 من الكتاب، هل التأليف يحتاج لخطاب سياسي بديل عن هذا الخطاب شئنا أم أبينا هو كذلك يسعى للسلطة والهيمنة، فما هي ملامح هذا الخطاب الذي تريد أن تخلصه وتدعو إليه أستاذ حمودي؟

سؤال مهم أيضا، الخطاب السياسي على خلاف الخطاب الفكري (الخطاب الفكري لا أنوي من ورائه الوصول إلى منصب سياسي، بل أقول إذا أردت أن أحظى بفكرية خطابي ليس لي طموح سياسي، ولكن هذا لا يعني أني لا أطمح في المناقشة مع السياسيين وفي إقناعهم بأشياء) يطمح للوصول إلى السلطة. وهذا مشروع ولا تشوبه شائبة، المشكل الذي تتحدث عنه هو التسلط على الآخرين: تصل للسلطة وبعد ذلك لا تقبل أن يقاسمك أحد فيها، ولا تقبل آراء الآخرين.

وبما أني ديمقراطي، فأنا أقبل أن يطمح الخطاب السياسي للوصول إلى السلطة، لكن ولوج منصب السلطة لا يجب أن يكون على حساب القيم الديمقراطية كالتشاور والتوافق والتطاحن بالكلام عبر الحجة وليس البندقية كما يحدث في منطقتنا في المغرب الكبير أو في الشرق.

لابد، إذن، أن نفهم شيئا مهما هو أن الديمقراطية ليست انتخابات فقط، بل هي شيء أشمل. والوعي بهذا المعطى، يعني في واقعنا أنك حين تتفوق في الانتخابات، تفتش عن رأي الأقليات التي هزمتها، وتحاول معرفة رأي المنظمات الأخرى بمختلف مرجعياتها، وأن تعي وتقدر أن الأغلبية البرلمانية ليست الآلية الوحيدة لتمرير القرارات التي تصل إليها، لأننا في مرحلة بناء الديمقراطية وتوطيدها حيث لا يكفي تمرير القرارات بأغلبية برلمانية لأن المجتمع يتغير؛ وما هو في طور التغير لم يلتحم بعد، وبالتالي ينبغي للديمقراطية الناشئة أن تساعد على التحام المجتمع حول منظومة جديدة.

وقد كان هذا هو غلط الإخوان المسلمين في مصر الذي ارتكبوه. كانت لديهم أغلبية لكنهم أخطؤوا حين بادروا بتحرير منظومة دستورية تغيّب الأقليات الدينية كالأقباط وحتى باقي المكونات السياسية الموجودة. هذا هو رأيي في الموضوع.

إن الثورات تتقدم وتتراجع وتكون من بعدها فترات أقبح من الأولى وتحصل فيها انزلاقات كبيرة بما فيها انزلاقات الثوريين أنفسهم، لكن الثورات ليست طريقا معبدة، فهي تأتي ثم تتراجع وتعاود قوتها، وتظهر في صورة أخرى، وإذا كان حظك جيدا، يكون البناء جيدا. فهي دائما محفوفة بالمخاطر، فلابد للشبان والشابات الذين يفكرون في الحراك أن يفكروا بأن هناك الكثير الذي يجب إعادة النظر فيه وترميمه بدلا من تخريب كل شيء والبداية من الصفر لا وجود لها لأنها بداية خاطئة، فلابد أن تضغط وتفاوض وتأتي إلى مركز القرار لإعادة التفكير والتقدير وتمحيص ما هو صالح من التراث والماضي ثم تحييه بنفس جديد.

