سعيد ألعنزي تاشفين*
حفريات في سياقات الأزمة
لا يمكن لأي متتبع رصين للواقع المغربي إلا أن يتوصل إلى نتيجة مفادها أننا نعيش ازمة متعددة الأبعاد. ولذلك، فبعد عمليات افتحاص رصين و تتبع هاديء لمجريات الواقع الاقتصادي والسوسيو – سياسي والثقافي، يتبين أننا جميعا نتخبط في زخم من المتناقضات التي تقف دون إمكانية تحقيق تحول مرن نحو دولة العدل والإنصاف ومجتمع الوعي الإيجابي والتحضر.
وإذا تعددت المعيقات، الذاتية منها والموضوعية، في تحقيق الظروف الإيجابية للحسم مع مرحلة “الستاتيكو” في كل شيء، والتي تطبع واقعنا العا ، فإن عدم الاعتراف بالأخطاء من لدن كل الأطراف يشكل السبب الأول في تعميق المعيقات و توطيد هشاشة الوضع . وتفاديا لمنطق المؤامرة في تحميل طرف دون غيره ، كل المسؤولية في حدوث الأزمة على حساب تبرئة باقي الأطراف، نؤكد أن التحليل مطالب بتحري مقاربة نسقية تسائل كل المتدخلين ، كل من موقعه، و إن اختلفت درجات التأثير و مستويات الوقع .
أزمة دولة: و تتجلى هذه الأزمة في قوة الإبداع النظري لدرجة وجود فائض في المفاهيم لدرجة أضحت الدولة “ماكينة ” متخصصة في إنتاج كل العبارات المؤتثة للسوق الرمزية، سياسيا بالخصوص. ومن العبارات التي ولدت في سياقات مختلفة نجد (المفهوم الجديد للسلطة / المجتمع الحداثي الديموقراطي / الإنصاف والمصالحة / هيكلة الحقل الديني / اللاتركيز / اللامركزية / تقسيم الثروة / المبادرة الوطنية للتنمية البشرية / الزلزال السياسي / المخطط الاخضر .. الخ، وكل هذه العناوين ، وغيرها يفيد زخما من التحولات المنشودة من لدن صناع القرار ( الدولة في كل مستوياتها).
إلى هنا فالأمر مفيد جدا، يبقى السؤال هو ما الذي يحول دون تمكن الدولة من تنزيل الشعارات التي تسوق لها لأهميتها وصخبها و تيمزها خلفية وأهدافا؟
يمكن أن نزعم إن ما تحقق على مستوى المثن النظري يثير أكثر من سؤال في حدود دواعي عدم النجاح في التنزيل. والمثير للتنبيه يبقى هو عندما نجد اللغة المعتمدة مثقلة بمفاهيم عميقة تسائل الثروة و السياسة والأحزاب وكل القطاعات، دون ان يتحقق النجاح في تنزيلها و توطيد عراها.
فما الذي يمنع إمكانية نفاد كل تلك التعابير العميقة لإصلاح المجتمع والدولة معا، إذن !؟
إن البحث عن الجواب يسترعي لزوما استحضار المعيقات الموضوعية التي لا تخلو من التجاذبات الخارجية في زمن أضحت العوامل الخارجية ذات وقع دقيق في صناعة النتائج . والأساس هو أننا ننتج بقوة نظريا ونهدر الطاقة بسخاء، ثم تأتي النتائج محتشمة لأسباب تستحق التحليل و تفكيك الغموض الذي يلف النوازل والوقائع وبما يسائل دواعي الإخفاق.
أزمة مجتمع: إن التحليل الموضوعي ملزم باعتماد مقاربة أفقية لا تحمل الفهم العمودي كل المسؤولية على حساب الوقع الأفقي. بمعنى، إن تحميل الدولة المسؤولية لا يسمح بإعفاء المجتمع نصيبه مما يقع على أساس أن المجتمع هو من يغذي الدولة بكل المسؤولين، وإن كانت الدولة مطالبة بالصرامة في الوقوف للفساد بكل قوة ممكنة. والمجتمع من داخل التحليل السوسيولوجي/ السياسي يتجلى ويتمثل نفسه عبر عدة قنوات منها الأسرة والشارع والمسجد والإعلام، والمجتمع المدني عموما.
