لقد عرف العالم في العصر الحديث، خاصة في الدول ذات التوجه الديمقراطي، تزايدا مضطردا في أهمية حرية التعبير وتشعبا في وظائفها. وهي تعتبر من أهم الحريات السياسية وجزء من الحريات الأساسية لكل فرد، فعلى المستوى الفردي تعتبر حرية التعبير ضرورية من أجل تنمية وتقدم كل فرد، إذ أن التبادل الحر للمعلومات والآراء التي يتوصل من خلالها إلى فهم محيطه الذي يعيش فيه، والتي من خلالها تعي السلطات بآراء افراد المجتمع. وكثيرة هي تلك الأدبيات التي ناقشت أهمية حرية التعبير، وتأثيره في بنية وعلاقات المجتمع داخليا، بل في العلاقات الدولية التي تعتبر فيها حرية التعبير من أبر الوسائل التي تؤثر على مسارات العلاقات ما بين أشخاص القانون الدولي.
فعلى الصعيد الداخلي للدول، وفي علاقة بالمجتمع والسلطة، فإن حرية التعبير تضطلع في حالة تمتعها بالحرية الملائمة بأدوار مهمة في تدعيم أركان الحكم الديمقراطي والشفافية في العمل الحكومي، وذلك من خلال وسائله المتعددة أهمها حرية الإعلام والصحافة. وهكذا ففي علاقة حرية التعبير بالنظام الديمقراطي، فقد جهد كثيرون في المحاجة بتقديم أي منها على الآخر بالوجود، أي أنه أصبح من المسلم به أن كلا منهما لا يحضر في غيبة الآخر. ولعبت حرية التعبير ولازالت من خلال وسائله المختلفة خاصة الصحافة دورا فعالا في تشكيل الرأي العام لدى المجتمعات الإنسانية، فالحديث عن هذه الحرية غالبا ما يربط بالحديث عن الديمقراطية والتحول الديمقراطي.
وحرية التعبير لم تكن وليدة اليوم، فقد تم تداولها منذ الأمس البعيد مع ظهور مفهوم الحرية سواء مع الفلسفة اليونانية مرورا بمختلف العصور التي دعت المجتمعات المتحضرة إلى حماية الحق في التعبير وعدم الانتقاص منه. وقد تكرس هذا الحق بين مدافع عن إطلاقتيه ومن اعتبر أنه من الضروري الحد من هذا الحق. فبالنسبة لوجهة النظر الأولى، إذ ذهب مجموعة من المدافعين عن هذه الوجهة ومنهم جون استيوارت ميل John Stuart Mill وهو فيلسوف بريطاني إلى اعتبار حرية التعبير حتى الخاطئة منها يجب أن تتمتع بالحماية لأنه لا توجد هناك حقيقة مطلقة أو خطأ مطلق، وهو يقول: الشر الحقيقي في كبت حرية الرأي والتعبير في أنه يحرم الجنس البشري وأجياله اللاحقة من الذين يخالفون في الرأي، فإذا كان الرأي صحيحا فإنهم سيحرمون بذلك من الفرصة في إظهار الآراء الخاطئة السائدة، وإذا كان خاطئا فإنهم أيضا يخسرون ما يمكن اعتباره فرصة عظيمة في إظهار وتوضيح للحقيقة السائدة.
إلا أن السؤال المهم الذي يطرح، هل فعلا تعتبر حرية التعبير حرية مطلقة لا ترد عليها أية قيود؟ أم أنه يمكن وضع حدود لهذه الحرية كلما استعملت أو تجاوز استعمالها حدود حريات الآخرين؟وللإجابة عن هذا التساؤل، يمكن البدء من خلال التعبير الذي تم استعماله في مجال نطاق الحماية لحرية التعبير الذي كررته مرارا المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بهذا الشأن، إذ قالت: “إن الحق في التعبير يشكل أحد أهم الأسس لقيام المجتمع الديمقراطي، وحماية هذا الحق لا تتعلق فقط بالمعلومات أو الأفكار التي يتم تلقيها باستحسان… وحرية التعبير غير مطلقة وإنما يمكن أن ترد عليها قيود أو استثناءات..”. وعلى هذا الأساس فإن المحكمة الأوروبية وإن كانت تؤكد على حرية التعبير بمفهومه الواسع إلا أن هذا الحق يرد عليه قيود واستثناءات ينبغي احترامها. وعلى الصعيد العالمي فقد أقرت كل الاتفاقيات الدولية والاقليمية بحرية التعبير باعتبارها ركيزة أساسية لتحقيق الحريات الفردية وتطوير الديمقراطية.
