Share
  • Link copied

تنقية المشهد السياسي بالمغرب بين حملات التطهير وآليات التأطير

       تحظى عملية اعتقال مجموعة من المسؤولين والبرلمانيين خاصة أولئك المتورطين في ما سمي بقضية “اسكوبار المالي” باهتمام  الرأي العام و شبكات التواصل الاجتماعي. مما طرح تساؤلات عريضة حول ما إذا كانت هناك إرادة سياسية في القطع مع الفساد السياسي الذي أصبح ينخر مكونات الجسد المغربي أم أن هناك رغبة فقط في تنقية مؤقتة لنظام سياسي كان فيه الريع والرشوة واستغلال النفوذ أسلوبا من أساليب الحكم في تدجين النخب    السياسية ؟؟

رتباط السلطة بالمال في نظام الحكم

    كانت العلاقة السياسية التي جمعت دائما المخزن بنخبه المركزية و المحلية قائمة على ولاء ممهور بصيغة مادية ومالية بحتة . فالإنعامات والإقطاعات والإعفاءات التي يغدقها المخزن على خدامه هي تجسيد لرضاه عليهم، في حين أن الهدايا التي تقدم من طرف هذه النخب، خاصة المحلية منها، في كل مناسبة دينية كانت تعتبر بمثابة تعبير عن الولاء السياسي للمخزن .و لعل هذه العلاقة “المالية” هي التي حولت المنصب السياسي في البناء المخزني إلى منصب لخدمة المخزن و وسيلة للإثراء السريع بدل أن يكون مسؤولية سياسية لخدمة الرعية و الإشراف على الشؤون العامة .و قد أشار مصطفى الشابي إلى هذه الرابطة الوثيقة بين المال و السلطة في المنظومة المخزنية كما يلي: “كان اختيار الأشخاص الذين تسند إليهم خدمة اختيارا دقيقا . و قلما يكون اختيارهم خارج فئات اجتماعية معينة تكون العائلات المعروفة بعلمها أو تجارتها أو نسبتها الشريفة أو قدم رجلها من المهارات العسكرية. ولقد كانت الخدمة المخزنية بابا من أبواب الثروة سيما في النصف الأول من القرن التاسع عشر … وكان من أسباب أهمية الخدمة في دواوين المخزن الطابع المركزي للسلطة حيث كان كل أمر ذي بال ينظر فيه ويتقرر في حاشية السلطان، أي أن الجماعات الحضرية والقروية كانت مضطرة في كثير من القضايا إلى مراجعة ذوي السلطة و النفوذ .وقد كانت هذه المراجعة او هذا اللجوء فرصة لإعطاء هدية يقدمها المتظلم أو المدعي أو صاحب امتياز، ولم تكن تعتبر تعويضا عن المجهود بقدر ما كانت ترمز إلى الولاء والاعتبار. >> ونتيجة لهذه العلاقة، فكثير ما كانت المناصب المخزنية تشترى من خلال أعضاء النخب المحلية من قواد وباشوات وغيرهم، حيث كانت تقدم الهدايا والأموال لحاشية السلطان؛ أو أولئك الذين لهم دالة عليهم ويستطيعون التأثير فيه لكي يعينوا أو يزكوا في مناصبهم.

وقد استمر هذا الوضع حتى بعد خضوع المغرب للحماية، إذ استمر القواد والباشوات في مناصبهمن، ولم تستطع سلطات الحماية زحزحتهم عنها نظرا لاعتمادها عليهم في تهدئة البلاد خاصة في المناطق القروية، الشيء الذي أدى إلى مواصلة هذه النخبة المخزبية لسلوكها القائم على استغلا النفوذ والإثراء عبر الاستحواذ على الأراضي و الحصول على رشاوى على شكل إتاوات أو “هدايا” مما زاد من حجم ثرواتهم المالية والعقارية.

وهكذا كتب الشابي بهذا الصدد بأن “… المتولين لمناصب الخدمة المخزنية في المستوى المركزي أو المحلي يسعون بكل الوسائل إلى الاستفادة الشخصية من مواقعهم في المسؤولية، سواء في التعامل فيما بين المتولين في درجات هرم المسؤولين أو في التعامل مع عامة الناس. وقد تحدث ميشو بيلير عن مثال عامل مدينة القصر الكبير الذي كان … يستخلص من سكان المدينة مقدارا من المال يزيد عشرين مرة عن القدر المطلوب من هدية السلطان بمناسبة كل عيد من الأعياد الإسلامية الثلاثة الكبرى”.