إن مسؤولية المجتمع، بناء عليه، ثابتة لا محالة؛ من حيث أولا ضعف المناعة التي تعجز عن مقاومة الفساد، وثانيا على مستوى تماهي المجتمع مع تجليات الخلل الملازم للتجربة الرسمية والشعبية. فالأسرة خلال العقود الأخيرة عرفت تحولات عميقة تمثلت في الانتقال من الأسرة الممتدة ( ليست بالضرورة تقليدية) إلى الأسرة النووية (ليست بالضرورة عصرية)؛ وهذا التحول جاء نتيجة للتحولات الحاصلة على مستوى نمط الإنتاج. بمعنى أن التحولات التي رافقت البنيات السوسيو – مهنية عمقت الانتقال من الأرياف نحو “المدن” من جهة، ومن جهة اخرى، شهدت الأرياف تحولات دقيقة عمقت توسع دائرة الأسر النووية وما رافقها من تعبيد الطريق أمام الفردانية وثقافة الاستهلاك. ومن نتائج كل ذلك، تراجع نسق القيم من الفهم الجماعي إلى هيمنة الفهم الفرداني المهدر لتماسك الجماعي. فالقبيلة لم تعد تربي، بالأحرى أضحى الأبناء محتكرين من لدن الأسرة النووية وفق فكرة الاستثمار الاقتصادي. وإذا استحضرنا استقالة هذه الأسر تحت وقع ظروف العمل (التوقيت المستمر / الضغط الأجري / مشاكل القروض .. ) ، وشكل السكن (شقق مثل علب السردين توجه المخيال نحو الفردانية وتحديد النسل مع ما يترتب عنه من سلوكات جديدة) فإن الأسرة أضحت أداة الرأسمالية في تخريب نسق القيم الجماعية الموسومة قصدا بـ”التقليدية ” لصالح القيم “العصرية ” التي تنبني على الاستهلاك والنزعة الفردانية والتباهي الاجتماعي.
إن الأسرة إذن بدل أن تقاوم مظاهر الاستلاب التي يعمقها فكر الرأسمالية المخربة تماسك البنيات، نجدها تتماهى مع التحولات لصالح استئصال جينات الممانعة لصالح الخواء الهوياتي والعبث القيمي والإفلاس الحضاري. ولذلك أمكن الاعتراف بأن النخبة التي ولدت من رحم القهر في رحاب جغرافيات الأرياف هي التي تشكل مدخلا للاستلاب، خاصة الطبقة الوسطى التي بدل ان تكون أداة لتحضير الأرياف وإيقاف تأثير الترييف، من اسف ؛ أضحت وسيلة لتعميق استلاب الأرياف وتكريس المسح الهوياتي لصالح فكر “المدينة” بالمحدد الرأسمالي المعادي للأصالة و للهوية العميقة، حتى أن كل التحولات ظلت شكلانية منحرفة.
وإذا كان حال الأسرة هو ذلك الشكل ، فإن حال باقي مؤسسات المجتمع المدني لا تقل سلبية. فالمجتمع المدني بدل أن يكون رافعة للتحديث، أصبح وسيلة لتعميق الفهم التقليداني بما يشكل تحديثا للقبيلة. فالجمعيات أضحت على شكيلة الجماعات السلالية، فنجد الجمعية هيكل لا يستند إلى التأويل العصري العقلاني للمشترك، بل يعتمد على آليات التأويل التقليدي للسلطة الرمزية، حتى إننا أمام طبقة من الجمعويين المتسلطين بحنين لا شعوري للاستبداد. ويبدو إن المجتمع المدني بدل ان يشكل سلطة مستقلة تيسر عمليات التحديث، نجده يعمق الفهم الرجعي التقليداني للسلطة (جمعيات أعضاؤها من الأسرة نفسها أو من نفس القبيلة أو من نفس المجال الترابي/ جمعيات الحومة أو المدشر / جمعية الأشخاص ينتمون للحزب ذاته / جمعيات مسجلة باسم الشخص مدى الحياة / جمعيات مهمتها اقتناص المنح … ).
إن الجمعية شكلا أداة للفعل الحداثي ، ولكنها في العمق مثل القبيلة ؛ تعمق منطق التقليدانية ، والأمر يسري على النقابة وعلى الحزب (نجد سلالة ايت فلان تنتمي الى حزب كذا / نجد الابن يحتضن من قبل الحزب الذي ينتمي إليه الأب / نجد القبيلة كلها، أو المدشر كله، أو الحومة كلها .. تغير الانتماء لمجرد أن فلانا غير معطفه الحزبي !! و استنتج اذن أن الأسرة و الجمعية والحزب، بدل أن يكونوا آليات لاجتثات الفكر التقليدي نجد العكس هو الصحيح، فيبدو لك الفاعل حداثيا شكلا ، و لكنه في العمق رجعي و تقليداني مضمونا و بالملموس .
هذه العناصر إذن تروم فقط تبيان حجم الأزمة التي تحاصرنا عبر مداخل متعددة . إن المسؤولية إذن متفرعة ؛ الدولة والحكومة والنقابات والأحزاب والجمعيات والنخب والأسرة والمواطن .. والأنكى إننا نهدر كثيرا من الجهد لنحصد نتائج محتشمة، بل ومعمقة للأزمة بما ندري و بما لا ندري. وبذلك ينبغي أن نتجاوز التحليل الأحادي نحو التحليل المركب وبمقاربة نسقية منصفة وشاملة.
مقال رائع جدا، للأستاذ الباحث سعيد العنزي تاشفين. شكرا لكم