Share
  • Link copied

ترامب وتشويه الديموقراطية الأمريكية

انفض سامر الانتخابات الأمريكية وحدث ما كان يخشاه البعض من عدم قبول الرئيس ترامب بالنتائج التى أفرزتها صناديق الاقتراع فهل كان هذا الأمر مفاجئا ؟ وهل فترة الأربعة سنوات التي قضاها بالبيت الابيض أعطت إيحاء إيجابيا بأن سلوكه فى حالة خسارة الانتخابات سيكون مطابقا لما جرى به العرف فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية منذ أول إنتخابات رئاسية فى هذا البلد الديمقراطي؟

ترامب والتمهيد لعدم الاعتراف بالخسارة:

أبانت تصريحات الرئيس دونالد ترامب قبل إجراء الانتخابات بفترة طويلة عن نيته المبيتة بعدم قبول النتيجة إن أتت فى غير صالحه وهذا كان الشعور الغالب فى ظني بداخل الرجل (خسارته) ليدخل بذلك تاريخ الولايات المتحدة كأول رئيس أظهر الديمقراطية الأمريكية بهذا المنظر البائس . فلقد كان من المثير مثلا أن ينتقد الرئيس التصويت عبر البريد وهو شخصيا يصوت عبره منذ مدة طويلة!

كان الرجل أيضا يعلم تماما أن أنصار الحزب الديمقراطي يفضلون التصويت عبر البريد من خلال الاحصاءات التى أجريت لسنوات سابقة وكذلك أسهمت جائحة كورونا فى إعطاء مؤشرات واضحة على أن الديموقراطين سيقبلون على التصويت عبر البريد بشكل أكبر، وأعلنوا ذلك صراحة فيما بعد لموقفهم المعارض للرئيس فى عدم أخذه بمحمل الجد مخاطر هذه الجائحة، وهو الأمر الذي جعل الرئيس يدعو أنصاره الى التصويت من داخل مراكز الاقتراع. وبالتالي و بلا شك يعلم الرئيس أن النتائج ستكون عند نهاية اليوم الانتخابي متفاوتة بشكل كبير بين الحزبين وتميل في الأغلب الى الحزب الجمهوري وعندها يعلن الرئيس أنه فاز بولاية ثانية دون انتظار احتساب أصوات البريد التى أدلى بها غالبية الديموقراطيين، وهذا السيناريو غير المتماسك نظريا وعمليا هو ما تبناه ترامب بالتفصيل بعد أن أبانت نتيجة الانتخابات فوز المرشح جون بايدن بعد بدء احتساب الأصوات المدلى بها عبر البريد وهو العرف المتبع من الديموقراطيين كما أسلفنا.

الحديث عن تزوير فى الانتخابات الأخيرة أبان عن مدى فشل إدارة حملة ترامب فى ذكر الحقائق كماهي. فمن غير المعقول والمنطقي أن تتم عمليات التزوير فى خمسين ولاية أمريكية ، أضف لذلك أن مصطلح تزوير الانتخابات كمصطلح لم تعتده الحياة السياسية الأمريكية من قبل حيث كان كل المتنافسين الخاسرين يتقبلون النتيجة بصدر رحب ودون التشكيك فى النزاهة التى تتحلى بها العملية الانتخابية أو حتى التشكيك فى نزاهة المؤسسات التى تشرف على هذه العملية. وفي الانتخابات السابقة لعام 2016 التي فاز بها ترامب بفضل أصوات المجمع الانتخابي، حصلت هيلاري كلنتون على عدد الأصوات الشعبية يفوق بكثير ما حصل عليها ترامب، لكنها لم تشكك في النتيجة، و لم تطالب حينها هذه الأخيرة بإعادة فرز الاصوات أو إثارة الشكوك فى النظام الانتخابي برمته كما يفعل ترامب الآن بالرغم من الحديث داخليا وخارجيا حينئذ حول تدخل روسيا وتأثيرها على نتيجة الانتخابات لصالح ترامب !! وبالتالي السؤال المطروح فى هذا الصدد هل هذا السلوك المتبع من ترامب فى تشكيكه حول نتيجة الانتخابات أمرا مفاجئا كما أسلفت أعلاه؟