الآن نلاحظ في سياق حديثك عن الصدام في الكلام بين المكونات السياسية في المغرب بين الأغلبية والمعارضة على المستوى الرسمي بكلام أقل ما يوصف أنه غير سليم، فالحكومة تتنزل لتتخذ لنفسها صورة الضحية والمعارضة تتخذ لنفسها صورة الضحية، ما هو قناع هذه الضحية في السياسة المغربية؟

طبعا القناع ظاهر، يقول السياسي بأني رجل جدي على مستوى الهندام وأنت وصفتني بالسفيه! فالهندام لا يتطابق مع الوصف. فكلام القيادات، خصوصا حزب الاستقلال لا يتطابق مع الهندام. أنا لست مع العدالة والتنمية، والهندام لا يتطابق مع اتهام رئيس الحكومة بأنه عميل موساد. هذا لا يجوز. إذ تصبح البذلة الرسمية قناعا يغطي شيئا آخر ليس في المستوى طبعا. هناك الأخذ والرد: رئيس الحكومة في بعض الأحيان تكون له طريقة تواصل عفوية أو غير عفوية، وهي غير لائقة في حق بعض المعارضين. يمكن لرئيس الحكومة أن يتقنع بالدعابة ثم يجيز لنفسه تجاوزات لا محل لها في ذلك المقام.

وأنا أظن أن ليس هناك ضحية. فكل من وضع نفسه في وضعية الضحية، فهو فقط يشحذ سكينه. الضحية نفسها هي شيء خطير يمكن معالجته، لكنها في كثير من الأحيان، وخاصة في المجال السياسي، هي نفسها قناع يغطي السلاح القاتل. أتمنى أن يكون ذلك واضحا.

نعود إلى مربط الفرس وموضوع الهوية مرة أخرى، بخصوص هذا الموضوع صدرت عدة كتب وتكاد تجمع في الغرب على وجود أزمة هوية خصوصا مع الموجة الثالثة من العولمة كما يسميها دومنيك فولتون حيث عودة الأديان والثقافات والإثنيات..إلخ، هل ترى أن المغرب يعيش بوادر أزمة هوية؟

سؤال صعب شيء ما. دعني أحدثك عن المغرب أولا، علي أن أجيب في مستوى آخر عن أوروبا أو ما يسمى الغرب. في المغرب، وكيفما صنفت الأشياء، فإنك تجد اليوم تنظيمات وأفرادا وجماعات يدافعون عن هوية ثقافية وعن حقوقهم السياسية.

أقول إن هذه التنظيمات تنتمي مثلا إلى جماعات أو تنظيمات أمازيغية، وهي ظاهرة هوياتية كما أصنفها. هل تجدرت في الساكنة التي تنطق بالأمازيغية؟ ليس لدي مؤشر على هذا المستوى، لكن لدي مؤشر آخر كتنظيمات لديها تأثير في المجتمع والدولة أخذت برأيهم في مجموعة من الأمور مثلا ترسيم اللغة في الدستور أو فتح معهد للدراسة، فالهوية شيء غريب.

يمكن ألّا تكون أزمة هوية، لكن لما تقوم جماعات بالدفاع عن موضوع معين كالدفاع عن اللغة العربية ليس فقط ضد اللغة الأمازيغية، ولكن ضد ما يسمى اللوبي الفرانكفوني، وطبعا إذا تحركت ضد المؤامرة الفرانكفونية ربما سيتجمعون في شكل تنظيمات ومجموعات نشيطة. إذن أنت تخلق ذلك اللوبي.

وهناك تجمعات جهوية أخرى باسم التنمية وأخرى باسم انتماء معين، كشبكة اتصال للذين يعتبرون أنفسهم من أصول أندلسية. هل نعتبر كل هذه المؤشرات بوادر أزمة؟

بالنسبة لي، هذا شيء عادي، لكن إذا لم نعرف كيف نتعامل مع هذه الحياة الجديدة، فإن هذه البوادر سوف تتأزم .

أظن أن المشكل هو في التعامل، مثلا إذا كنت تخطب في منبر ما وتقول انظر ما وقع للتوتسي والهوتو كما فعل الريسوني وتدق ناقوس الخط، فأنت تأتي بالخطر. إذا شبهت بهذا المثال، فأنت تسقط القضية على ما وقع في حالة التوتسي.

الخلاصة هي أن لنا اليوم شعورا في بيئات معينة بقيمة لغة وثقافة لتدوينها والدفاع عنها، ويمكن للدولة الوطنية الدفاع عنها في ما سميته بالتنافس الإيجابي المبني على التحاور وعلى الإمكانيات والمساعدات التي يمكن أن تساعدك على تطوير لغتك وتدريس العربية والأمازيغية حتى لا نبقى منغلقين على الأخر.

