ارتبط التمدد الامبراطوري للدولة بالمغرب بقدراته الذاتية على تصنيع معداته العسكرية من سيوف ودروع ومنجنيق سواء في فتح بلاد الأندلس ، أوبسط نفوذه السياسي بالمغرب الأوسط أو في غزو بلاد السودان . كما عرف المغرب كورشة للصناعات الحربية النارية ، حيث سعت السلالات الحاكمة ، خاصة منذ الفترة السعدية ، لضمان كفايتها من الإنتاج الحربي وخلق مصانع متخصصة في صناعة الأسلحة النارية والرماية المدفعية، لتلبية الاحتياجات العسكرية وتجنب الكلفة المادية لاستيرادها وكذلك الاستقلال عن الوسطاء.
I -إرهاصات التصنيع الحربي بالمغرب
حاول المغرب طيلة الفترة السياسية الممتدة من المرابطين إلى عهد السلاطين السعديين والعلويين الحفاظ على سيادته العسكرية واستقلاليته الحربية من خلال الاعتماد على قدراته المحلية في إنتاج وتصنيع أسلحته الحربية وعتاده العسكري بما في ذلك الأسلحة النارية قبل أن ينزلق في تبعية عسكرية أدت إلى هزائم عسكرية انتهت بفقدانه لسيادته الوطنية.
- التصنيع الحربي وتكريس السيادة العسكرية
اعتمد المغرب في جل حروبه التوسعية في محيطه الإقليمي المتوسطي ( فتح الأندلس أو المغرب الأوسط)أو عمقه الافريقي (فتح بلاد السودان) على قدراته العسكرية الذاتية حيث كان يصنع أسلحته وعتاده الحربي محليا . فقد كانت مختلف الأسلحة التي كان تستخدمها جيوش السلاطين المغاربة من سيوف و دراقات الدفاع ، وحراب ، وسهام من صنع محلي (1). فقد ساهمت بعض الحرف في مدن فاس ومراكش وغيرها في صنع هذه الأسلحة : فحرف دباغة الجلود اهتمت بصناعة السروج والدرق والدروع، في حين اهتم الحدادون بصناعة وصقل الأسلحة البيضاء من سيوف وخناجر وحراب (2).
كما اهتم السلاطين المغاربة أيضا بصناعة السلاح الثقيل من منجنيق وغيره حيث أشار المؤرخ الحسن الوزان في كتابه (وصف افريقيا) أن هذه الأسلحة قد شغلت مساحات مهمة من مدينة فاس حيث كان تتم صناعة المنجنيق.(3).
ولم يقتصر التصنيع الحربي بالمغرب على هذه الأسلحة فقط ، بل شمل أيضا الأسلحة النارية . إذ تم استخدام السلاح الناري بداية في العهد المريني (4) ليتسع استعماله في عهد السلاطين السعديين . ” فانتشار وتنوع السلاح الناري ، من أنفاض وبوزات ومهاريس وبنادق قصيرة mousquetons …لم يتم على نطاق واسع في صفوف الجيش ومن كان ينضم غليه من حراك ومتطوعة القبائل ، إلا في عهد السعديين ، وبالخصوص أيام السلطانين عبد المالك السعدي وأخيه وخلفه أحمد المنصور الذهبي …” (5).
