بعد كارثة الزلزال المدمر بمنطقة الحوز، هبّ الشعب المغربي – قبل أن تطالبه مؤسسات الدولة – لتقديم العون والمساعدة للضحايا في الأقاليم المتضررة، وكعادة الناس في النوائب والكوارث، فإنهم يتساءلون عن قضايا ذات صلة بأحكام دينهم وبالنازلة، مثل سؤالهم عن حكم تعجيل الزكاة لتقديمها لقوافل التضامن المتوجهة من كل ربوع المملكة.
وقد أجاب الشيخ الدكتور مصطفى بنحمزة [رئيس المجلس العلمي الجهوي للمنطقة الشرقية] عن هذا السؤال، وأذيع عبر الأثير، وانتشر في وسائل التواصل الاجتماعي، وكانت فتواه مصرحة بالجواز والإباحة، ورجّح في هذه النازلة المذهبَ الحنفي، وتوسع جدا حين أباح لمن أخرج زكاته في محرم أن يعجل زكاة الحول القادم الآن، وفتواه كانت أواخر صفر.
وقد استغربت هذه الفتوى من عدة وجوه، أهمها أن فضيلته شديد التمسك بالمذهب المالكي، كثير الدعوة إلى التشبث به وعدم الحيدة عنه، بدعاوى متعددة أهمها أنه فقه المصلحة والاستصلاح، وهو في هذه النازلة؛ ولعله تحت تأثير الجوانب العاطفية؛ سارع إلى التلفيق المذهبي، واحتمى بما عليه مذهب الحنفية، وكأنه لم يجد المصلحة في فقه المالكية.
شخصيا، لا أجد حرجا في التلفيق والانفتاح على المذاهب، بل ذاك هو الأفضل مقارنة مع التشبث الأرثوذكسي بمذهب ما، لكن القضية لما كانت فقهية تعبدية، كان حريا بالمفتي أن يتمسك بالدليل ويرجِّح به ويدور معه، صيانةً لديانة الناس، وحرصا منه على إمضاء عباداتهم على وجه الصحة.
بالنسبة لتعجيل الزكاة قبل وقتها، أجاز ذلك الحنفية والشافعية والحنابلة، ولهم في ذلك تفصيلات، ومنهم من جوّز تقديمها بالسنة والسنتين، وهذا ما خالفهم فيه الإمام مالك، وجرّ عليهم الويلات من ابن حزم وتنقيداته الدقيقة.
وبما أن الزكاة من التعبد، فإنه يصعب الاستدلال على تقديم الزكاة قبل وقتها، كما يصعب تقديم الصيام أو الصلاة أو الحج عن مواقيتها إلا إذا كان للزكاة دليل صحيح صريح يبيح التقديم، وهو مفقود.
لذلك كان رأي الإمام مالك والظاهرية أقوى وأصح وأرجح.
والمغاربة؛ في الغالب؛ تعودوا على إخراج زكواتهم في شهر الله المحرم، ولو تفاعلوا إيجابا مع فتوى فضيلة الدكتور، فإن مالكي النصاب سيخرجون زكواتهم في أواخر صفر وبداية شهر الربيع النبوي، وهنا إشكالات لا محيد عنها:
أولها: من يملك النصاب الآن لا تعد الزكاة واجبة في حقه، لعدم حولان الحول، وإذا مر الحول وكان هذا المزكي قد مات، أو فقد النصاب، فإن الزكاة لا تكون واجبة عليه، فبأي صفة أخرجها في صفر أو الربيع؟
ثانيها: من يملك النصاب الآن، ثم نما ماله أكثر بعد حولان الحول، فهل سيكتفي بالزكاة التي عجل إخراجها؟ أم سيخرج نصيبا آخر على الزكاة الأولى؟ وكيف سينجز هذا الحساب؟
ثالثها: إذا أخرج المغاربة زكواتهم الآن في صفر أو الربيع، وقدموها للمستفيدين منها في ثلاثة أقاليم أو أربعة، فمَن للفقراء والمحتاجين في الأقاليم الأخرى بعد حولان الحول؟
إننا سنُحْدث خللا في التوازن المجتمعي، إذ سنحرم فقراء عشرات الأقاليم من عائدات الزكاة لمدة 22 شهرا، وهذا مخالف لأحد أهم مقاصد الزكاة الرامية إلى إحداث نوع من التوازن المجتمعي والمالي.