وبعد حصول البلاد على استقلالها السياسي، وإجلاء سلطات الحماية بقي هذا النظام مترسبا رغم كل الإصلاحات التنظيمية والإدارية التي تمت مباشرتها لهيكلة دواليب السلطة والدولة. وقد ظهر ذلك واضحا من خلال الحفاظ على أملاك النخب المخزنية بعد تجميد ظهير 1958 الذي كان ينص على مصادرة كل أملاك الخونة أو الذين ثبت تعاملهم مع سلطات الحماية خاصة من بين القواد و رجال السلطة.

2 – الريع كآلية لتدجين النخب السياسية

 إن ما خلفته الحماية من الدواليب و المناصب الحكومية والإدارية المترتبة عن العصرنة التي خضعت لها أجهزة الدولة، والتوسع البيروقراطي الذي عرفته البنية المخزنية بالمغرب من خلال إدخال نظام التسلسل الهرمي وما استتبع ذلك من تناسل في الإدارات و المصالح، بالإضافة إلى كل المرافق والمكاتب العمومية التي أنشاها المستعمر وضعت في يد الحكم أداة لتطويع وتدجين النخب السياسية واستقطاب أعضائها.

فالتلويح بالمناصب وإغراءاتها، ومنح الرخص والتسهيلات لعب دورا أساسيا في ضمان ولاء شرائح مهمة من هذه النخب، خاصة بعدما ظهر أن هذه المناصب تشكل وسيلة أساسية للترقي الاجتماعي وأداة فعالة للإثراء السريع من جراء ما تخلفه من عمولات ومكاسب مادية ومالية.

وقد تغاضت السلطة عن هذه الظاهرة، بل وشجعتها حتى تضمن السيطرة على المجال السياسي الذي اتسم بحدة الصراع منذ منتصف الستينات خاصة بعد الإعلان عن حالة الاستثناء . وهكذا أشار واتربوري بأن “حالة الاستثناء قد دشنت عهدا من الرشوة تم تشجيعه بشكل كبير من طرف القصر”.

ففي مواجهة المعارضة وملاحقة مختلف المعارضين والمتمردين الذين استخدمت ضدهم كل أساليب البطش والتصفية و النفي، عملت السلطة على تقريب بعض النخب الحزبية والنخب البيروقراطية والإقطاعية فاسحة لها المجال للاغتناء والاستفادة من مختلف المكاسب مع غض الطرف عن كل الطرق غير المشروعة المستعملة، بما في ذلك اللجوء إلى الرشوة لضمان ولاءها واستخدامها في مواجهة الخصوم السياسيين. الشيء الذي جعل “الرشوة تنتشر في كل الأجهزة السياسية والإدارية”  للنظام مما جعل عدة جهات خارجية تندد بهذه الظاهرة  وتطالب بالحد منها، بما في ذلك بعض الشركات الأمريكية مثل شركة بانام.

وللتحكم في هذا الوضع والحفاظ على عدم تجاوزه لحدود قد تهدد التوازن السياسي حيث كان من بين مبررات القيام بمحاولتي الانقلاب العسكري استشراء الفساد السياسي ضمن دواليب الدولة والحكم، لجأت السلطة في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي لمجموعة من المبادرات لتنقية المشهد السياسي من خلال إنشاء محكمة العدل الخاصة وتقديم بعض الوزراء للمحاكمة في بداية السبعينات، بعد “تورط وزير التربية الوطنية مامون الطاهري، وعبد الكريم لزرق وزير المالية، ومحمد الجعايدي وزير التجارة، وعبد الحميد كريم وزير السياحة في قضية رشاوي” ليتم بعد ذلك إصدار عفو  ملكي عنهم.