مثلا، كنت أرى لما كنت أجري أبحاثي الميدانية في الواحات الجنوبية والأطلس أن الموظفين لا يعرفون أي كلمة من الأمازيغية. كان لابد من مترجم، لو قمنا بتدريس اللغة في السلك الإداري لما احتجنا إلى ذلك. ويمكن أن يحصل اطمئنان.

على كل حال، لا أظن أننا في أزمة، بعد حوالي نصف قرن من حكم الدولة الوطنية بعد الاستعمار هناك تيارات تنادي بإعادة تعريف معنى الوطن والوطنية والقومية. وهذا شيء يغني الساحة الثقافية والسياسية، إذا تعاملنا معه كشيء عادي، أي كديمقراطيين، وهو يساعد على التنافس الإيجابي لكن أقول للذي ينادي بالأمازيغية تعال اعتن كذلك بالعربية لأنها لغتك كذلك، فهي طرف منا والأمازيغية طرف منا. فالتراث الأمازيغي في القرون الوسطى مكتوب بالعربية، وأنت تعرف ذلك، مثلا كتاب شهير للهزالي اسمه “بحر الدموع” هو للوعظ تم تدوينه بالحروف العربية، هذا هو التنافس الإيجابي.

ولكن بعض الأمازيغ يتهمون الحركة الوطنية بأنها كانت ذات نزوع قومي عربي، ودفعت في تهميش وإقصاء الثقافات الأخرى ومنها الأمازيغية؟

لا أظن أن هذا صحيحا، ولا أظن أن كل التيارات القومية عندنا في البلاد همشت الأمازيغ، لكن هناك تيارات قوية داخل القومية المغربية العربية كانت تهمش الأمازيغ، وأنا أحكي حكايات في كتابي، هناك كتاب معروف ولا يعرفه أحد كتبه مهندس وهو يعيش في الخارج الآن، وأصله من الهضاب المنطقة الشرقية بالمغرب، اسمه بريك أوسعيد، ويقول في كتابه (les coquelicots de l’oriental) بأنه لما كان تلميذا، وكتب هذا الكتاب قبل المناداة بالأمازيغية والكتاب كتبه صاحبه أكثر من ثلاثين سنة مضت ويحكي عن حياته، ويقول بأن المعلم في المدرسة أيام الاستعمار كان إذا وجد أحدا من التلاميذ يتحدث بالأمازيغية يقوم بتحميله (ضربه على رجليه بمساعدة الأقران من التلاميذ)، وأظن أن هناك تيارا قوميا، وهو شوفيني معروف وخاصة كانت له اليد الطولى في برامج التعليم والتربية، وهنا ينبغي أن نعترف بذلك، وهذا ليس مشكلا أن نعترف وبعد ذلك نصلح الأخطاء… نصلح ولا نقصي.

الحركة الوطنية كان تتكون من عرب وأمازيغ، المسؤولية تقع على الجميع، فلماذا سكت الأمازيغ عن هذه الأخطاء، حسب تعبيرك أستاذ؟

أنا أقرأ المختار السوسي، وأنا كتبت في هذا الموضوع، فالمختار السوسي أمازيغي ولكنه بدون أي تردد يقول: ولما تعلمنا هذه اللغة وذقنا حلاوتها تشبثنا بها، طبعا في الحركة الوطنية لم تكن هذه الخلفية موجودة، والأمازيغ أنفسهم لم يتهموا الحركة الوطنية التي كانت تناضل من أجل الاستقلال بالإقصاء.

ويظهر أنه لم تكن هناك مؤشرات للإقصاء، لكن كان ذلك زمان، وبعد الستينات والسبعينات جاء زمن جديد شهد سياسات تعليمية وسياسات وطنية للتنمية أعطت الانطباع لفئات كثيرة من الأمازيغ بأن ثقافتهم ولغتهم مهمشة، وهي التي كانت تدرس إبان الاستعمار، لكن بعد الاستقلال تم الاستغناء عنها.

