Share
  • Link copied

حسن أوريد يكتب: هل هو أفول الغرب؟

يعود النقاش بحدة في خضم جائحة كورونا، هل ستبقى الحضارة الغربية متزعمةً العالم أو سيعتريها ما اعترى حضارات سابقة من الاضمحلال والأفول؟ هل ستظل القوى الغربية هي المتحكمة في مصير العالم؟ وهل ستبقى القيم الغربية هي المرجعية دون غيرها؟ أو أن العالم سينحو إلى تغيير تراتبية المواقع، حسب المصطلح المستعمل، أي أن قوى ستتراجع وأخرى ستبرز في الواجهة، وستتغير من هنا مرجعية العالم؟

اللافت في غمرة جائحة كورونا، هو الرجوع في الغرب إلى كتابين كُتبا في فترتين زمنيتين مختلفتين تتنبآن بأفول الحضارة الغربية، الأول كُتب قبل سقوط حائط برلين لمؤرخ أمريكي من أصل بريطاني هو بول كينيدي، بعنوان “نشأة القوى العظمى وسقوطها”، ثم كتاب “الاندحار” للفيلسوف الفرنسي ميشيل أونفري وقد كتبه قبل سنتين، ويعود صاحبه في حوارات عدة ليقول إن الحضارة المسيحية-اليهودية، كناية عن الحضارة الغربية، مقبلة على الأفول.

أهمية الكتاب الأول وقد كُتب في سياق الحرب الباردة هو أنه توقَّع تراجع الولايات المتحدة وصعود الصين، ولكنه لم يكن يتوقع سقوط الاتحاد السوفيتي التي أفرد لها فصلاً مستفيضاً. والمؤلَّف في الأصل كتاب تاريخ، وما طرحه من توقعات هو ما وضعه في خاتمة الكتاب.

وقد عبّر حينها عن أن الولايات المتحدة لن تستطيع أن تحافظ على ريادتها، لأن المد ينحو تجاه نهوض قوى جديدة يمكن أن تنازعها مكانتها الاقتصادية والتقنية والعسكرية، ولن تقوى الولايات المتحدة على تحمُّل ما يسميه التمدد المفرط Imperial overstrech.

ما الكتاب الثاني فهو ينعي ما يسميه الحضارة اليهودية-المسيحية، والتي دخلت مرحلة الخمول لارتهانها لعامل واحد هو الاقتصاد، في حين أن الاقتصاد نتاج للتجربة الإنسانية، وقوام الحضارات هو القيم أو الروحانية وما يرتبط بها من عقيدة تفضي إلى قيام حضارة.

“فالاقتصاد ليس كما يرى فوكاياما في نهاية التاريخ، الأفق الذي لا يمكن تجاوزه، لأنه لا يصنع التاريخ، فهو يواكب الإنسان وسيواكبه مثلما واكب النوع البشري مذ وُجد. (…) الاقتصاد لا يصنع شيئاً، لأنه هو نفسه صنيعة”. (ص576)، ومشكل الغرب من منظور أونفري، هو أنه نأى عن قيمه الروحية ليعبد عجل الذهب ألا وهو الاقتصاد.

موضوع أفول الغرب أو تغيير الفاعلين الدوليين ومواقعهم ليس جديداً، فلقد عرف العالم منذ الأزمة الاقتصادية لسنة 2008 تحولاً من حيث الرؤى والخيارات، ومنها ترنُّح الآيديولوجية النيوليبرالية، وبرزت حينها الصين كقوة ناهضة، كما برز دور روسيا قوياً على الساحة الدولية، مثلما بزغت قوى ناهضة كالهند والبرازيل وتركيا.

أما أوروبا، القوة الاقتصادية العالمية الأولى، فقد ظهرت بها اختلالات حول مواضيع الهجرة والأمن والسياسات المالية كما حدث في التعامل مع الأزمة الاقتصادية في اليونان وإسبانيا، ثم استفحل شرخها مع خروج بريطانيا منها. هذه التصدعات برزت جلية مع أزمة كورونا.

كانت كل التوقعات تفيد بأن الصين في غضون عقدين من الزمن ستصبح القوة الاقتصادية العالمية، وهو التحول الذي ينهي ريادة الغرب لزهاء أربعة قرون من الزمن، في شتى مناحي الحياة. كان مد تصاعدي وقف عليه عديد من الدراسات والكتابات يفيد بأن الغرب سيفقد تميزه الاقتصادي ومن ثم سؤدده السياسي والثقافي.

