غابت بصمة الملك محمد السادس عن التشكيلة الجديدة للمؤسسة التنفيذية، التي استقبل أعضاءها مساء أمس الأربعاء، في أول تعديل تعرفه حكومة أخنوش، استقبال مليء بالدلالات والإشارات، إذ لوحظ غياب ولي العهد الأمير مولاي الحسن “الثالث”، ومستشار الملك المكلف بمهمة التفاوض السياسي، والتقاط صورة للملك بغير لباسه الداكن المعتاد.
تعديل أخنوش الحكومي بات يضم، فضلا عن الرئيس المُعدِّل، 30 وزيرا ضمنهم 6 وزراء جدد، مضافا إليهم 6 كتاب دولة، واللافت أن تركيبة القطاعات السيادية (الداخلية والخارجية والأوقاف والشؤون الإسلامية) لم يلحقها أي تعديل، بعدما بصم وزراؤها الثلاثة، عبد الوافي لفتيت وناصر بوريطة وأحمد التوفيق، على نتائج إيجابية وجيدة لمختلف الملفات، التي يشتغلون عليها، تحت إشراف مباشر من رئيس الدولة، واستباق الملك لتثبيت وزير السيادة شكيب بنموسى مكان أحمد لحليمي الذي وشح صدره بوسام ملكي على ما أداه من وظائف…
وليس من الصدفة أن يتزامن التعديل الحكومي مع “تعديل ترابي” هو الذي يعوّل عليه الملك في مواكبة الأوراش الكبرى المفتوحة في عدد من القطاعات الحيوية، من خلال حركية الإدارة الترابية لمجموعة من الولاة والعمال، حركية تسعى إلى “عصرنة تدبير الموارد البشرية للرفع من أدائها وتوجيهها، للتكيف مع المتغيرات الوطنية والإقليمية، واستيعاب التطورات القارية والعالمية، والمساهمة في رفع التحديات التنموية”، التي تواجه البلاد في ما تبقّى من سنوات 2025 إلى 2030.
التعديل الترابي الواسع، يعكس أنه مدقّق ومخطط، وأن رئيس الدولة يراقب، عن كثب، تدبير الإدارة الترابية لمعايير الكفاءة والاستحقاق والاختصاص، من أجل إضفاء “دينامية فعالة تجعل الإدارة في خدمة المواطنين، وتواكب حاجياتهم، وتراعي مصالحهم”، كما قال بلاغ وزارة لفتيت، الذي أطّر العملية في “تنفيذ التوجيهات الملكية المتعلقة بتدعيم الحكامة الترابية الجيدة”، بما في ذلك السهر على تأمين النزاهة والمصداقية في تمثيلات المنتخبين، التي عادة ما كانت تعرف عمليات بيع وشراء الأصوات والذمم، مما كان ينتج كائنات انتخابية تضع اليد على المجالس الجماعية، للكد والجد والاجتهاد في خدمة المصالح الذاتية الضيقة، الأمر، الذي ينتهي بالعديد من رؤساء الجماعات والمستشارين إلى فضائح الفساد، التي عرضت وتعرض على محاكم جرائم الأموال…
إن قراءة لخلفيات التعديلين، الحكومي والترابي، تضعنا أمام سؤال ملح وحارق: هل يكون المغرب بصدد التهيّؤ لإجراء انتخابات سابقة لأوانها؟ ليس مرد السؤال فقط معطى تعامل الملك مع التعديل الحكومي، الذي منح فيه كل الصلاحيات لرئيس الحكومة، ولا غياب الأمير مولاي الحسن والمستشار الملكي فؤاد عالي الهمة، ولكن وأساسا علامات الفشل الملحوظ للسلطة التنفيذية في تدبير الكثير من الملفات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فضلا عن بنية الفساد، التي زادت تغلغلا في العديد من المؤسسات الدستورية، وفي صدارتها المؤسسات المنتخبة، فهناك عدد كبير وخطير من رؤساء الجماعات ومن المستشارين، الذين يوجدون رهن الاعتقال أو قيد المتابعة، والأمر نفسه، بل أخطر بكثير نجده في البرلمان، المؤسسة التي يفترض فيها أنها تشرّع للمغاربة وتراقب الحكومة، فإذا بالعشرات من النواب والمستشارين يوجدون اليوم خلف القضبان، إضافة إلى آخرين ملاحقين بالمتابعات