وهناك من قال بأن هذا الأمر في عهد الاستعمار كان بهدف التفرقة، وهذا صحيح، لكني أقول دائما ما ورثنا عن الاستعمار ليس كله غير صالح ولا يمكن استعماله بعدئذ، لقد ورثنا عن الاستعمار أشياء كثيرة منها المدرسة واستعملناها، فكون الأمازيغية كتبت أيام الاستعمار أو تم التدريس بها إبان الاستعمار، فهذا لا يمنع الفئات الشابة من أن تعيد استعمال ذلك الأصيل بأهداف جديدة.

في حديثك عن الثقافة العربية والأمازيغية تدعو إلى إخراج التمازج من خانة المهملات والمهمشات لأجل تحرير الخطاب السياسي، لكن نلحظ أن الدولة سعت إلى إنشاء مؤسسات، مثل مؤسسات خاصة باللغة العربية وأخرى باللغة والثقافة الأمازيغية، وهذه المؤسسات لعبت دورا مهما في إصدار منشورات ومطبوعات على مستوى المعرفة، ولكن هذه المؤسسات لا يمكنها أن تلغي التعدد الموجود في كل هوية على حدة، في الهوية الأمازيغية تتشكل من أمازيغيات، داخل الهوية الدينية نفسها هي- أيضا تتكون من هويات مختلفة وفي الهوية العربية أيضا وهكذا دواليك.. كيف يمكننا أن نخرج هذا التمازج في ظل وجود هذا التشظي الهوياتي داخل الهوية الواحدة نفسها؟

ولكن هذا التمازج حصل بين هويات، وبين عناصر مختلفة، فالجواب في جملة: هو أن التمازج والتلاقح يمكن أن يحصل مع الخلاف والاختلاف، مع من يخالفك، ربما يحصل الخلاف بين الإنسان وزوجته، وهي أقرب الناس إليه، وهذا ليس فيه إشكال، لأن الخلاف مع طرح الأسئلة المحرجة يعطيك حيوية أكثر ومجهودا في التفكير من أجل إيجاد الحلول.

عندما أتحدث عن التمازج لا يعني هذا أنه لا يتمازج سوى المتشابه، أبدا، فالتمازج يقع مع المختلف، ودينامية الحياة هي أخذ ورد، وإذا أتاها السكون حصل الموت الفكري والعضوي، فالتمازج الذي أقصده في الكتاب هو تمازج مجموعة عناصر أمازيغية، وأيضا ما بين الأمازيغيين أنفسهم، وأمازيغية وعروبية، وما بين عروبيين أنفسهم. ثم دعني أقول لك شيئا آخر: إن تمازج المنطقة، أقصد منطقتنا ما بين المحيط الأطلسي إلى الخليج، هذه المنطقة تتوفر على عملة صعبة لم يتم التفكير فيها إلى حدود الآن وهي: التمازج.

أوربا تتعلم التمازج الآن، ولها صعوبات كبيرة، هم الآن لا يزالون يقصون الناس لألوانهم أو لدينهم أو لأشكال أخرى، فمنطقتنا هي أول منطقة عالمية التي عملت بالتمازج، وهذه هي العملة الصعبة التي نمتلكها نحن في منطقتنا، ويجب أن نعود إليها ونستعملها ونفتخر بها، هذه عملة صعبة، لأنه في أمريكا حصل التمازج بالقوة والعنف إلى درجة أن يطلق النار على الآخرين بسبب جنسهم أو عرقهم أو شيء من هذا القبيل، فهذه المنطقة من هذا العالم هي لا تجبر المناطق الأخرى على التمازج على عكس أوربا التي لم تمارس التمازج إلا اليوم وتجد صعوبة كبيرة في ذلك.

في جنوب الصحراء لم يحصل فيها التمازج، تذهب إلى مكة وتنظر إلى الناس الذين يسكنون في مكة، وهنا لا أتحدث عن الحجاج، وتجد أناس مكيين من أصل صيني جاؤوا منذ قرون للحج والتجارة ولن تجد أحدا يقول لهم أنت عرقك صيني أو أن يتحدث عن أصله.

طبعا لا ننسى أن الإسلام لعب دورا مشرفا بالرغم من أن في التاريخ الإسلامي كان هناك الرق وأشياء من هذا القبيل، لكن الإسلام باعتباره ديانة شرعت الزواج من الرقيق سواء سودا كانوا أو بيضا.