الجديد هو أن جائحة كورونا من شأنها أن تُسرّع وتيرة التاريخ.
كانت الذكرى الثلاثين لسقوط حائط برلين قبل شهور مناسبة لتقييم ما بشّرت به الولايات المتحدة من قيم السوق والديمقراطية. المنظومة النيوليبرالية أفضت إلى رأسمالية متوحشة، والسوق أضحى حلبة لصراع البقاء فيه للأقوى

أما الزعم بأن قوام النيوليبرالية هو قاعدة رابح-رابح، فهو مجرد شعار. الولايات المتحدة من كانت تدعو إلى حرية المبادلات التجارية، هي الآن أول من أخذ ينادي بالحمائية الاقتصادية ضد قاعدة رابح-رابح. والديمقراطية توارت، أو هي في تراجع وتحت القصف كما تقوم أدبيات منظمة “بيت الحرية”.

أما على مستوى العلاقات الدولية، فقد غلّب الغرب مصالحه على المبادئ التي يدفع بها. لم تعد “الديمقراطية” ولا احترام حقوق الإنسان محددين لعلاقاته الدولية، أو تُستعمل للاستهلاك وإبراء الذمة. والأمثلة أكثر من أن تُحصى في تعامل الغرب مع العالم العربي حيث العامل الحاسم هو المصلحة.

ولعل أبرزها هو نفض الولايات المتحدة يدها من القضية الفلسطينية، في سلسلة من الإجراءات آخرها ما سمّته “صفقة القرن”، أو التستر على جريمة اغتيال جمال خاشقجي، أو بيع الأسلحة لقتل الأبرياء، كما في اليمن أو المتظاهرين في الشوارع.

لا يمكن أن تختزل حضارة ما في معدل التنمية وحجم المبادلات التجارية. كل حضارة تقوم على قيم، وحينما تتخلى عن تلك القيم يدبّ الوهن فيها.

قامت الحضارة الغربية على السيادة الشعبية وتحرير الشعوب من قبضة الكنيسة والمَلكيات المتجبرة. بيد أن السيادة الشعبية أُفرغت من محتوها، لأن الذي يتحكم في مقاليد الحكم هو الرأسمال والأولغارشييات.

قامت الحضارة الغربية على تحرير العقل، وأفضى هذا الانعتاق إلى نزوع عدمي يهدد الإنسان في وجوده، وعوض أن يقوم تناغم ما بين الإنسان والطبيعة أفضى الأمر إلى تنافر، مثلما نادى بذلك ديكارت في قولته الشهيرة: “الإنسان مالك للطبيعية وسيدها”، وظل هذا المقتضى هو المتحكم في تعامل الإنسان الغربي مع الطبيعية من خلال استنزاف مواردها، والتأثير سلباً على توازنها، جرياً وراء الربح، وهو الأمر الذي يطرح قضايا بيئية ترهن مستقبل الأجيال، بل نتبين الآن أنها تهدد الحاضر، كما نرى مع جائحة كورونا.

قامت الحضارة على تحرير الجسد وأفضى الأمر إلى فوضى وعبودية جديدة، وهو وضع يهدد وحدة الأسرة وتماسكها.

قامت الحضارة الغربية على حرية الرأي، لكن واقع الحال يبين أن حرية الرأي ولو أن مجالها واسع في الغرب، فإن أطواقاً عدة تحدّها، منها ما هو ظاهر وما هو مستتر.

قامت الحضارة الغربية على الحرية، لكن الحرية تظل بلا معنى من دون عدل، مثلما ذهبت إليه المدرسة الاشتراكية.

قامت الحضارة الغربية على الفرد، ولكن ما السبيل حينما تفضي الفردية إلى الأنانية، وانعدام قيم التضامن.

كان كثير من المفكرين الغربيين قد وقفوا على هذا الزيغ، وعبرت عنه الشعوب في غضبها بتنديدها في الشوارع، ولكن عجرفة الرأسمال كانت ترفض الإصغاء إلى ما كان يذهب إليه الفلاسفة الغربيون أنفسهم وما تصدح به الشعوب.

أما ما صنعه الغرب حيال حضارات أخرى فليس ما يمكن له أن يفخر به، من إبادة وطمس وتقسيم، حتى ولو أدى ذلك إلى فصل قبائل وأسر، مما تتأذى منه مجتمعات إفريقيا والعالم العربي، ولا تزال تؤدي ثمن تقسيمها إلى مناطق نفوذ بطريقة اعتباطية وإثارة النعرات وإشعال الفتن بينها.

*أستاذ في العلوم السياسية

Share
  • Link copied
المقال التالي