و هكذا تعتبر الفترة السعدية العصر الذهبي لهذه الصناعة، فأقدم مدفع مغربي هو الذي يرجع إلى عهد محمد الشيخ الأول عام 952 هـ. ثم تكاثر هذا الجهاز فيما بعد بالمغرب السعدي، فقد هاجم عبد الله الغالب مدينة البريحة بأربعة وعشرين مدفعا في مقدمتها واحد يسمى ميمونة، وكان في غاية الكبر، وبعد هذا تشتمل بعض “محلات” محمد المتوكل على أكثر من مائة وخمسين نفظا. ولما بويع عبد الملك المعتصم اهتم – أكثر – بإنتاج المدافع التي كان عارفا بصناعتها وأشرف – بنفسه – على إعداد نحو ثمانية منها . وقد بنى المنصور السعدي “دار العدة” على مقربة من قصر البديع بمدينة مراكش، وهي التي يقول عنها الفشتالي: وأما ما يفرغ مع الأيام من مدافع النار ومكاحلها بدار العدة المائلة قرب أبوابهم الشريفة من قصبتهم المحروسة… فشيء غصت به الخزائن السلاحية والديار العادية”.وقد كان ضمن الجيش المنصوري أربع فرق مدفعية تسمى بجيوش النار أو عساكر النار، قال الفشتالي: “والترتيب الذي جرى عليه العمل في عساكر النار بالحضرة: أن يتقدم – أولا – جيش السوس، ثم يردفه جيش الشرافة، ثم يردفهما العسكران العظيمان: عسكر الموالي المعلوجين ومن انضاف إليهم، وعسكر الأندلس ومن لبس جلدتهم ودخل في زمرتهم”:وعن مدى أثر الآلات النازية في المواقع، يسجل نفس المصدر أن جيوش المنصور قاذفة بشواظ النار، وحصباء البندق المنهل بسحائب البارود المركوم. تزجيه الرعود القاصفة، والصواعق الراجفة. والي عهد المنصور يرجع بناء أٍربعة عشر برجا مدفعيا تسمى “بستيونات”، وتتنوع بين أربع مدائن مغربية: واحد منها في مدينة تازا، واثنان بمرسى العرائش، وتسعة تحف بأسوار فاس الجديد، واثنان خارج فاس العتيق على مقربة من باب الفتوح وباب محروق، وقد كان هذا الأخير يعرف ببرج النار، تدليلا على مهمته المدفعية، ثم تنكب السكان هذا التعبير واستبدلوه باسم “برج النور”.وقد جهز نفس السلطان هذه الأبراج الأربعة عشر بالمدافع وأسكن بها الحاميات المختصة، وكانت مدافع حصني فاس القديمة تقذف بالبارود والنار، وبالأكر المعدنية والحجرية.(6)
وقد عمل السلاطين العلويين (7) على لإحياء صناعة الأسلحة النارية والرماية المدفعية، حيث استقدم السلطان محمد الثالث – لهذه الغاية – بعثة من الأستانة عاصمة الخلافة العثمانية، عسكرية تركية في سنة 1767 تتكون من ثلاثين خبيرا توزعوا – حسب اختصاصاتهم – إلى أربع شعب:
– صناع السفن الحربية
– صناع القنابل المحرقة
– صناعة المدافع ومدافع الهاون
– اختصاصيين في الرماية بمدافع الهاون
وقد بعث السلطان المغربي بمعلمي المراكب الجهادية إلى العدوتين، فدخلوا دار الصنعة بالرباط وصاروا يشتغلون إلى جانب المعلمين المغاربة (8) أما صناع المدافع ومدافع الهاون فقد أرسلوا إلى فاس فأقاموا بها إلى أن أدركتهم الوفاة هناك(9) .
كما أسس نفس السلطان مصنعا بتطوان لإنتاج القنابل الثقيلة تحت إشراف المتخصصين الأتراك، الذي تعلم منهم هذه الصناعة بعض التطوانيين (10) . وقد كان من مظاهر النشاط الصناعي لإنتاج بعض الأسلحة النارية في هذا العهد، أن المغرب استطاع أن يصدر إلى الخارج أربعة آلاف قنطار من ملح البارود المصنوعة بالمغرب، في شكل مساعدة للدولة العثمانية (11).
- 2- التصنيع الحربي ومحاولة التخفيف من التبعية العسكرية
