أكد امحمد جبرون، الباحث في التاريخ والفكر الإصلاحي، في حوار خاص مع جريدة “بناصا” الإلكترونية، أن “غياب الوعي التاريخي أو الفكر التاريخي، يجعلنا جميعا نقدم ثمنا باهظا”.
وبخصوص أسباب انعطافته الأخيرة من البحث في الفكر الإصلاحي إلى التاريخ المغربي، يرى جيرون بأن الكثير من مشاكل اليوم وصراعاته وخاصة حول الهوية، ومسارات الإصلاح وغاياته، يمكن معالجتها أو التخفيف من حدتها إذا تحلَّى الإنسان المغربي بفكر تاريخي رزين وناضج.
وعن واقع السردية التي تشتغل التاريخ المدرسي، يعتبر جبرون بأنها متجاوزة، لا تساير تطلعات المغرب وشبابه، ومستقبله، وتحتاج إلى مراجعة جذرية…
كما تطرق الحوار مع الأكاديمي المغربي امحمد جبرون إلى أشياء أخرى تكتشفونها في ثنايا الحوار ….
لماذا انعطفت إلى كتابة التاريخ بعدما اشتهرت بكتابة نصوص في الفكر الإصلاحي؟
أشكرك الصديق الأستاذ نور الدين على هذه الفرصة التي أتحتها لنا للحديث إلى قراء «بناصا»، ومن خلالك أشكر كل القائمين على هذا المنبر النوعي الجديد في خريطة الصحافة الإلكترونية المغربية.
أما فيما يتعلق بالسؤال الذي طرحته، فالتاريخ ليس غريبا عني، فشهادة الدكتوراه التي حصلت عليها كانت في شعبة التاريخ، ومن التاريخ اتجهت أو تخصصت في تاريخ الفكر السياسي الإسلامي، وكل أعمالي الفكرية وحتى السياسية استثمرت فيها التاريخ بقوة، ويمكن القول إن قيمتها النوعية تكمن في توظيفها التاريخ في صياغة الفرضيات، والمسارات.. ولهذا فالتاريخ بالنسبة لي هو حصني الأول والأخير أو بيتي الطبيعي.
ومن الناحية أخرى، ومن خلال مناقشاتي الطويلة في قضايا الفكر والإصلاح سواء في المحافل الأكاديمية أو في اللقاءات الثقافية العامة اكتشفت الثمن الباهظ الذي نؤديه بسبب غياب الوعي التاريخي أو الفكر التاريخي، فالكثير من مشاكل اليوم وصراعاته وخاصة حول الهوية، ومسارات الإصلاح وغاياته، يمكن معالجتها أو التخفيف من حدتها إذا تحلَّى الإنسان المغربي بفكر تاريخي رزين وناضج.
ومن ثم، وانطلاقا من هذا الوعي قررت أن أخصص بعضا من أعمالي لبناء سردية تاريخية تساعد على إعادة اكتشاف الذات المغربية في امتداداها التاريخي، وتعيد بناء الوجدان والعقل المغربي وتمنحه الثقة وهو يتجه نحو المستقبل، سردية تجعل من التاريخ “ثقافة عامة” وليس خاصة.
إذن، العودة للتاريخ لديك محكومة بهاجس إصلاحي أليس كذلك؟
-صحيح، إن الكتابة والنشر في مجال التاريخ لا يطلب لذاته، وليس هناك علم مجرد عن غايات البشر ومنافعه، فالتاريخ كعلم الغاية منه الإسهام في تحسين أوضاع الناس، والارتقاء بها، ومُخطئ من يعتبر التاريخ معرفة مجردة أو يجب أن يبقى منزها عن الأغراض، فالأكاديمية كشرط في البحث التاريخي وغيره لا تتعلق أساسا بالغايات بقدر ما تتعلق بالمنهج.
ومن ثم، فالنصوص التاريخية التي أنتَجْتُها في السنوات الأخيرة تتوخى في نهاية المطاف: إعادة بناء المعرفة التاريخية الوطنية في ضوء حصيلة البحث التاريخي الأكاديمي، وتقديمها بأسلوب في متناول القارئ العام، وتتوخى أيضا تأصيل مجموعة من القيم الوطنية المتعلقة بالهوية، والوحدة، والتعددية، وتقدير الذات.. وأتمنى أن أكون قد نجحت نسبيا في هذا المسعى.
