مبارك الموساوي*
يعيش العرب أسوأ فترات ضعفهم اليوم، ولولا لعبة توازن الرعب التي صنعتها المقاومة في الشرق الأوسط؛ فلسطين ولبنان؛ لكانت عواصم عربية محتلة من طرف إسرائيل عمليا.
سيسجل التاريخ وقوف إيران وحلفاءها؛ خاصة حزب الله في لبنان؛ مع نظام الأسد الديكتاتور إلى حد غير مسبوق لما تم الحرص على النظام الحليف وإن انهارت السلطة والدولة والمجتمع حيث كان شعار “تنهار الدولة والمجتمع ويبقى النظام” هو الإطار النظري لمعركتهم في سورية.
لا ينكر منصف أن انجرار الثورة السورية إلى العسكرة الفوضوية وهيمنة النبرة الوهابية والقومية المعادية للشيعة والفرس كان عاملا حاسما في طبيعة المعركة التي خاضها حزب الله في سورية وهو التنظيم الواعي جدا خبرة وعلما بتفاصيل ما يجري وما يراد بالشرق الأوسط.
هو أسف شديد أن يقف حزب ثوري مع نظام سياسي ديكتاتوري؛ وأسف شديد، كذلك، أن يقف مع انقلاب السيسي ضد تجربة الاخوان في مصر ويعادي تركيا لانها وقفت مع الثورة في سورية ومصر ومنافس شرس لإيران عقديا وسياسيا واقتصاديا في المنطقة والعالم الإسلامي؛ وهو لا ينكر أنه ابن بار لثورة الإمام الخميني وأن مرجعه التقليدي فقهيا هو خامنئي وأن إيران مصدر قوته العسكرية والمادية.
كل هذا، الذي لا يخرج عن ماهية الفتنة التي عصفت وتعصف بالأمة منذ انقلاب بني أمية على قوة الأمة، هو جزء مهم من الاسف الكبير على ما يفعله بعض الحكام بشعوبهم وشعوب أخرى من الوطن العربي ضعيفة وفقيرة وممزقة؛ فغرابة تدمير دول وشعوب عن آخرها لحسابات خاصة تتعلق بالاسر الحاكمة لا نهاية لها؛ خاصة مع ظهور نزعات شخصانية متهورة في بعض انظمة الحكم منخرطة دون شروط في الاستراتيجية الصهيونية استيقظت متأخرة لمواجهة المشروع الإيراني الذي اخترق تصوريا وتنظيميا وعسكريا وامنيا دولا مثل العراق واليمن ودق باب دول الخليج من البحرين السعودية.
نحن في لحظة ضعف رهيبة لكنها تكشف على أن استراتيجية إيران في المنطقة بعد حرب 2006 بين حزب الله وإسرائيل كانت الأقوى مقابل “نظرية الاستراتيجيات الهجينة” التي اعتمدتها بعض دول الخليج بقيادة الإمارات ونفوذ السعودية، لان إيران راهنت على معنى المقاومة التي رمحها حزب الله في صناعة لعبة توازن الرعب الذي يسمح بزحف القوة المدمرة إلى عمق إسرائيل ويفرض واقع دولي لصالح إيران باستثمار مواقع الصين وطموح الروس في اللعبة الدولية التي يؤدي ثمنها الباهض الشعوب المستضعفة وعلى رأسها المسلمة، في حين راهن حكام الخليج على الانبطاح الكامل للكيان الصهيوني عبر مشروع تسوية لا نهاية لخباله وتسويفه وتسليمه للأمة.
ما اربك استراتيجية إيران ليست استراتيجيات الغرب في المنطقة لانها معلومة لدى القيادة الإيرانية، بل الاختراق الكبير للخطاب الوهابي لجسم ما سمي بالربيع العربي خاصة في مصر وسورية الذي يجعل عدوه الأول التشيع عموما وإيران وحلفاءها خصوصا.
هنا تعقدت لعبة الصراع في المنطقة على العموم وفي كل دولة من دولها على الخصوص. وهنا استطاع أن يقود حزب الله توازنه الاستراتيجي رغم خسارتة الكبيرة العسكرية والبشرية بوقوفه مع نظام الأسد، لأنه استطاع أن يشارك بقوة بل بقيادة المعركة ضد خطر الوهابية في سورية ودعمه الشامل لمواجهتها في العراق؛ وأن يقود في لحظة دقيقة لعبة توازن الرعب مع إسرائيل عسكريا ونفسيا وإعلاميا وسياسيا في لبنان … هذا التوازن عمقته المقاومة الفلسطينية حينما ردعت في ذروة انشغال حزب الله في سورية محاولة إسرائيل كسر جبهة المقاومة الفلسطينية لما فاجأتها بنوعية الرد ومداه ودقته.