شكل الضعف العسكري الذي برز بشكل واضح ابتداء من حل الأسطول البحري المغربي سنة 1817، و الهزيمتين اللتين تكبدهما المغرب أولاها سنة 1844 في معركة إيسلي أمام الجيش الفرنسي، (12) والهزيمة الثانية أمام إسبانيا سنة (1859 ـ1860) في حرب تطوان(13) أحد العوامل الأساسية في دفع السلطان محمد الرابع إلى تحديث الجيش من خلال محاولة استقطاب خبراء ومدربين عسكريين غربيين من أجل تكوين جيش نظامي على النمط الأوروبي. واقتناء أسلحة متطورة. لكن طموحه في التجديد لم يقف عند استيراد الأسلحة والآليات المتطورة فحسب، بل تعداها إلى فكرة صناعة هذه الاحتياجات العسكرية من أجل تجنب المبالغ المكلفة لاستيرادها وكذا الاستقلال عن الوسطاء الأوربيين. فجاءت فكرة إنشاء مصانع للسلاح، أولها في مراكش سنة 1860. لكن ضعف الإنتاج وقلة جودة أسلحة مصنع مراكش اللذين كان مردهما إلى ضعف الخبرة العسكرية المتطورة الحديثة من ناحية، ووقوع المغرب في أحابيل وخداع تجار الأسلحة والسماسرة، الأجانب الذين كانوا لا يريدون أن ينعتق الجيش والحكومة المغربية من التبعية العسكرية الغربية، دفعت السلطان مولاي الحسن إلى إنشاء دار السلاح بفاس، أو ما ما سميت بالمكينة. macchina” التي ارتبطت بالبعثة الإيطالية التي كلفت من طرف السلطان ببناء هذه الفبريكة . ولعل اختيار هذه البعثة الإيطالية من طرف السلطان لم يكن وليد الصدفة ن بل لتحقيق هدفين أساسيين:
- الأول السعي لتكوير صناعة حربية حديثة
- والثاني الإفلات من قبضتي الفرنسيين والانجليز اللذان يرغبان في إبقاء سياسة المغرب العسكرية تحت سيطرتهما (14)
وقد استغرق بناء هذه المنشأة العسكرية،(15) التي سيطلق عليها سكان فاس لاحقا اسم المكينة، أربع سنوات. وكانت من تخطيط ثلاثة مهندسين إيطاليين وتحت إشراف الكولونيل الإيطالي جيورجيو بروكولي.غير أن إنجاز هذا المصنع لم يؤدي إلى حصول المغرب على حاجياته من البنادق والذخيرة نظرا لعدة أسباب تقنية تتعلق بالافتقار إلى العدد الكافي من الصناع المؤهلين . فعلى الرغم من توفر المصنع على معمل للحدادة وبمشغل للنجارة والعربات، وكل ذلك بآلات حديثة مثل مطرقة آلية ومخاريط مختلفة لإصلاح الأسلحة.. فلم يكن ينتج أكثر من خمس بندقيات في اليوم. (16) كما واجهت هذا المشروع العسكري عدة عراقيل وصعوبات سواء من داخل المخزن ، ” إذ لم يتوان وزير الحرب في التعبير عن معارضته للايطاليين (17) أو من خارجه. إذ لم يكن من صالح المستوردين وسماسرة الأسلحة أن تصنع هذه الحاجيات في المغرب وتصبح في متناول الكل وبأثمان مناسبة. لذلك، عملوا كل ما في وسعهم من أجل إجهاض هذه الخطوة الجريئة، فجندوا لها الفقهاء المتشددين من خلال إغرائهم والإغداق عليهم بالعطاءات حتى يتصدوا لكل خطوة إصلاحية يقوم بها السلطان. (18) وبالتالي ، فبعد وفاة السلطان مولاي الحسن ، توقف العمل بهذا المصنع وأغلق أبوابه في سنة 1903 (19)ليتحول بعد الحماية إلى محل لصنع الزرابي(20).
II– مقومات التصنيع الحربي بالمغرب
يبدو أن الملك محمد السادس قد قرر ، بعد أكثر من حوالي قرن على إغلاق “دار الماكينة”، التي أنشئت في ساحة القصر الملكي بفاس كمعمل لصنع المدافع والبندقيات والبارود، و”دار العدة” التي سبق أن أنشئت للغرض نفسه قرب القصبة بمراكش، على إحياء صناعة حربية بالمملكة. حيث يبدو أن هناك مجموعة من الدوافع والمقومات التي توفرت لخوض غمار هذا المشروع بعدما تحول المغرب إلى قوة إقليمية بمنطقة البحر المتوسط وشمال افريقيا.
- دوافع خلق صناعة حربية
يرتبط توطين صناعة حربية بدوافع جيوسياسية إقليمية تتمثل في حفاظ المغرب على توازناته الاستراتيجية في فضائه الجيوسياسي؛ وذلك للتطورات التي تشهدها منطقة شمال إفريقيا والساحل والصحراء وكذا للتخفيف من تبعيته العسكرية للخارج.