كيف تقيمون حضور التاريخ في النظام التربوي المغربي؟
إن درس التاريخ في المنهاج التربوي عرف تحسنا ملحوظا في العقود الأخيرة، تحسنا يعكس وعيا متزايدا بأهمية التاريخ كمادة تربوية حاملة للقيم، لكن ما تحقق لحد الآن ليس كافيا فلا زال المشرع والعقل التربوي المغربي بحاجة إلى مزيد جهد وعمل في هذا الباب، فالرؤية التي يتأسس عليها درس التاريخ، وخريطة القيم المرجعية التي تحدد مساراته تحتاج إلى تجديد ومراجعة في ضوء المستجدات والتطورات الكبيرة التي يعرفها بلدنا.
ومن القضايا التي يجب مراجعتها في الدرس التاريخي المغربي هو الطريقة التي نقدم بها الحداثة كواقعة تاريخية، ومكانة المغرب في العصر الوسيط وحضوره، وأيضا يجب تضمين عدد من القضايا الجديدة المتعلقة بالمواطنة المغربية كمفهوم تعددي، والامتداد الإفريقي للمغرب، وحضور المرأة في تاريخ المغرب..
الكثير من الناس تشغلهم قضية الحقيقة في التاريخ المغربي، ويعتبرون ما يدرس تاريخا مزورا كيف تنظر إلى هذا الموقف؟
للأسف هذه مِن الكليشيهات المتداولة بين الناس على نطاق واسع، وهي خاطئة تماما، فالتاريخ مبدئيا ليس هو الحقيقة وما جرى فعليا، بل هو معرفة انطلاقا من الآثار والوقائع، وبالتالي فهو معرفة نسبية ومتغيرة بحسب المستجدات الوثائقية، وبحسب المنظورات المنهجية والنظرية، ومن جهة أخرى إن المعرفة التاريخية المدرسية هي معرفة تربوية منتقاة، أي أنها لا تقول كل شيء، ولكنها تقول ما تعتقد أنه مناسب لبناء جملة من القيم التربوية، المشتركة، والضرورية، وهذه الخاصية في درس التاريخ في التعليم المدرسي ليست خاصية مغربية بل توجد لدى سائر الدول، ومن ثم من الأقوال الدارجة في هذا الباب، والدالة على هذا المعنى “التاريخ هو دين الدولة” أي هو سردية رسمية من بين سرديات أخرى ممكنة.
إننا بحاجة إلى استعادة الثقة في المدرسة ومشروعها التربوي باعتبارها مؤسسة وطنية حريصة على التنشئة الوطنية في ظل الثوابت والإجماعات الوطنية، ومن ثم فالنقاش الحقيقي والإيجابي لا يتعلق بالجواب عن سؤال هل ما تقدمه المدرسة معرفة تاريخية حقيقية أو مزورة؟ بل، هو: هل المشرع التربوي الذي يقوم على إنتاج دفتر تحملات الكتاب المدرسي واع ومدرك للقيم الضرورية التي يجب أن يساهم في بنائها درس التاريخ في المدرسة المغربية؟
هل يمتلك المغرب سردية تاريخية رسمية قادرة على مواكبة طموحات البلد وتطلعات الأجيال القادمة؟
– هذا السؤال مرتبط بالسؤال السابق، إن مشكلة التاريخ المدرسي تكمن في كون السردية التي يشتغل بها هي سردية متجاوزة، لا تساير تطلعات المغرب وشبابه، ومستقبله، وتحتاج إلى مراجعة جذرية، فعلى سبيل المثال صورة المغرب السلبية في وجدان الكثير من الشباب اليوم مخيفة، ولا يمكن بحال من الأحوال تفسيرها بالأسباب المادية الاقتصادية والسياسية، بل -وهذا هو الخطير- لها جذور تربوية وثقافية، يمتد بعض منها في المدرسة والطريقة التي نقدم بها درس التاريخ، بل ربما لن أجانب الصواب كثيرا إذا قلت أن رسوخ هذه الصورة في أوساط الشباب واتساعها يؤشر على فشل تربوي عميق، وهو ما يدعو لإصلاح تربوي شجاع وعميق، من شأنه في مجال التاريخ تمكين الناشئة المغربية من سردية تاريخية قادرة على مقاومة السلبية، وبناء مواطنة راشدة وإيجابية.