نعم لن يستطيع الحزب عبر لعبة توازن الرعب وقوة الردع أن يصحح الخطأ المصيري بوقوفه ضد تجربة الاخوان في مصر الذين حجبهم غياب النظرية السياسية الكبرى وضغط الخطاب الوهابي المهدد لكل تجربة إسلامية تحررية عن إدراك أهمية إيران وحلفاءها في المستقبل السياسي العربي المنظور على الأقل، وبوقوفه ضد نمو القوة التركية مع إردوغان لمجرد مساندتها الثورة السورية ضد الأسد، لن يستطيع لكنه لن يكون في موقف ضعف خارج إضعاف إيران التي ستتقوى أكثر بعد رحيل ترمب.
فاليوم كل الأطراف خائفة من خوض حرب لم يعد من يقررها هو القادر على وقفها. ولعل اليمن خير دليل وسورية وباقي الدول التي نشبت فيها حروب؛ لذلك كان وضع توازن الرعب وقوة الردع من حيث هو واقع عام فرصة هامة لعملية فرز تاريخية لصالح الإرادة العامة للامة.
نعم ستكون عملية مؤلمة لكنها حاسمة في المستقبل القريب، لكونها ستكشف بكل وضوح عن مواقع القوة ومواقع الضعف مهما كانت الوسائل التي يملك كل موقع، وبهذا ستتحرك قوى الأمة الحقيقية التي سيكون عمادها الشباب وفق بوصلة واضحة هي فلسطين وتحديد من مع القضية الفلسطينية ومن ضدها وفق وعي سياسي واستراتيجي ومصيري جديد على أرضية سياسية و فكرية جديدة لاشك سيكون له الأثر البالغ في إعادة بناء قوة الشعوب خارج التجارب السابقة والقائمة.
هنا ندرك أن ما قامت به المقاومة في فلسطين في حروبها الأخيرة عمق عامل توازن الرعب واكد أن أي حرب مقبلة في المنطقة لن تكون على جبهة واحدة وقد تشعل المنطقة عن آخرها وسيكون الخاسر الأول هو إسرائيل وحكام المنطقة الذين استنزفتهم بشكل كبير الاستراتيجية الصهيونية في الشرق الأوسط.
لذلك، في هذه اللحظة التاريخية يقتضي الأمر تعميق واقع الاستقرار الحقيقي والحرية الكاملة في الاوطان العربية وبناء قواعد القوة المجتمعية القادرة على بناء قوة الجبهات الداخلية في كل المجالات، وهو ما يشترط التنبيه إلى خطورة الخطاب الوهابي كبنية فكرية وفقهية مغلقة وقاصرة عن التفاعل مع المستقبل وخطورة استمرار القبضة الاستبدادية على خيرات الامة وهيمنة أشكال الخطابين الاقصائي والعنفي، مع تفعيل الوعي بقيمة المشاركة العامة في شروط الحرية، لان واقع توازن الرعب سيحد من الحروب إلى المستوى الذي يوفر ظروف تحرر فلسطين وقبلها سيدفع بتراجع العقلية العسكرية ومنطقها والعقلية الأمنية واستراتيجياتها في التدبير إلى مواقعها الطبيعية في عموم الوطن العربي، مما يفتح الباب أمام هيمنة العقل التحرري العمراني الجامع في تدبير البناء والتواصل الداخلي والخارجي على أرضية القوة المعنوية والفكرية والمادية لصالح الإرادة العامة للأمة.
إننا حين نؤكد على نهاية زمن الثورة وحلول زمن الأمة فلندرك أننا على أبواب مرحلة هامة في تغير موازين القوة لصالح إرادتها العامة الواضحة في الفعل التاريخي.
وساعتها ستبدأ مرحلة تاريخية جديدة لها روادها ورجالها ومشروعها لن تقبل الوصاية من أحد حتى ولو كان جيلا من اجيالها.
*كاتب مغربي
تعليقات الزوار ( 0 )