- التنافس الإقليمي
إن الرغبة في خلق صناعة عسكرية محلية تندرج في إطار رؤية سياسية للالتحاق بالدول الصاعدة والتي تضع تطوير منصة صناعية حربية في قلب تنمية قطاعاتها الوطنية والمحلية. فلمصر استثمارات ضخمة في الأسلحة والمعدات لعسكرية، بالإضافة إلى منشآت لتطوير صناعتها العسكرية.حيث تعتبر الصناعة العسكرية في مصر من أكبر الصناعات الحربية في الشرق الأوسط، التي تنتج أسلحة مختلفة، منها أسلحة المشاة الخفيفة، والذخائر، والدبابات والصواريخ الجوية. “وبالنسبة لصناعة الأسلحة المرخصة فان مصر تتعاون مع عدد من دول العالم في مجال التصنيع العسكري وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية وروسيا وإنجلترا والصين وجنوب أفريقيا وفرنسا وبريطانيا وفنلندا وغيرها، لإنتاج دافع الدبابات ومدافع الهاوتزر، بالإضافة إلى تطوير وإنتاج قذائف الهاون المضادة للطائرات ومعدات الاتصالات وأنظمة مكافحة الحريق وإنتاج المعدات العسكرية والبصريات، حيث استطاعت تكوين خبرة غنية.ولدى مصر 16 مصنع لصناعات العسكرية والمدنية المملوكة لدولة، ولها حق الاحتكار في إنتاج الذخائر وتجميعها في مصر. وبالتعاون مع إسبانيا وألمانيا تم تطوير أول طائرة مقاتلة نفاثة في إسبانيا. وهكذا فإذا كانت مصر مصنعة للسلاح الصغير والمتوسط في ثمانينيات القرن 20، فقد دخلت في تسعينيات القرن 20 صناعة السلاح الثقيل لتنتقل بعد عام 2000 إلى مرحلة بدء تصميم أنظمة السلاح والآن تصمم مصر الأسلحة الصغيرة والمتوسطة وتنتج الأسلحة الثقيلة وتطورها بالإنتاج الذاتي… حيث وصل حجم إنتاج مصر العسكري إلى 3.8 مليارات جنيه (717 مليون دولار) في سنة2008 (21)، كما تمتلك الجزائر صناعة حربية حيث أن” الحصار الاقتصادي والحظر الدولي للأسلحة على الجزائر من طرف فرنسا وأمريكا جعل الجزائر تعتمد على قدراتها الخاصة لتطوير صناعتها العسكرية للحرب على الإرهاب حيث قامت الدولة بتكليف قوات الجيش الجزائري ممثلة (بالمديرية المركزية للصناعة العسكرية (الجزائر) بالاعتماد على نفسها لصناعة عسكرية، وشراكة مع شركات عالمية مختصة. وتتمثل منتجات الصناعة العسكرية الجزائرية في تصنيع طائرات بدون طيارتم تسميتها الدرون المسلح «الجزائر 54» الذي يمكنه حمل اربع صواريخ و طوربيدات مضادة للسفن والغواصات، وطائرات للتدريب مصنعة من قبل مؤسسة بناء الطائرات (ECA) بقاعدة طفراوي جنوب مدينة وهران، وهي نفس المؤسسة التي تقوم بتصنيع أول طائرة بدون طيار جزائرية بطول 3 أمتار والتي يمكن أن تطير على ارتفاع 7000 متر لمدة 36 ساعة ، وكذا صناعة طائرة نقل عسكرية لحمل الجنود. .كما كان من أبرز ما حققته البحرية الجزائرية تطوير طراد جديد محلي التصنيع والتصميم من نوع كورفت جبل شنوة مجهزة لحرب السفن والغواصات ومهام البحث والإنقاذ، يبلغ طولها قرابة 60 م ووزنها 550 طن وسرعتها 30 عقدة، تم تسليح هذه القطع ب 4 صورايخ صينية من نوع سي-602 (C-602) ومدفعين أمامي 76 ملم من نوع AK-176 وخلفي مضاد للطيران 6x30 ملم من نوع AK-630….كما تصنع مؤسسة البناءات الميكانيكية بخنشلة منذ عام 1990م تحت الترخيص أغلب الأسلحة الروسية مثل المسدسات والرشاشات أشهرها الكلاشنكوف (الجزائر) AK-47 وAK-12 قناصة Dragunov ورشاشات RPD بالإضافة إلى قاذفات آر بي جي RPG بالإضافة إلى ذخيرة كل نوع وجميع أنواع القذائف وصواريخ. بالإضافة إلى ذلك تمتلك الجزائر مصانع ضخمة متخصصة في الصناعات الحربية من بينها القاعدة المركزية للإمداد التي تقع في بني مراد ولاية البليدة، هذه القاعدة الضخمة التي تم انشاؤها في سنة 1975 وتم تجهيزها بمختلف الالات التكنلوجية الحديثة وتتمثل مهام هذه المؤسسة في تطوير وتصليح الالات الحربية مثل الدبابات المدرعات السيارات رباعية الدفع مما يغني الجزائر عن إرسال دباباتها ومدرعاتها إلى الدول المصنعة لتطويرها. كما يتم في نفس المؤسسة تصنيع الكثير من قطع غيار المدرعات والدبابات، وتطوير وتصليح عتاد عسكري لعدة دول عربية وأفريقية كالمدرعات والدبابات التونسية والليبية في هذا المصنع الذي يشغل المصنع قرابة 2000 عامل من مهندسين وتقنيين وخبراء في هذا المجال حيث تم تكوينهم في أكبر الجامعات الالمانية في مجال تخصصاتهم (22) . وبالتالي يرغب المغرب في أن يخلق صناعة حربية خاصة في إطار التنافس الإقليمي مع الجزائر الذي انتقل من مرحلة السباق نحو التسلح إلى التنافس على توطين الصناعات العسكرية. ولعل الزيارة االتي قام بها ، رئيس أركان الجيش الجزائري شنقريحة إلى الصين تدخل في إطار هذه المنافسة الإقليمية.حيث تم التركيز في هذه الزيارة على مساعدة الصين للجزائر في صناعة الطائرات العسكرية بدون طيار، وذلك بعدما علمت الجزائر أن المغرب قريب من الانطلاق في عملية صناعة “الدرونات” الحربية، الشيء الذي يدخل في باب التنافس والنفوذ سواءً بشمال إفريقيا أو بمنطقة الساحل الإفريقي. فالتنافس بين البلدين تجاوز اليوم شراء أهم التكنولوجيا العسكرية إلى مجال توطين صناعة الأسلحة. إذ تحاول الجزائر عدم جعل المغرب يتحرك بحرية في هذا الإطار، من خلال سعيها إلى خلق صناعة عسكرية في نفس المجال الذي شرعت المملكة المغربية في التوجه نحوه.