بالعودة إلى إصدارك الأخير الموجه إلى الأطفال، كيف جاءتك الفكرة؟ وما هي الغاية من ورائها؟
إن فكرة الكتابة للطفل راودتني بعدما لا حظت أن المكتبة المغربية تخلو من نص أو نصوص تقدم “حكاية” المغرب في شموليتها، وأن أغلب الأعمال الموجهة للأطفال التي اعتنت بالتاريخ اقتصرت على بعض المحطات التاريخية أو الأحداث والوقائع.. في حين تخلو من كتاب أو سلسلة تقدم تاريخ المغرب في شموليته، فعزمت على تنفيذ الفكرة، والمغامرة بكتابة نص، ومهما تكن قيمة هذه التجربة فهي محاولة أولى تصلح للبناء عليها مستقبلا.
أما الغاية من ورائها، ففي الحقيقة الأمر يتعلق بغايات متعددة، فأولا إن السلسلة تقدم معرفة تاريخية رصينة تهم تاريخ المغرب من الفتح الإسلامي إلى الاحتلال الفرنسي؛ ثانيا تؤسس لجملة قيم من قبيل الوحدة الوطنية، والهوية الوطنية، والجهاد الوطني، والتعددية…؛ ثالثا تشكل هذه السلسلة دعامة من دعامات مشروع القراءة لدى الأطفال، ففي بعض الحالات ليست مشكلة القراءة لدى الأطفال مشكلة رغبة ولكن مشكلة انعدام النصوص أو قلتها وأظن أن هذه السلسلة دعامة من دعامات القراءة لدى الأطفال اليافعين خاصة في سلكي الإعدادي والثانوي.
هل لك أن تطلعنا على التصور العام الناظم لهذه السلسلة؟
– إن هذه السلسة الموجهة للأطفال تم تأليفها في ضوء وعي منهجي وبيداغوجي واضح، يراعي قدرات الأطفال اليافعين اللغوية والعقلية، فهي مكتوبة بلغة بسيطة، وفي شكل فقرات قصيرة، تتخللها بعض الصور، كما تم إخراجها في صورة حوار متسلسل بين أب وأبنائه، وذلك بغاية خلق قدر من التشويق والإثارة لدى القارئ، وإغرائه بمتابعة القراءة، وبالإضافة إلى كل هذا حاولت شرح بعض الألفاظ التاريخية والأسماء حتى يسهل على الطفل فهم النص..
ومن ناحية أخرى، توزعت السلسلة على عشرة أجزاء كل جزء يغطي مرحلة تاريخية محددة (الفتح الإسلامي، عصر الإمارات، الدول الكبرى كالمرابطين والموحدين..)، بالإضافة إلى ثلاثة أجزاء عالجت تاريخ المجتمع والاقتصاد والثقافة بالمغرب عبر التاريخ، وذلك حتى تكون السلسلة معبرة عن التاريخ الحضاري المغربي في جميع أبعاده.
هل لديك النية لإصدار أعمال تاريخية أخرى في المستقبل أم لا؟
– بكل تأكيد، إن اهتماماتي الثقافية تتوزع بين حقلين رئيسين: التاريخ والفكر الإصلاحي، وكل أعمالي سواء التي صدرت أو التي ستصدر بحول الله هي إما تاريخية أو إصلاحية، وبحول الله لدي الرغبة في تتميم هذه السلسلة بخصوص ما قبل الفتح وأيضا بعد الحماية (1912). وأتمنى أن يتاح لي من الوقت والصحة ما يسمح لي بتنفيذ هذا المشروع وتعزيز المكتبة المغربية والعربية بنصوص نوعية تدفع باتجاه غد أفضل.
وأخيرا جزيل الشكر لكم جميعا على هذه النافذة التي فتحتموها لنا للحديث عن هموم التربية والتاريخ.
انطلاقة ناجحة ..بارك الله الخطوات.. واصلوا على درب التميز.. شكرا “بناصا” والشكر موصول للدكتور جبرون والأستاذ لشهب..