كما أن فقرات من الكتاب [يقصد كتابه الأخير الحداثة والهوية] تقول بأنه منذ نزوح العرب إلى هذه المنطقة لم يكن في حدود علمي برنامج منهج للقضاء على الأمازيغيات، أما إذا فكرت في أمريكا ترى أن البيض أتوا ووضعوا الهنود في محميات، وقضوا عليهم وأبادوهم، والثقافة التي تم نشرها هي الإنجليزية فقط، ولا وجود للغات الأخرى..

طبعا في بلداننا أصبحت اللغة العربية هي السائدة بالنسبة للدين والثقافة المكتوبة والإدارة، لكن لا تجد برنامجا إداريا أو عسكريا يشبه برنامج الاستعمار الأوربي الذي يقضي ويبيد، وإن لم يُبد فإنه يحبس تلك الجناس في محميات.

صدر بلاغ مشترك ما بين وزارة الداخلية ووزارة العدل والحريات حول منع بطاقة الشرفاء، هذا القرار أثار نقاشا بين الجمعيات المعنية بالموضوع، منها من طالب بمنع البطائق من المنتحلين للشرف، ومنها من هدد بالتخلي عن البطاقة الوطنية إن لم يحصل حل مرض بين الحكومة وهذه الجمعيات، السؤال هنا: الشرف هو أحد محددات الهوية بالنسبة للنظام السياسي بالمغرب، فهل يمكن التنازل عن أهم محدد للهوية بالنسبة للنظام السياسي المغربي؟

أنا لم أتابع بتدقيق ما يجري في ساحة الشرف، المشكل هو إذا كان الشرف وتحديده في البطاقة الوطنية مرتبطا بامتيازات..

ليس المقصود البطاقة الوطنية، بل وجود بطائق خاصة بالشرف لدى مجموعة من الأشراف، والحكومة قررت منع البطائق.

أستسمح، نعم أنا أخطأت. لم أتابع هذه النقطة.

هذه البطائق تساهم في الفوارق ما بين المجتمع الواحد.. فالجمعيات الحقوقية استقبلت هذا القرار بارتياح بينما جمعيات الشرفاء شهدت نقاشا حادا حول الموضوع.

هذه القضية فيها التباس كبير، إذا رجعت إلى العادة القديمة لم تكن فيها بطائق الشرف، هذا شيء حديث جاء مع الحداثة، من قبل كان الناس يتعرفون على من هو شريف في الدواوير والقرى ثم ينعتونهم باللقب، وكانت هناك امتيازات، وكان الشرفاء موقرون بإعفائهم من بعض الضرائب أو الخدمات التي كان الآخرون مجبرين عليها، أي خدمات المخزن، وكان هناك ظهائر تسمى ظهير التوقير والاحترام، تجدها إلى حدود الآن.

أنا أظن أن البطاقة لا معنى لها، وكل مواطن له الحق في التشبث بشجرة عائلته، وأنا أنادي بالحرية، فمن أراد أن يعطي للشرفاء ميزة في التسمية الشفوية اليومية على مستوى العلاقات فلا مشكل، وهو حر طبعا، ومن لم يُرد ذلك فله الحرية بإلغاء ذلك في معاملاته، وأنا مثلا في معاملاتي الخاصة لا أتصرف بلقب الشريف أو بلقب مولاي، وتبقى القضية الدينية أو قضية الملكية، ولكل له الحق في الإيمان، إذا قلت صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما، فمن هذا تستنتج شيئا من التقدير لآل البيت، لكن هذا التقدير والاحترام شيء، والامتياز السياسي المادي والاقتصادي شيء آخر، فهذا الامتياز بالنسبة لي هو ضد القانون، مع أني يمكن لي كمؤمن وكرجل عاد أن أعترف لآل البيت بميزة خاصة وخير، لكن ممكن أن تعترف بذلك من دون امتياز سياسي في الانتخابات أو في فرص الشغل أو في أي شيء.

يمكنني أن أعترف بآل البيت باعتباري مؤمنا ولكن إذا رسب في امتحان فسأجازيه بنقطة الصفر كباقي الناس.