-التخفيف من التبعية العسكرية للخارج
يبدو أن هناك توجه لدى صانع القرار السياسي على تقليص التبعية للخارج فيما يخص استيراد بعض الأسلحة وتموين مختلف فرق القوات المسلحة المغربية بمختلف القطع الحربية والعسكرية ذات الاستهلاك الروتيني. بالإضافة إلى مساعدة بعض الجيوش الإفريقية على امتلاك بعض الآليات العسكرية التقليدية والكلاسيكية الضرورية في التمارين والعمليات الحربية والأمنية(23). وبالتالي ، لجأ المغرب إلى إقامة شراكات متعددة في إطار سياسة تنويع الشركاء التي تبنها المغرب في العديد من قطاعاته الاستراتيجية؛ وذلك للاستجابة الفعالة لحاجياته الحيوية وتقليص الارتباط بموردين محدودين لعدم الوقوع في فخ التبعية الاستراتيجية. فبالاضافة إلى شراكات مع الحلفاء التقليديين، على غرار الولايات المتحدة الأمريكية (24) وفرنسا؛ لوحظ في السنوات الأخيرة انفتاح القيادة العسكرية في الرباط على أسواق مختلفة ومهمة، كتركيا والهند وإسرائيل والبرازيل التي تعتبر من الأسواق الصاعدة في قطاع الصناعات الحربية والتي سيستفيد منها المغرب من أجل تعزيز رؤيته المتعلقة بتنزيل خريطة طريقه المرتبطة بصناعة عسكرية محلية.(25) فإرساء منظومة متكاملة للتصنيع الحربي سيساهم أيضا في خفض تكاليف الاستيراد وتأمين الاحتياجات الدائمة للقوات المسلحة الملكية، خاصة على مستوى قطع الغيار. فقد سبق للمغرب أن أبرم مجموعة من الاتفاقيات نتجت عنها نفقات عسكريّة ضخمة وتحويل مبالغ كبيرة بالعملة الصعبة إلى الخارج لتغطية صفقات التسلّح، وبحسب دراسة نشرها (معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام) في مارس 2023، فقد احتلّ المغرب المرتبة 29 عالميّا بين كبار مستوردي الأسلحة؛ وكانت الولايات المتحدة أكبر مصدّر للسلاح إليه بحصة نسبتها 69%، تلتها فرنسا بحصة نسبتها 14 في المئة.ومثّلت هذه الواردات المغربية 0.8% من أجمالي واردات الأسلحة العالمية في الفترة من 2019 إلى 2023.
كما أن صناعة الدفاع المغربية يمكن أيضا أن تخلق خط تصدير للسلاح المغربي إلى بعض الدول الشريكة في القارة الإفريقية، مع ما يعنيه ذلك من زيادة تموقع المملكة في فضاء الجيو-سياسي الإقليمي والقاري.(26) إذ أن التوجّه المغربي إلى تعزيز الصناعات العسكريّة ينطوي أيضا على رغبة في التخلّص من التبعية المطلقة في استيراد الأسلحة والانكشاف على المخاطر التي قد تفرزها المتغيرات الدولية.(27)
- مقومات خلق صناعة حربية
تتمثل هذه المقومات في بلورة ترسانة قانونية وإبرام شراكات مع بعض الدول المصنعة وكذا إحداث مناطق للصناعة الدفاعية.