سلوك ترامب داخليا وخارجيا كسبب رئيسي للخسارة

أربعة سنوات من تواجد دونالد ترامب بالبيت الابيض أسالت المداد داخل وخارج الولايات المتحدة الأمريكية، فعلى المستوى الدولى أدى خلط الأوراق والسياسات شبه الثابتة فى إطار العلاقات الدولية والمتفق عليها ضمنا بين الحزبين الجمهوري والديموقراطي لعقود طويلة إلى إحداث إرباك وتأثير على صورة وموقع الولايات المتحدة كدولة قائدة فى المجتمع الدولي، حيث كان الانسحاب من الاتفاقيات الدولية التى أبرمتها الولايات المتحدة كطرف رئيسي ومؤسس لها مثار استغراب من دول حليفة، أضف لذلك أن الخطاب السياسي الذي اتبعه ترامب مع دول صديقة وتكرر مرارا افتقد الحكمة واللباقة، وأظهر سيد البيت الابيض وكأنه ( بلطجي) عندما يطالب دول صديقة وتربطها علاقات إستراتيجية معها بالدفع مقابل الحماية الأمريكية (اتاوات) ، وهذا الخطاب بالذات أعطى صورة عن مدى عدم اكتراث الرئيس بالقيم أو المبادئ التى تقوم عليها السياسية الخارجية الأمريكية منذ عام 1787.

هذا السلوك أثر على صورة الولايات المتحدة لدى الرأي العام الدولي وهو ما انعكس بشكل سلبي داخليا من خلال المواجهات السياسية التى تبناها الحزب الديمقراطي ضد سياسات الرئيس الخارجية. ولم تقتصر السلوكيات غير المألوفة من أعلى موظف فى الدولة على الشق الخارجي بل كان سلوك الرئيس ترامب داخليا ولمدة أربعة سنوات كفيل بإحداث شرخ عميق داخل المجتمع الأمريكي، بل شمل هذا الشرخ حتى الطبقة السياسية التى من المفترض أنها تعمل وفقا لآليات تفرض التوازن بين السلطات الثلاث داخل النظام السياسي الأمريكي حيث عمد الرئيس الى إتباع بعض السياسات المثيرة للجدل ودخل فى مساجلات مع الكونغرس ومع زعيمة الديموقراطيين بمجلس النواب “نانسي بلوسي” وصلت الى حد الابتذال ولعل مشهد رفض ترامب لمصافحة السيدة “بلوسي” فى آخر خطاب للرئيس حول حالة الاتحاد أبان عن هذا السلوك الذي لا يعطي لمؤسسة الرئاسة مكانتها السامقة فى النسيج المجتمعي الأمريكي، كما أثار هذا السلوك سخط الكثيرين لأنه يجافي القيم الأمريكية الديمقراطية التى تفرض الاحترام المتبادل حتى فى أعلى درجات الاختلاف.

أضف إلى ذلك تعليق ترامب على تعديل الدستور الصيني فيما يخص ولاية الرئيس لمدى الحياة، واعتبار ذلك أمرا جيدا، وأن أمنيته أن يتم إلغاء تحديد فترات الرئاسة الأمريكية، وقد أبانت هذه التصريحات عن سلوك لا يكترث للدستور الأمريكي الذي نظم آليات انتقال السلطة منذ القرن الثامن عشر !!!