بالنسبة للأسرة المالكة، فأنا أظن أن الأسرة من آل البيت المقربين، فيمكن للناس احترام الأصل، ولكن في مقابل ذلك لا تنازل في نقد السياسات والممارسات، بحيث أن الإنسان سواء كان عاديا أو غير ذلك يمكن أن يكون شريفا ويرتكب أفعالا لا تطاق، فلا تنازل في نقد هذا أو متابعته قانونيا، ولكن في مقابل ذلك أن أعطيه ميزة من منطلق إيماني أن له مكانة خاصة في قلبي وفي اعتقاداتي لأنه من نسل الرسول، وهذا شيء والشيء الأخير أن الحرية والديمقراطية تدعو لاحترام حقوق باقي الناس الذين لا يؤمنون بهذه الموضوع إلى درجة أن يجهروا بنقدهم.

لنا الحق في الاعتراف وللآخرين الحق أيضا في عدم الاعتراف بها، وهو حق سياسي دون سب أو شتم أو إهانة أو أي شيء من هذا القبيل، وهذا ليس مقبولا طبعا. أنا مع العرف القديم بحيث يتعرف الناس في الحي وفي أي مكان عن السلالات ..

تقول في كاتبك الحداثة والهوية ص 165، 166 أنك تتبنى موقفا معرفيا أساسه جعل مسافة نقدية بينك كباحث وبين الظواهر التي تريد تحليلها، وقد تعترضك صعوبة بناء تلك المسافة خاصة عندما يتعلق الأمر بظواهر ثقافية واجتماعية نشأت في أحضانها وتربيت عليها، كما تقول أيضا في خاتمة الكتاب وبالحرف: “هذا ما يأمله كاتب هذه السطور المتشبث بهويته العروبية والمساند لحقوق الهوية الأمازيغة..

نعم..

السؤال: زرت مكة سنة 1999 تُوجت هذه الرحلة بكتاب حكاية حج موسم في مكة، ما هي المسافة التي كانت فاصلة ما بين انتمائك لهويتك وبين مهمتك كباحث؟

هذا سؤال صعب جدا. سبق لي وأن تحدثت عن المسافة في الأنثربولوجيا، بالنسبة للكاتب الأنثربولوجي المنتمي إلى صميم هذا الموضوع، ويمكن الرجوع إلى الكتاب على المستوى النظري [يقصد كتيب في إعادة صياغة الأنثربولوجيا، منشورات جامعة محمد الخامس، [أكدال].

جوابي فيما يخص الذهاب إلى الحج، هو كالتالي: منذ سنوات وأنا أفكر واستعمل تلك المسافة في تشخيصاتي في الواقع المغربي، ليس الاجتماعي منه فقط، بل اشتغلت في ليبيا قديما وفي السعودية، فهذي خبرتي المهنية فيما يخص الموضوع، ومن هذي التجارب حاولت أن أبني المسافة، ولكن المسافة فيها حميمة في الوقت نفسه، وهذا الوضع مفارق، ومنهجيتي تستند على ذلك الوضع المفارق الذي يجعل الحميمية تطغى علي أحيانا، لكن أتذكر المسافة فأرجع قدما إلى الوراء وأحاول التشخيص والوصف والتحليل.

في مكة كانت التجربة قاسية، كانت التجربة أعمق، لأنها جاءت بعد مسار من البحث لعدة عقود بنيت فيه تلك المسافة بحميمية، وهنا يمكن لي أن أتحدث لك عن ماهية الآليات. في تجربة مكة كانت هل ما بين نعم أولا : لا تحفظ في التخشع، لا تحفظ في الشعور، ولا تحفظ في ولوج الأماكن والشعائر، بحيث إذا قادتني التجربة إلى التخلي عن البحث، فإني سأتخلى عنه، وهذا كان موجودا لدي من أول البحث، وكان بعض أصدقائي من الأطلس الذين كانوا يعرفونني واثقين من ذلك، فهذه تجربة حياة، والأنثروبولوجيا هي شغل فقط، والحياة أوسع وأقسى من التجربة الأنثربولوجية.