- وضع ترسانة تشريعية للتصنيع العسكري
في إطار السعي الرسمي لتوطين صناعة حربية بالمملكة ، تم على المستوى التشريعي المصادقة على مجموعة من القوانين التي تؤطر التصنيع العسكري على غرار القانون رقم 10.20 المتعلق بعتاد وتجهيزات الدفاع والأمن والأسلحة والذخيرة. فبعدما تم التصويت بالاجماع على مشروع هذا القانون (28) من طرف مجلس النواب بتاريخ 14 يوليوز 2020؛ أحيل على لجنة الخارجية والدفاع الوطني والمغاربة المقيمين في الخارج في 15 يوليوز 2020 لمجلس المستشارين الذي وافقت عليه بالاجماع في اجتماعها المنعقد يوم الخميس 16 يوليوز 2020. ليتم التصويت بالاجماع، في الجلسة العامة المنعقدة بتاريخ 17 يوليوز 2020.
ومن خلال هذا القانون يحاول المغرب تعزيز شروط إنشاء صناعة عسكرية مغربية، من خلال وضع آليات للإشراف على عمليات التصنيع الحربي بالمملكة تتمثل في إحداث “اللجنة الوطنية لعتاد وتجهيزات الدفاع والأمن والأسلحة والذخيرة”، التي سيعمد إليها “دراسة وإبداء الرأي بشأن طلبات تراخيص التصنيع وتراخيص التصدير، وكذا دراسة وإبداء الرأي بشأن تعديل تراخيص التصنيع وتراخيص التصدير أو إيقافها أو سحبها”. كما ستحدث لجنة للمراقبة لدى اللجنة الوطنية يعمد إليها بحسب ما تشير إليه المادة 32 مراقبة الأنشطة التي يقوم بها الحاصلون على التراخيص.
في حين حدد هذا النص القانوني طبيعة الأسلحة المسموح بتصنيعها في المملكة، حيث قسمها إلى ثلاث فئات:
-الفئة الأولى تحمل عنوان “عتاد وتجهيزات وأسلحة وذخيرة الدفاع” وتضم عتاد الحرب وأسلحة وذخيرة الدفاع ومكوناتها وفروعها وأجزائها وكل نظام أو برنامج معلوماتي أو معدات للمراقبة أو الرصد أو الاتصال.
– أما الفئة الثانية فتضم “عتاد أو تجهيزات وأسلحة وذخيرة الأمن” وتضم الأسلحة والذخيرة. ومكوناتها وفروعها وأجزائها وكل نظام أو برنامج معلوماتي أو معدات للرؤية والمراقبة أو الرصد والاتصال أو التنقل والحماية التي يمكن أن تخصص سواء للحفاظ على الأمن والنظام العامين أو للاستعمال العسكري.
– بينما الفئة الثالثة تهم “الأسلحة والذخيرة المخصصة لاستعمالات أخرى” وتضم أسلحة القنص والرماية والرياضية، والأسلحة المستعملة في انطلاق المنافسات الرياضية، والأسلحة التقليدية وأسلحة الهواء المضغوط، وكذا ذخيرة هذه الأسلحة ومكوناتها وفروعها وأجزائها.
ويؤكد القانون أنه لا يمكن تصدير عتاد وتجهيزات الدفاع والأمن والأسلحة والذخيرة المصنفة في الفئات الثلاث، إلا من لدن الحاصل على ترخيص التصنيع. كما أن التصدير يخضع لترخيص تسلمه الإدارة.
كما خصص القانون 10.20 حيزا مهما للحديث عن عقوبات المخالفين، وتتراوح هذه العقوبات من السجن ثلاثة أشهر إلى عشرين سنة مع فرض غرامات مالية قد تصل إلى 5 ملايين درهم.
-إبرام اتفاقيات شراكة في مجال التصنيع العسكري
أبرم المغرب، في السنوات الأخيرة، مجموعة من اتفاقيات الشراكة الأمنية والعسكرية مع مجموعة من الدول الرائدة في مجال التصنيع العسكري في إطار استراتيجية تنويع الشركاء ومصادر التزود بالأسلحة، حيث تسعى الرباط إلى الاستفادة من الخبرة والتقدم التكنولوجي العسكري الذي حققته هذه الدول من أجل توطين الصناعة الدفاعية على المستوى المحلي لتلبية احتياجات الجيش في مجال الأمن والدفاع وتقليص فاتورة الاستيراد . وفي هذا السياق وقع المغرب مجموعة من الاتفاقيات العسكرية ومذكرات التفاهم التي تضمن له توطين الصناعات الحربية على المستوى المحلي؛ على غرار الاتفاقية التي وقّعها مع إسرائيل بخصوص تصنيع الطائرات المسيرة الانتحارية ونقل التكنولوجيا والخبرات المتعلقة بها إلى المغرب. فخلق صناعة حربية محلية ينطوي على مجموعة من الأهداف الاستراتيجية. فبالاضافة إلى تعزيز القوة الإقليمية للمملكة، وتحقيق الاستقلالية الاستراتيجية والحد من التبعة المطلقة للخارج على المستوى الدفاعي لتفادي ما وقع للجزائر التي وجدت مشكلا كبيرا في التزود بقطع الغيار والأسلحة إبان توجه مزودها الأول، روسيا، إلى تقليص تصدير السلاح مع بداية حربها في أوكرانيا.