رابعها: حدد القرآن الفئة المستهدفة من الزكاة، ومنها الفقراء والمساكين، وبعض المتضررين من الزلزال ليسوا فقراء أو مساكين، بل منهم الأغنياء، وبعضهم يملكون عقارات متضررة في مناطق الزلزال، ويملكون معها عقارات في مدن كبرى مع فلاحة أو تجارة متطورة، فهل يستحقون من أموال الزكاة شيئا؟
نعم، من حقهم كمتضررين أن يستفيدوا من دعم الدولة وبرامجها الإنمائية باعتبارهم مواطنين ودافعي الضرائب، والزكاة لا تقدَّم لمستحقيها باعتبار المواطنة أو دفع الضرائب، فوجب الانتباه لهذا الفارق المهم.
بناء على الاعتبارات السابقة، كيف يتعامل الفقيه مع هذا السؤال الذي وُجِّه وسيُوَجَّه إليه؟
كثيرا ما يبقى الفقيه حبيس السؤال، لا يتجاوزه يمنة أو يسرة، وهذا عطب في المنظومة الفقهائية.
حري بالفقيه إن وُجه إليه السؤال أن يشكر السائلين على تفقههم في دينهم وسؤالهم عما غمض من قضاياه، وينتقل بالسائلين والمستفتين بسلاسة من الفقهيات إلى الأخلاقيات، فيبين لهم أن الإنفاق عموما، والإنفاق في النوائب الجماعية خصوصا، من الأمور المحمودة التي رغب فيها الشرع وحض عليها، وأن الإنفاق مراتب ومقامات، أعلاها أن ينفق الإنسان مما يحب ويشتهي، فينال بذلك تزكية نفسه والرقي بها إلى مراتب عليا من الاستقامة النفسانية المعبَّر عنها بالبر: “لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون”، كما أن الإنفاق في هذه الحالات يتضمن عددا من المميزات، منها تفريج الكربات، وإدخال السرور على قلب المسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: “من فرّج عن مسلم كربة فرّج الله عز وجل عنه بها كربة من كرب يوم القيامة”، وكفى بهذا جزاءً.
وبعد أن يحض المفتي مستفتيه على هذه الأخلاقيات، يخبره عن الحكم الشرعي في تعجيل الزكاة، وهو المنع، ويسترسل معه ليبين له أن المسلم يحرص على عبادة الزكاة حرصا يحصنه من إيتائها على وجه مخالف للصحة مانعٍ من الإجزاء، وهذا الحرص هو الذي منعه من الانسياق وراء العاطفة والقول بالجواز.
فيكون المفتي قد جمع بين الحسنيين، بحيث قدّم للمستفتي الحكم الشرعي الصحيح المؤيد بالدليل وليس بالعاطفة، وفي الوقت نفسه، يكون جوابه محرضا على العطاء والإنفاق وليس صادّا عنه.
قد يقول قائل: إذا قلنا بمنع تعجيل الزكاة، فإن المساعدات الموجهة للضحايا ستقلّ مقارنة مع قولنا بالإباحة.
وهذا غير سديد، لأن الزكاة ليست هي الوسيلة الوحيدة المتعينة في هذه النازلة، وهنا على الفقهاء أن يتنبهوا إلى عنصر مهم جدا في مثل هذه الحالة، وهو عنصر الدولة وتدخلها، لأن الضحايا مواطنون، لهم حقوق المواطنة في الشدة كما في الرخاء، والدولة مسؤولة عن المواطنين مسؤولية كاملة في الزلازل وما يماثلها، وإذا اضطرت إلى أخذ المال من المواطنين، فلها الحق دستوريا في ذلك مع ضرورة أن تسلك المساطر القانونية السليمة، إذ في المال حق سوى الزكاة، وضحايا الزلزال لهم الحق في الكرامة، ولا يمكن أن يبقوا في العراء بدون مسكن أو لباس أو تمدرس أو شغل وهم بالآلاف، لذا وجب على المجتمع أن يحتضنهم ويساعدهم، والوجوب المجتمعي هو المعبَّر عنه بفروض الكفاية، والذي ينظم فرض الكفاية في عصرنا هم الجمعيات أو المؤسسات، وأهم من ذلك: الدولة، نظرا لمسؤوليتها القانونية.
وما دام عندنا الحل المجتمعي المتمثل في التضامن، وقد بادر المغاربة إلى ذلك، والحل المؤسسي المتمثل في تدخل الدولة ومؤسساتها، والحل الثالث المتمثل في الجمع بين الدولة والمجتمع من خلال حملة تبرعات، والحل الرابع المتمثل في إمكان استقبال مساعدات مالية ومادية من الدول الصديقة كما جرت بذلك العادة في مثل هذه المصائب، فإنه – في هذا السياق – لا يوجد ما يسوغ القول بتعجيل الزكاة، خصوصا أن ذلك التعجيل قد تترتب عليه أمور خطيرة، منها وضع زكوات الناس تحت طائلة البطلان وعدم الإجزاء، وهذا وحده يكفي للتحذير من فتوى التعجيل.
تعليقات الزوار ( 0 )