فبالرجوع للأوفاق الدولية، فقد نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1948 في المادة 19 منه على: “لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية”. وهو ما ذهبت إليه المادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية لسنة 1966 حيث نصت هذه المادة على أنه “1- لكل إنسان الحق في اعتناق آراءه دون مضايقة؛
2- لكل إنسان الحق في حرية التعبير، ويشمل هذا الحق حريته في التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين دونما اعتبار للحدود، سواء على شكل مكتوب أو مطبوع في قالب فني أو بأية وسيلة أخرى يختارها؛
3- تستتبع ممارسة الحقوق المنصوص عليها في الفقرة 2 من المادة واجبات ومسؤوليات خاصة. وعلى ذلك يجوز إخضاعها لبعض القيود، ولكن شريطة أن تكون محدد بنص القانون وأن تكون ضرورية:
- لاحترام حقوق الآخرين أو سمعتهم؛
- لحماية الأمن القومي أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة”.
وهنا بيت القصيد، حيث يطرح السؤال: ما هي حدود حرية التعبير خاصة إذا كانت تمس بحرية الآخر وعلى وجه الخصوص فيما يتعلق بحرية المعتقد؟ فمسألة الرسومات المسيئة للرسول محمد عليه الصلاة والسلام، تعطي الحق للأفراد والجماعات التعاطي بحرية مطلقة بالحق في التعبير، أم ان لهذا الحق حدود ينبغي احترامها؟ خاصة وأن المادة 19 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية تنص في فقرتها الثالثة، كما سبق وأن أشرنا، على ضرورة احترام حقوق الآخرين خاصة حرية المعتقد. هذه الأخيرة التي أشارت إليها المادة 18 من نفس العهد حيث تنص: “1- لكل شخص حق في حرية الفكر والوجدان والدين، ويشمل ذلك حريته في أن يدين بديم ما، وحريته في اعتناق أي دين أو معتقد يختاره، وحريته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم، بمفرده أو مع جماعة، وأمام الملأ أو على حدة.
2- لا يجوز تعريض أحد لإكراه من شأنه أن يخل بحريته في أن يدين بدين ما، أو بحريته في اعتناق أي دين أو معتقد يختاره؛
3- لا يجوز إخضاع حرية الإنسان في إظهار دينه أو معتقده، إلا للقيود التي يفرضها القانون والتي تكون ضرورية لحماية السلامة العامة أو النظام العام أو الصحة العامة او الآداب العامة او حقوق الآخرين وحرياتهم الأساسية….”.
وعليه فهذا النص يبين لنا أن لكل شخص الحق في حرية الفكر والوجدان والدين وممارسة هذا الحق بمختلف الوسائل، إلا أن هذه الحرية غير مطلقة حيث يحد منها ما يفرض حقوق الآخرين وحرياتهن الأساسية، وهو ما ذهبت إليه أيضا المادة 11 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان.
رغم أن هذه القواعد الدولية تعتبر ملزمة من ناحية القانون الدولي، إلا أن حرية التعبير وحدودها لا تؤخذ على محمل الجد من بعض الدول في إطار علاقتها مع الآخر، وهو ما قد ينتج عنه اسلاموفوبيا، خاصة أمام تنامي مظاهر وردود فعل مرفوضة من الإسلام والمسلمين أنفسهم.
باحث في القانون العام
تعليقات الزوار ( 0 )