وكما عمد المغرب في تبني سياسة تسلح موسعة تقوم على تنويع مزويديه بالأسلحة (الولايات المتحدة وفرنسا والصين وتركيا …) يحاول المغرب في توطين صناعة حربية محلية إلى تنويع شركائه العسكريين وعدم التعويل على جهة واحدة في سبيل إنشاء صناعة عسكرية مستقلة في المستقبل. وبالنسبة للشركاء المحتملين للرباط في المجال، ففي إطار تنويع الشركاء الأجانب ، فالمغرب منفتح على عدة دول، أبرزها الولايات المتحدة الأمريكية لأنه تربطه معها شراكة عسكرية تمتد من 2020 إلى 2030 وتتضمن بعض البنود التي تنص على المساهمة في الاستثمار وتصنيع الدرونات. كما أن هناك شركاء آخرين محتملين، من المتوقع أن يفتح لهم المغرب أبوابه للاستثمار في الصناعة الدفاعية، مثل ألمانيا بلجيكا وإسبانيا ودول أمريكا اللاتينية مثل البرازيل وغيرها. فبعد كل من أمريكا واسرائيل و تركيا والهند توجهت بوصلة القوات المسلحة المغربية صوب البرازيل، إذ تمت المصادقة على اتفاقية تعود إلى عام 2019 في شأن التعاون العسكري بين الرباط وبرازيليا، لتصنيع خمسة أسلحة برازيلية داخل المغرب، ما يتيح تشييد صناعة دفاعية محلية تعزز قدرات الجيش المغربي.(29) وقد كشف مؤشر “Global Firepower” وهو منصة أمريكية متخصصة في رصد القوى العسكرية في العالم، في تقرير له، أن تطور الصناعة العسكرية في المغرب هو أكثر من مجرد حقيقة، حيث يتمركز المغرب ضمن الدول العشر التي تتمتع بأفضل القدرات التسليحية في إفريقيا، وقد أصبحت الأمة المغربية واحدة من القوى الأكثر تطويرا لقدراتها العسكرية.فبدعم من الولايات المتحدة وبالتعاون مع قوى عسكرية أخرى مثل إسرائيل، بدأ المغرب الاستعدادات لإنشاء مجمعات صناعية جديدة مخصصة لتصنيع الدبابات القتالية والمعدات العسكرية بهدف تحقيق الاستقلال التام في هذا المجال، وكل ما يخص الأمن القومي.وفي تقرير تحت عنوان “المغرب يخطو بثبات نحو تحقيق الاستقلالية في مجال الصناعات العسكرية”، قال الكاتب الإسباني، إنريك فرنانديز، في مقال تحليلي على مجلة “أتالايار” إن التحول إلى مركز صناعي وتصدير الأسلحة إلى الخارج يتطلب ميزانية ضخمة. وبالتالي فلهذا السبب، رفع المغرب ميزانيته الدفاعية لسنة 2024 إلى 124 مليار درهم (12.2 مليار دولار)، مع مشروع قانون لتخصيص الأموال لشراء وإصلاح الأسلحة، ودعم وتطوير القوات المسلحة للمملكة، وصناعة الدفاع مع نمو قياسي جديد، وهو ما اعتبره بمثابة “اتفاق عسكري ومحاولة لكسب الثقة والاستقلال الوطنيين” (30).