ومهددين بالاعتقال، مما يطرح أكثر من سؤال حول الجدوى السياسية من مواصلة الولاية التشريعية الحالية، وعدد كبير من أعضائها مدانون بقضايا فساد، وعدد أكبر متابعون بتهم الفساد؟! وبالتالي، فإن اتساع مساحة الفاسدين والمتابعين بالفساد يفرض سقوط البرلمان، ومعه الحكومة، كما يفرض الانطلاق في التحضير لانتخابات سابقة لأوانها، تتوفّر فيها كل شروط النزاهة والمصداقية، وتنبثق عنها مؤسسات تمثيلية قوية، قادرة على إحداث الإصلاح المجتمعي المنشود، وتعكس بأمانة وبصدقية آمال وتطلّعات الأجيال المقبلة، وفي الصدارة جيل ولي العهد…
وبالعودة إلى “لعنة” التعديل الحكومي عند البعض، و”نعمته” عن البعض الآخر، سنجد أنه مسّ فقط الأحزاب الثلاثة المشكلة للائتلاف الحكومي (الأحرار والبام والاستقلال)، التي يتحمّل أمنائها العامون وحدهم، مسؤولية الأعطاب البنيوية، التي كشف عنها تدبيرها الفاشل للسلطة التنفيذية، مما أثار عليها غضب الشارع المغربي، منذ أول شهر في ولايتها الدستورية، وعانى خلالها السواد الأعظم من المغاربة من الإحباط والمعاناة والبطالة والمرض والحكرة وقلّة الشي أمام الارتفاعات الصاروخية في أسعار المواد الاستهلاكية الأساسية…
وأعتقد أن هذا التعديل هو الأول من نوعه، الذي ترك فيه الملك كل أمور تركيبته، حقائب وأسماء، لرئيس الحكومة عزيز أخنوش، الذي دبّر مع حليفيه قرارات الإبعاد وكذا مسارات الاستقدام، بين وزراء وكتاب دولة، ليتبيّن للمتفحّص، ولو دون عناء تمحيص، أن البناء الأساسي للتعديل جاء لتلبية طلبات ورغبات ونَزَعات الزبناء في “المتاجر الممتازة”، حتى لا نقول “الدكاكين”، الحزبية (!!!)، وهذا ما يؤكده فحص سريع للسير الذاتية لأغلب المعينين الجدد، بالعلاقة مع سابقيهم، أو بصلة مع القطاعات، التي عُيّنوا لتدبيرها… ودون الدخول في مجمل تفاصيل التعديل الحكومي، وما طبعه من غبار وشبهات حول أسماء بعينها، يمكن أن نورد، في هذا الصدد، القطاعات التالية على سبيل المثال لا الحصر:
- قطاع الصحة، الذي كان يقوده البروفيسور خالد أيتالطالب، وهو طبيب جراح وأستاذ جامعي، ويعتبر أول من أدخل النظام المعلومياتي للمستشفيات المغربية، إضافة إلى نظام التوزيع الأوتوماتيكي للأدوية داخل المستشفى، فضلا عن إدخال تقنية الإنسان الآلي الجراحي (الروبوت) في العمليات الجراحية، سيتمّ تعويضه بمستخدم لدى زوجة رئيس الحكومة، أمين التهراوي، المتخصّص في مجال التجارة والأعمال، والذي كان يشغل منصب نائب الرئيس التنفيذي لمجموعة “أكسال” المملوكة لسلوى أخنوش! ولنتصوّر أن مستخدم زوجة رئيس الحكومة هو الذي سيشرف على تدبير الورش الحسّاس والعملاق للملك حول الحماية الاجتماعية!
- قطاع التعليم، الذي تحيط به العواصف والزوابع والتوابع من كل مكان، سيوضع بين يدي صديق رئيس الحكومة، المعروف بـ”مول الفانيد والمصاصات”، امحمد سعد برادة، صاحب العديد من الشركات الغذائية والدوائية، فهو، مثلا، “مول” أو صاحب شركة “ميشوك” المتخصصة في الحلويات الصناعية، وصاحب شركة “فارما بروم” المتخصصة في الأدوية، وصاحب شركة “سافيلي” المتخصصة في الحليب ومنتجات الألبان المعقّمة، التي غيّرت اسمها إلى “جبال”، والمنتشرة في السوق المغربية… دون إغفال الأساسي وهو أن سعد برادة عضو في مجلس إدارة شركة “إفريقيا غاز” المملوكة لمجموعة “أكوا” لصاحبها عزيز أخنوش!
