في عالم الجريمةِ السياسيةِ، لا يترك مرتكبوها أي أثرٍ يدل عليهم، أولا بسبب احترافيتهم، و ثانيا الدِّقة التي ينفدون بها العملية، ما يُصَعِّبُ من مهمة المحققين، مهما كانت كفاءة هؤلاء، و في نهاية المطاف يتم حفظ القضية و تسجيلها ضد مجهولٍ، لتنطلق جملةٌ من الفرضيات حول الجهة الفاعلة، و الأمثلةُ عديدةٌ في هذا الباب.
عندما يتم تسميم معارضٍ أو زعيمٍ بمادة سُمِيَّةٍ مجهولةٍ، و يتم نقله إلى دولةٍ أخرى بقصد العلاج، فإن تشخيص حالته يتطلب وقتًا طويلًا، عبر سلسلة من إجراءاتِ التّحاليلِ المِخبرية للوقوف على طبيعة السم الذي تناوله، و قد تلجأ الدولةُ المُعَالِجةُ إلى طلب الترياق المضاد لهذا السم، من الدولة الفاعلة للعلاج، كما حصل مع قيادي حماس خالد مشعل الذي تعرض للتسمم على يد جهاز الموساد الإسرائيلي في تسعينيات القرن الماضي، ما دفع الأردن إلى إرغام إسرائيل على إرسال الترياق لعلاج خالد مشعل.
مناسبة هذا الحديث، هو واقعة التسميم المزعومة التي تعرض لها المعارض الليبرالي الروسي اليكسي نافالني، التي ادعت المانيا أنه تعرض للتسميم بمادة ” نوفيتشوك ” بعد أيامٍ قليلةٍ من وصوله إليها، رغم أن تركيبة هذه السموم تكون جد مُعَقَّدَةٍ و يَصْعُبُ تفكيك مُكَوناتها، ليبقى التساؤل مطروحًا، كيف عرفت ألمانيا بهذه السرعة أن نافالني تعرض لمحاولة اغتيال بالسم بمادة “نوفيتشوك” على يد جهاز المخابرات الروسية بأمر من الرئيس بوتين شخصيا؟
حسب مزاعم نافالني، أنه انتحل صفة مساعد رئيس مجلس الأمن القومي الروسي، و اتصل بأحد أعضاء فريق الاستخبارات المكلف باغتياله، و أفصح له هذا الأخير عن الطريقة التي دس بها السم، السؤال الذي يطرح نفسه، كيف عرف نافالني أنه هذا الشخص من الفريق المكلف بعملية الاغتيال؟ و كيف توصل إلى رقمه؟ و هل مثل هاته العمليات يتحدث عنها في الهاتف.؟
إذن يتضح أن قضية التسميم المزعومة، ليست سوى مسرحيةٍ رديئةِ السيناريو و الإخراج قام ببطولتها ممثلٌ هاوٍ، و لا أدَّل على ذلك، الهالة الإعلامية التي أُحيطَ بها نافالني، و هو في طريق العودة عبر الطائرة إلى موسكو قادمًا من ألمانيا، و أن استغلال القضية الهدف منها فقط، شيطنة روسيا و إظهارها بمظهر الدّولة المستبدّة، التي تضطهد معارضيها. و بالتالي توقيع أقصى ما يمكن من عقوبات في حقها، لاحتوائها، و كبح اندفاعها نحو تعزيز وجودها على الساحة الدولية. من خلال التأثير في مسار الأحداث الدولية.
نسيَّ الغرب ، كيف ان روسيا قامت باسترداد شبه جزيرة القرم من أوكرانيا عام 2014، و لم يكن أمامه سوى رفع عقيرته بالتنديد، حتى حزمة العقوبات التي طبقوها لم تثن القيادة الروسية على مواصلة إجراءات الضم.
ما لا يفهمه الغرب، أن بنية النظام الدولي الحالي بكل حمولته الفكرية و السياسية التي سادت بعد نهاية الحرب الباردة في طريقها نحو الزوال، و العالم مقبل على تحولات جذرية، تعكسها طموحات دول أخرى تتطلع إلى لعب أدوار مؤثرة في الفعل الدولي.
ختامًا، لو كانت روسيا تريد اغتيال اليكسي نافالني حقا، لاختارت له وسيلة أخرى غير التسميم، و لن تسمح له بإسعافه في المطار، و المغادرة إلى المانيا لتلقي العلاج. لكي لا يفتضح أمرها، لأنه من السذاجة الاعتقاد ان جهازا بحجم الاستخبارات الروسية سيقدم كل مرة على اغتيال شخص بذات الوسيلة، و هذا لا يلجأ إليه حتى جهاز مخابراتٍ مبتدئٍ، و هذا ما يجعل واقعة تسميم نافالني أمرا مشكوكًا في صحته.
تعليقات الزوار ( 0 )