لذلك كنت في تلك الحميمية وجربت فيها هل تقضي تلك الحميمية على طاقتي في الوصف، والوصف لا بد له من مسافة. فكنت أقوم بالشعائر ثم أرجع إلى مقامنا فأكتب، وكانت الكتابة نفسها هي التي تعيد إقامة المسافة، حيث تكتب فأنت تفكر ماذا رأيت، وكان على خلاف ذلك بعض الناس الذين يجاورونني في الغرفة فيتساءلون، فأقول لهم هذا شغلي الشاغل، فكانت لهم تخوفات في البداية، وبعد ذلك كانوا يسألونني عما كتبت فأجيبهم بأني كتبت هذه الأمور، فيقول لي رجل أو امرأة بأن هناك جوانب نسيتها، ثم يدلونني علي أشياء، وكانوا يعلقون بأن هذا الحدث وصفته في مسجد ولكن هناك في الطرف الآخر من المسجد كانت على غير ذلك. وهكذا أصبحت مناقشتي معهم تكسبني المسافة بعد حميمية الشعائر. هذا هو الوضع. وضع مفارق بطبيعة الحال. وكانت المغامرة تجربة بما تعني الكلمة من معنى بأنه إذا كان هناك تناقض وتجربتي تملي علي التخلي عن مهنة الوصف والتحليل فسأتخلى عنها، ولكن هذا الأمر لم يحصل…

يعني تغلبت في المحافظة على المسافة بالرغم من حميمية الفضاء؟

نعم، وأنا كتبت الكتاب كما تلاحظ، وهذا يعني أنه ليس بشيء مذهل أن يخرج الكتاب، لأن كان هناك الحجاج الذين كتبوا عن الرحلات الحجازية، وأنا قرأت عن هؤلاء الكثير منها، مثل رحلة أبي سالم العياشي للناصريين ولغيرهم، كانت لدي مجموعة من الرحلات التي قرأتها، ولابد في عملية أن تتملك المسافة، فالكتابة مثل الكاميرا، حيث تكتب وتصف فإنك تصبح وكأنك تعمل بكاميرا، عندك مسافة مع الشيء الذي بصدد تصويره، وكانت التجربة طبعا عن قناعة، وهذا الأمر غير الكثير من الأحاسيس الوجدانية وفلسفتي في الوجود.

والحاجة الثانية هي آليات المسافة، أي تخلق مسافة في ظل الحميمية، أنت مغربي وتصف أشياء وتحللها، هذا صعب جدا. أول شيء انتبهت إليه منذ البداية وهو التخلي عن البديهيات، أي شيء يظهر وكأنه بديهي يبدأ التساؤل حوله، تسائله، ثم تتعود على ذلك، وهذا صعب جدا، صعب لأنه في بعض الأحيان يجعل لمعيشتك جهدا مضنيا لأنك تعيش حياتك اليومية في راحة ما دامت الحياة اليومية تستند على بديهيات، هذا أولا، أما الأمر الثاني فهو يتعلق بالاطلاع والاستقصاء لحضارات أخرى، وقضيت حياتي أقرأ الكتب عن القبائل القديمة والمجتمعات القديمة في أفريقيا وفي الأدغال الأفريقية وفي آسيا وأستراليا والهند وقبائل الهنود القديمة في القارة الأمريكية..

وقضيت سنوات أقرأ وكنت أطلع عن كيفية أن يتزوج هذا وما معنى الرق عند هذه المجموعة؟ هل يتقابلون في السوق؟ كيف يدفنون موتاهم؟ فأجد منهم من يدفن أمواته وهو قاعد، ومنهم من كان يأكل الأموات، ومنهم من كان يدفن الأموات مرتين، يدفنها في المرة الأولى ثم يخرجها بعد وقت محدد، ويزيل عنا اللحوم ويغسل العظام ثم يعيد دفنها، هذه التجربة تجعلك تعاود النظر في تجربتك أنت. كيف تأكل وكيف تلبس وما هو السر في الاختلاف، إذن هذه القراءات المتعددة باعتبارها سفرا في بلدان أخرى تغير نظرتك إلى بلدك. هذا جهد مضن، وهنا قلب الأنثروبولوجيا، أي أن تستقصي التعرف الوطيد والمدقق على كيانات مجتمعية أخرى وعلى دياناتها وقيمها وممارساتها، فترى من زاوية تلك الأشياء تعيد النظر في أشيائك.