3-حملات التطهير وتنقية المشهد السياسي

   على الرغم من الانعكاسات والتداعيات السلبية التي خلفتها محاولتي الانقلاب الفاشلتين وتدشين النظام لمرحلة جديدة من الانفتاح السياسي تميزت بإعادة العمل للحياة البرلمانية، فقد بقي التركيز على تدجين النخبة السياسية من خلال اتخاذ عدة إجراءات من بينها إشراكها في الاستفادة من قانون المغربة الذي سمح للكثير من أطر الأحزاب المغربية بما فيها أحزاب المعارضة من ولوج مجال المهن الحرة بدون منافسة أجنبية، وفسح المجال لأطر هذه الأحزاب لدخول مجلس النواب أو تقلد بعض المناصب الحكومية والإدارية. بالاضافة إلى إشراكهم في تسيير مجالس الجماعات المحلية القروية منها والحضرية مما حرك شهية هذه الأطر الحزبية في الحصول على المكاسب المادية والتكالب عليها. فالأجور العالية المترتبة عن شغل مناصب حكومية أو برلمانية، والتعويضات المصاحبة لذلك من تعويضات عن التنقل، والسفريات وغيرها في بلد أجور جل موظفيه تعتبر جد هزيلة، تشكل في حد ذاتها “رشوة سياسية”  في بلد جل أطره تعيش على الكفاف ومعظم شرائحه الشعبية تعيش على هامش الفقر خاصة بعد سياسة التقويم الهيكلي الذي طبقت من طرف الحكم منذ بداية الثمانينات .بالاضافة إلى ذلك، فإن غياب أجهزة المراقبة المالية للدولة وغياب الإرادة السياسية في تفعيلها أدى إلى استغلال العديد من أعضاء النخب السياسية لمناصبهم أو وظائفهم للحصول على رشاوى مقابل تسهيل الإجراءات الإدارية أو السكنية أو الصفقات العمومية. ولعل مما ساعد على استفحال هذه الظاهرة، مساهمة السلطة في تزوير الانتخابات وفبركة النتائج الشيء الذي شجع المرشحين على التباري في إرشاء الناخبين سواء من خلال إقامة الولائم، أو منح هدايا، أو إعطاء الأموال.

 كما شجع بعض المنتخبين على شراء ذمم بعض منافسيهم للحصول على رئاسة المجالس البلدية والحضرية والقروية مع ما سيوفره ذلك من مكاسب مادية لهؤلاء المنتخبين من خلال تحكمهم في سلطة الترخيص و التصرف في جزء من المال العمومي ، وكذا الاشراف على الموارد الحضرية والجهوية. غير أن سعي السلطة في ضمان سلس للتعاقب على الحكم، والبحث عن صيغة سياسية لإدماج المعارضة الاتحادية في دواليب الحكومة، دفع إلى تدشين عمليات تطهير أشرف عليها وزير الداخلية السابق في منتصف التسعينات  من القرن الماضي حيث عكست نتائج هذه العمليات استشراء الفساد  ضمن كل القطاعات الحيوية للدولة، وأثبتت أن هناك شبكة من العلاقات الإدارية والاقتصادية والسياسية قد حولت الممتلكات العامة إلى مجال للنهب والإثراء غير المشروع من خلال استغلال السلطة والنفوذ و اللجوء إلى الارتشاء.

4-الريع وتخليق الحياة العامة

     تبنت حكومة اليوسفي، في طموحها للتخفيف من استشراء الفساد السياسي بالمملكة ،  إلى تبني شعار تخليق الحياة العامة .، حيث تم تحريك بعض القضايا كقضية القرض العقاري و السياحي و القرض الفلاحي. كما تم التشطيب على عدة أسماء لمحامين ينتمون إلى بعض نقابات المحامين الجهوية، واتخذت بعض الإجراءات التأديبية في حق بعض القضاة.

كما تمت صياغة قانون جديد للصفقات العمومية. وفي نفس الإطار أيضا نظمت الوزارة المكلفة بشؤون الحكومة منذ سبتمبر 1999 حملة لتخليق الحياة العامة والتحسسيس بمضار الرشوة والفساد ؛ حيث تم القيام بحملات تحسيسية في بعض المؤسسات المدرسية و بعض دور الشباب. واستمرارا  لهذه الحملة قامت هذه الوزارة بتنظيم حملة إعلامية و إشهارية حول محاربة الرشوة عبر القنوات الإعلامية بما فيها الوصلات الإشهارية التي قدمت طيلة عشرة أسابيع .كما أنه

في هذا السياق الإعلامي و التحسيسي ، نظمت القناة الأولى ليلة 14 ماس 2002 ندوة حول تخليق الحياة العامة حضرتها بعض الفعاليات الحقوقية والجامعية والإدارية في حين سجل غياب الجمعية المغربية لمحاربة الرشوة.

وخلال النقاش الذي عرفته هذه الندوة تمت ملامسة ظاهرة الرشوة بالمغرب إما من خلال مقاربة فقهية او أخلاقية أو إدارية في حين أن الرشوة في المغرب هي قبل كل شيء ظاهرة سياسية مرتبطة بعمق نظام الحكم بالمغرب.

Share
  • Link copied
المقال التالي