-إحداث مناطق للصناعة الدفاعية
صادق المجلس الوزاري برئاسة الملك كقائد أعلى للقوات المسلحة على أربعة مشاريع مراسيم تهم المجال العسكري من بينها مشروع مرسوم يتعلق بإحداث منطقتين للتسريع الصناعي للدفاع.(31) الشيء الذي يعكس انتقال المملكة للسرعة القصوى في مشاريع الصناعة الدفاعية، وبالتالي فتح أبوابه للشركاء للاستثمار في القطاع.فهذه المصادقة تأتي في إطار مشروع المغرب لخلق صناعة عسكرية، وذلك بعد المصادقة على ترسانة قانونية تركز بالأساس على الاستثمارات العسكرية وفتح المجال للقطاع الخاص سواء المحلي أو الأجنبي للاستثمار في هذه الصناعات. ويهدف هذا المرسوم المتعلق باستحداث منطقتين للصناعات العسكرية (32)توفير حاضنة صناعيّة لإنتاج معدّات دفاع وأمن وأنظمة أسلحة وذخيرة. وذلك على غرار خلق المملكة لمناطق صناعيّة على الصعيد المدنيّ. فإنشاء هاتين المنطقتيْن الصناعيّتين كان ضروريّا لتسهيل مهمّة المستثمرين الأجانب والمحليّين، حيث يشير إلى أنّ ما اتّخذه المغرب من خطوات “أوجد الإطار الذي سيسهّل على المستثمرين خلق هذه الصناعات، خاصة بمنطقتي بن سليمان والنواصر” المتواجدتين بضواحي العاصمة الاقتصادية الدار البيضاء. ويهدف هذا المرسوم، الذي وقعه بالعطف كل من رياض مزور، وزير الصناعة والتجارة، ونادية فتاح، وزيرة الاقتصاد والمالية، إلى “إحداث منطقتين للتسريع الصناعي للدفاع على قطعتين أرضيتين مملوكتين لوكالة المساكن والتجهيزات العسكرية”. كما حصر المرسوم الأنشطة التي ستقام في منطقتي التسريع الصناعي للدفاع المذكورتين في: صناعة التجهيزات وعتاد الدفاع والأمن؛ وصناعة أنظمة الأسلحة، وصناعة الذخيرة، والأنشطة الصناعية الدفاعية الأخرى، والخدمات المرتبطة بهذه الأنشطة . في حين نص المرسوم على الترخيص للمستثمرين في مجال الصناعات الدفاعية بمناطق التسريع الصناعي وفق أحكام القانون رقم 10-20 والمرسوم رقم 405-21-2 المشار إليها أعلاه.
وبالتالي ، فسن المملكة لترسانة قانونية تتعلق بالتصنيع العسكري، سواء عن طريق المراسيم التي تم المصادقة عليها أو من خلال إبرام العديد من الاتفاقيات مع مختلف الأطراف كأمريكا وإسرائيل وغيرها، قد هيأ الأرضية الملائمة للتصنيع الحربي بالمغرب (33)،و فتح المجال من أجل الاستثمار في هذا القطاع سواء من قبل القطاع الخاص أو العام، من خلال تعبئة التمويلات التي ستسمح في تنفيذ هذه الصناعة الوطنية التي تحتاج لتمويلات كبرى، كما أن هذا الاستثمار المزدوج سيسمح بتحقيق الهدف المنشود. بالإضافة إلى أن المملكة تعد اليوم منصة لاستقطاب مجموعة من الشركات، خاصة تلك التي تعمل على تصنيع قطع الطيران المدني، حيث أضحى قطب النواصر أحد الأقطاب الصناعية في هذا المجال، مما سمح للشركات الأجنبية وخاصة الأمريكية والأوروبية بأن تتواجد داخل هذا القطب، وتعمل على تصنيع أجزاء تدخل في صناعة الطائرات. كما أن الأرضية الصناعية للمغرب في مجال صناعة السيارات ستسهل الانتقال إلى صناعات المركبات العسكرية، وخاصة ما يتعلق بصناعة الطائرات الحربية. إذ على الرغم من المغرب لم ينتقل بعد لمرحلة التصنيع الفعلي لصناعة هذا النوع من الطائرات بدون طيار فقد حقق خطوات تجريبية كبيرة في هذا المجال، حيث من المنتظر خلال السنوات المقبلة أن يشرع بصناعة هذه الطائرات، الممكن تصديرها لمختلف الدول الإفريقية. ولعل ما يعزز هذه الخطوة هو التعاون المثمر بين المغرب وشركة “بلوبيرد آيرو سيستمز الإسرائيلية”، التي ستُنشئ قريباً وحدة إنتاجٍ جديدة في المغرب. وبحسب صحيفة “لوموند”، ستتركز عمليات التصنيع في المغرب على طائرتي “ثاندر بي” و”واندر بي” المُصممتين لأداء مهام الاستطلاع والاستخبارات والكشف عن الأهداف بدقةٍ عالية. وإلى جانب هاتين الطائرتين، تشير مصادر الصحيفة إلى إمكانية تصنيع طائرة “سباي أكس” التي تُصنّف ضمن فئة الطائرات الهجومية الانتحارية، مما يُعزّز قدرات المغرب الدفاعية بشكلٍ ملحوظ.
تعليقات الزوار ( 0 )