والحاجة الثالثة تتعلق بالتاريخ طبعا، وأقدم مثالا آخر يتعلق الأمر بموضوع الإعدام الذي يتحدث حوله الناس هذه الأيام، وهناك من يقول بأن الإعدام غير إنساني ومنهم من يقول عكس ذلك، فتذكرت شيئا كنت قد وقفت عليه لما كنت أمارس البحث في موضوع سوسيو- اقتصادي في واحات درعة، وبالضبط في واحة اسمها “مزكيطة” وعاصمتها اليوم هي أكدز. فكنت أشتغل على برامج التنمية الاقتصادية في مكتب الري وأقوم بالأبحاث في التنمية، وكنت أجالس الناس بصدد مناقشات، وحصلت مناقشة يوما حول القاتل وكيف يتصرفون حيال جريمة القتل، ففسر لي رجل في الجماعة، أنه في قديم الزمن، وفي فترة محددة هناك، كان القاتل يهرب من مكان الجريمة في خفية الليل إلى ضريح محدد ومعروف، فيصبح “مزاوك” أو ما يسمى بـ”الزواك” واليوم يقول الناس: أنا مزاوك. ولا يمكن أن يمسه أحد، ولا يمكن لأحد أن يثأر منه وهو في حالة “الزواك” بالضريح، وبعد ذلك تتم الاتصالات بين عائلة القاتل والمقتول وتشرع المفاوضات شيئا فشيئا حتى يتوصلون إلى قدر الدية، وحين يتفقون تكون الوليمة ويحصل التصالح، ولكن القاتل يقومون بتغسيله ويضعون له الحناء، ويمر من طقوس عديدة، وعندما يتم الاتفاق حول الدية يعود إلى القرية ليعيش بين ذويه، وإذا عاود ارتكاب الجريمة فستشتعل الحرب بين القرى، وهنا يذهب به أهله إلى إحدى الشعاب البعيدة عن القرية، وفي جانب الجبل، ويتكفلون بقتله.

هذا بالنسبة لي نموذج فكر جماعي، وفي هذا الفكر الجماعي تجد أن القتل أو ما يشبه الإعدام يكون آخر حل يلجأ إليه الناس، لكن في البداية حين يتم “الزواك” ويتفاوض الناس حوله لا ييأسون من إنسانيته ومن إمكانية أن “يتوب” ويرجع إنسانا عاديا حيث تساعده الطقوس في أن يغتسل من أخطائه، وأن ينسلخ عن نفسية المجرم والقاتل ويعود إنسانا عاديا. وأعطاني الرجل أمثلة كثيرة حصل فيها القتل عن عمد أو غير عمد بسبب نقاش حاد أو خصام وعملوا بتلك المسطرة.

هذا ما وددت أن أقوله في مسألة المسافة، وأنتم الآن أعماركم تتجاوز الثلاثين، أنا أقول لكم هذا وتشعرون بأن هذا شيء غريب، وإذا قرأت عوائد أخرى لنفس مجتمعك، فهو في ملكك ولكن تشعر أنه أبعد منك ما يكون بالنظر إلى المسافة.

خذ مثلا، هناك صور للسياف وهو يعلق الرؤوس في باب المحروق بمدينة فاس، إذا رأيت اليوم هذه الصور يمكنك أن تقول بأن زمن الحدث قد تجاوز القرن أو أكثر من عشرة قرون، فالصورة أصبحت أجنبية بالنسبة لكم وكأنها تنتمي إلى ثقافة أخرى، وإلى شعب آخر مع أنها منك، فكيف تشتغل في التاريخ أو في وقائعه لتقف على ذلك الاختلاف الذي هو اختلاف في قعر دارك.

فهؤلاء الناس الذين كانوا يعلقون الرؤوس هم من دمي ولحمي، لكنهم في موقع آخر بالنسبة لممارسة اليوم ولعقلية اليوم. هذا ما يجعلك تبني المسافة دائما.

Share
  • Link copied
المقال التالي