- قطاع الفلاحة، لا يضع فيه رئيس الحكومة إلا ذوي ثقته “المطلقة”، لأن مصائب الوزارة، التي ظل يسيّرها عزيز أخنوش منذ حكومة عباس الفاسي سنة 2007، إلى حكومة سعد الدين العثماني، مرورا بسلفه عبد الإله بنكيران، لا يمكن أن يتركها بين أيدي “أجنبية”، بالنظر لما تحبل به من كوارث لا تعد ولا تُحصى، لا يشكّل منها إلا جزءا يسيرا ما ورد في تقرير قضاة المجلس الأعلى للحسابات لسنة 2018، الذين خصّصوا أكثر من 400 صفحة لتشريح ما عرفته وزارة الفلاحة من انزلاقات واختلالات عديدة وبنيوية، سيزكيها تقرير للبنك الدولي، الذي سجّل خلاصة خطيرة جدا وهي أن المغرب أصبح، بسبب تضخم أسعار الغذاء، يشهد نموا متسارعا لمعدل انتشار “انعدام الأمن الغذائي”، وأن المغرب هو البلد الوحيد ضمن بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، الذي لم يقم بإجراءات فعالة لمواجهة آثار التضخم لحماية السكان من آثاره الوخيمة، وفي مقدمتها تآكل القدرة الشرائية… وبذلك، وعلى سبيل “التغيير”، الذي سيكون شكليا، إذ سيبقى تحت نظر أخنوش، وبواسطة صديقه محمد الصديقي، سيأتي بأحد أصدقائه المقربين، أحمد البواري، الذي استقدمه لقطاع الفلاحة ليولّيه مسؤولية مدير الري وإعداد المجال الفلاحي بالوزارة، لينقله التعديل من منصب مدير إلى رتبة وزير، ليس بهدف بنائي من قبيل البحث عن حلول مبتكرة للنهوض بالفلاحة المغربية ولتأمين التدابير الاستعجالية الضرورية لمواجهة آثار نقص التساقطات المطرية وغير ذلك مما ينتظره رئيس الدولة، وإنما لتنفيذ ما يريده رئيس الحكومة، وهو الإبقاء على أسرار القطاع الفلاحي تحت السيطرة وتحت الكتمان حتى لا تنفجر ما بداخله من ملفّات مشتعلة!
- قطاع الصيد البحري، وُضع بين يدي الصديقة المقربة من رئيس الحكومة ويده اليمنى في قطاع الصيد البحري، زكية الدريوش، التي ظلت تعتبر هي “الآمرة الناهية” في الوزارة، وتوصف بـ”المرأة القوية”، والتي أثيرت حول تدبيرها للقطاع العديد من الاختلالات، بل وحتى “الشبهات” في ما يتعلق بـ”كوطات الريع” في صيد الأسماك، والتي كنتُ تنبّأتُ، قبل الإعلان عن حكومة أخنوش في نسختها الأولى، أن رئيس الحكومة سينقل تدبير الدريوش لقطاع الصيد البحري من “كاتبة عامة” بالنيابة إلى “كاتبة دولة”، وهو ما تحقّق في التعديل، مما سيفتح أمامها كل الأبواب مشرعة لتعمل “العمايل” في الصيد البحري، وفي تقرير مصير ثروة المغاربة السمكية، وفي الاستفراد بملفات “الكوطات”!
- قطاع الصناعة التقليدية، وهنا إشكال حقيقي في هذا القطاع، يجسّد الزبونية في أفضح صورها، إذ أن المعيّن لتدبيره، الذي نال، السنة الماضية، شهادة “الماستر” في موضوع حول السياسات المائية، هو رئيس شبيبة حزب الأحرار، لحسن السعيدي، الذي بلا تاريخ ولا حكايات غير “التملّق” لرئيس حزبه، وكل ما عُرف عنه من تخصّصٍ هو شتم المعارضة، وكَيْل الاتهامات للمخالفين، وتخوين المحتجين على أخنوش وعلى حكومته، لذلك سيكون قطاع الصناعة التقليدية بين أيدي “كاتب دولة” كل رصيده هو “التشييت” و”الشتائم”!
لقد ترك القصر لرئيس الحكومة صلاحية أن يدبّر بنفسه تفاصيل التعديل الحكومي، دون أن يتدخّل لا في الأسماء ولا في الحقائب، وفي اعتقادي أن هذه رسالة من الملك إلى حكومة أخنوش، تتضمّن موقفا سلبيا من نتائج التدبير الحكومي، الذي فشل في تحقيق انتظارات الملك وأجهض آمال المغاربة في العيش “أحسن”، إذ لم يروا إلا ما هو “أكفس” في حكومة، تعتبر نسختها الثانية “أسوأ” و”أفدح”، ولأنهم لم يروا فيها أيّ أثر لما نادى وأمر به الجالس على العرش من توجيهات حول توخّي الجدية والكفاءة والاستحقاق والاختصاص، وكل هذا وغيره يفتح الأبواب مشرعة أمام سيناريو الانتخابات السابقة لأوانها!!!
يتبع..
تعليقات الزوار ( 0 )