وهذا ما عمق من الجدل حول أهلية الرئيس للاستمرار فى البيت الأبيض وكذلك كانت هذه التصريحات خصما عليه، وأثارت حنق الكثيرين داخل الولايات المتحدة ، أضف إلى ذلك خطابه إبان جائحة كورونا لحكام الولايات فيما يخص التعامل مع الجائحة وطلبه فتح الاقتصاد فى ذروة انتشار الفايروس وهو ما حدى ببعض الولايات إلى عدم تلبية دعوة الرئيس ولعل رد حاكم ولاية نيويورك وقوله بأننا لسنا فى ظل ملكية مطلقة حتى يفعل الرئيس ما يريد ودعوته له ”للتأدب”، وغيرها من تصريحات بعض حكام الولايات لبتي أوضحت مدى الاختلاف بين سياسات الرئيس وعدة ولايات مهمة وهو الأمر تم تداوله إعلاميا وغطته وسائل التواصل الاجتماعي بشي من التندر والسخرية.

الدستور الأمريكي يعطي المتنافسين الحق فى طلب إعادة الفرز إذا كانت الأعداد متقاربة، وظن أحد الطرفين أن هنالك هامش خطأ يمكن أن يؤثر على نتيجة الانتخابات ، ولعل هذا الحق المكفول إجرائيا تمسك به ترامب فى أكثر من ولاية، وكانت نتيجة ذلك أن أصيب بخيبة أمل أكبر مرة أخرى حيث أتت النتائج لصالح جو بايدن. وبالرغم من ذلك لم يكتف الرئيس المنتهية ولايته بهذا الأمر بل واصل التشكيك بشكل جعل العالم كله يتهكم عليه شخصيا ، كما أنه وضع الدولة فى عداد الدول”العالمثالثية “التي يكون الادعاء فيها بالتزوير فى الانتخابات أمرا طبيعيا حيث تحول هذا الأمر فى هذه الدول الى ثقافة سياسية مجتمعية ، وهو ما جعل الانتخابات مجرد إجراءات شكلية ومعلومة النتائج سلفا. وبالتالي لماذا يصوت المواطن فيها ؟ هذا التوصيف لا يمكن قبوله فى الولايات المتحدة لأنه ببساطة يجافي الحقيقة المتمثلة فى نزاهة وحياد العملية الانتخابية فى هذا البلد الديموقراطي منذ أمد بعيد !

فى تصورى الخاص إن سلوك ترامب المصر على رفض نتيجة الانتخابات بالرغم من إعادة الفرز التى طلبها وبالرغم من رفض المحاكم الولائية والمحكمة العليا للدعاوى التى شككت فى نزاهة العملية الانتخابية راجع بالاساس الى طبيعة شخصية الرجل التى علمها العالم كله طوال الأربعة سنوات التى قضاها بالبيت الابيض، وسيغادر وهو متمسك بموقفه الذي اتضح بأنه كان مبنيا على ما ذكرته فى البداية عن اعتراضه لاحتساب أصوات البريد التى يعلم تماما أنها مفضلة لأنصار الحزب الديموقراطي ودعوته لإعلان النتيجة نهاية يوم الاقتراع وعدم الاكتراث بالاصوات المدلى بها عبر البريد، وفى هذا السلوك انطبق عليه المثل القائل ” كذب الكذبة وصدقها” لذلك منطقيا سيواصل رفضه للنتيجة التى مهد لرفضها قبل إجراء الانتخابات !!!

لاشك أن فترة الرئيس المنتهية ولايته ستدخل”متحف” التاريخ السياسي الأمريكي بكل تفاصيلها الداخلية والخارجية ولكن سيذكر التاريخ أن القضاء فى هذا البلد ألجم جماح هذا الرئيس فى العديد من القرارات إبان فترة ولايته وأوضح تماما أن واضعي الدستور الأمريكي عندما تبنوا مبدأ الفصل بين السلطات كانوا يخافون يوما يأتي فيه رئيس يحاول أن يدمج جميع السلطات تحت إمرته، لذلك فرض هذا النظام التوازن بين سلطاته الثلاث التنفيذية والتشريعية والقضائية.

  • باحث فى العلوم الدستورية والسياسية، الولايات المتحدة الأمريكية- كاليفورنيا.
Share
  • Link copied
المقال التالي