لم يكن الحجر الصحي ليمنع أساتذة وطلبة ماسترسوسيولوجيا المجالات القروية والتنمية، بكلية الآداب والعلوم الإنسانية سايس فاس، من تنظيم جملة من الفعاليات الثقافية عن بعد، وذلك في إطار برنامج ليالي رمضان، والتي أرادها الاستاذ عبد الرحيم العطري، منسق الماستر وأستاذ التعليم العالي بجامعة سيدي محمد بن عبد الله، مناسبة للقاء بشخصيات فكرية وإبداعية ومن جغرافيات وقارات معرفية متعددة، لإتاحة فرص اللقاء والتكوين والتفاعل بين الطلبة وضيوف ليالي رمضان.
وفي هذا الإطار، كانت ليلة الأربعاء استثنائية بالنظر إلى الرصيد التاريخي والمعرفي للباحث حسن نجمي، والذي يعد من أبرز الباحثين المغاربة انتصارا للثقافة الشعبية، درسا وتحليلا وترافعا، والذي ألح في مستهل محاضرتة التي ألقيت عبر تقنية اللايف على موقع فايسبوك، على ملحاحية ومركزية البعد الشفوي في تضاريس الثقافة المغربية.
وأكد نجمي على أن البعد الشفاهي ليس هامشيا أو تفصيلا ثانويا، بل هو شأن جوهري يصب في صلب الانشغال المعرفي بالثقافة المغربية، لاتصاله بالهوية والتاريخ وحركية المجتمع، مبرزا أن تفكيك عناصره ورموزه ينبغي أن تتم عبر مدخل تاريخي، يتأسس على هكذا تساؤل مركب: كيف تطورتوتشكلت الثقافة الوطنية في المغرب؟ فالثقافة المغربية حسب تقديره لا يمكن حصرها في المسائل التي نبنيها في مخيلتنا، عبرأبعاد معينة، بل تتعدى ذلك، لغزارة الشفاهي الأمازيغي والعروبي والحساني والموريسكي واليهودي والإفريقي..وغيرها من المكونات الناظمة والمشكلة للهوية المغربية.
وأشار الشاعر والراوئي إلى أن الثقافة الشعبية تعرضت للكثير من ألوان التهميش والإقصاء في سيرورتها التاريخية، متسائلا: لماذا لم يتم التأريخ لبعض التعبيرات الشعرية؟ ولماذا أهملت؟ فهل هي مصادفة في تاريخ المغرب؟ أم الأمريتعلق بخيار فكري منهجي لدى المؤرخين؟ موضحا بأن البعض من الغرب الإسلامي عبر بالإرادة الملموسة عن امتناعه الاعتراف بالشعرالشفوي بما فيه الأزجال الأندلسية والموشحات، تماما كما هو الأمر بالنسبة لموقف ابن بسام الدخيل وابن الخيرالمواعيني.
بل إن هذه العقلية نفسها،ظلت حاضرة عند مثقفيالحركة الوطنية،الذين أعطوا الأولوية للفصحى واتخذوها قضية نضاليةوليست ثقافية، ضدا على استراتيجيات المستعمر.
وأوضح حسن نجمي في معرض تفاعله مع أسئلة الطلبة، بأن رد الاعتبار لقضية الثقافة، لن يكون مجديا إلا بالمعنى الوجودي وليس بالمعنى السياسي، لذا نبه الباحث إلى ضرورة التفكيرفي دمقرطة حياتنا الثقافية، بمعنى أن كل المكونات الثقافية من تعبيرات فنية وجمالية ورأسمال رمزي وتراث لامادي ينبغي أن تأخذ حصتها من خريطة الثقافة المغربية، مضيفا أن النموذج التنموي القادم ينبغي أن يولي الاعتبارللعنصرالثقافي، باعتباره قاعدة ثقافية وليس مجردقطعة غيارأو مسمار في الدواليب أو “خضرة فوق طعام”على حد توصيفه، لأن الاقتصاد الوطني لا يمكن أن ينهض وفق خلفيات سياسية أو حسابات اقتصادية وحسب،بل بخلفيات ثقافية ممأسسة.
وكشف الباحث أن قوة الثقافة المغربية تكمن في تجانسها وتعدديتها، محذرا من مغبة الانجرار وراء هيمنة مكون ثقافي معين، فهي تتسم بالتعدد والانفتاح والتخاطب والتراسل والتكامل مع كل المكونات الثقافية الإنسانية،لهذه الأسباب فالبعد الشفوي الذي تم إقباره لزمن طويل عاد، فطرح نفسه بإلحاحية من حيث العمق عبرما تزخربه خصوصيات المكونين الأمازيغي والعروبي،لأن المجتمع المغربي في البدء والختام قائم على هذه التعددية، وعلى أشكال الحضور وأشكال التخيل.
وخلص الشاعر نجمي إلى أن مختلف التوترات التي يعرفها المغرب والعالم، هي في الأصل توترات ثقافية، ما يوجب الاهتمام بالثقافي، واعتباره مدخلا رئيسا لصناعة التغيير، فالصراع على أنماط التدين في الحقل الديني، هو توتر ثقافي، والعنف ضد المرأة هو إشكال ثقافي والمسالة اللغوية وصراعاتها الهوياتية هي إشكال ثقافي، ولهذا دعا في ختام اللقاء إلى الحاجة القصوى إلى حزام ثقافي على غرار الحزام الأمني، لتحصين الهوية وتنمية الوطن، مجددا التأكيد على أن المسألة الثقافية، وفي بعدها الشفوي، تحديدا، ليست تفصيلا معرفيا عاديا، وإنماهي إشكال وطني عميق يتصل بالكيان المغربي وبالبعد الاستراتيجي.
* طالب باحث في السوسيولوجيا
تعليقات الزوار ( 0 )