شكل خطاب جلالة الملك نصره الله، بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الثانية، من الولاية التشريعية الحادية عشرة، أكتوبر 2022، دعوة لجميع الفاعلين، للاهتمام بقضية تدبير الماء. حيث تمر بلادنا بمرحلة جفاف صعبة، هي الأكثر حدة منذ أكثر من ثلاثة عقود، انتقلنا فيها إلى مرحلة الإجهاد المائي، مما يجعل من تدبير الموارد المائية تطرح نفسها بإلحاح، كشأن مشترك، يهم العديد من القطاعات، في إطار التحلي بروح التضامن.
اعتبر جلالة الملك نصره الله، أن ظاهرة الجفاف ببلادنا هي ذات طابع بنيوي، كما قدم جلالته تشخيصا لمشكلة الجفاف ونذرة المياه، مؤكدا أنها لا تقتصر على المغرب فقط، وإنما أصبحت ظاهرة كونية تزداد حدة، بسبب التغيرات المناخية، كما قدم جلالته تشخيصا للحالة الراهنة للموارد المائية، حيث أصبح المغرب يعيش في وضعية إجهاد مائي هيكلي.
انطلاقا من تشخيص جلالة الملك نصره الله،
ـ ظاهرة الجفاف هي ذات طابع بنيوي
ـ يتفاقم الجفاف بسبب التغيرات المناخية
ــ يتواجد المغرب حاليا في وضعية إجهاد مائي بنيوي
رغم المجهودات الكبيرة التي تبذلها الدولة عبر السياسات الاستدراكية، والتدابير الاستباقية للتصدي لظاهرة الجفاف، يشكل تدبير هذه الأزمة تحديا حقيقيا للسلطات، وتحديا مجتمعيا، بالنظر إلى ما قد تحمله الظاهرة من تداعيات مجتمعية، تشمل السلم الاجتماعي. إذ يُتوقع أن يؤثر الجفاف على الأمن الغذائي، وتراجع فرص الشغل، وتنامي ظاهرة الهجرة، وارتفاع الكثافة السكانية في المدن، وظهور نمط المدن الكبرى، وذلك بالنظر إلى توقع نقص الموارد المائية، وطرح مشكلة الغذاء على المستوى العالمي، أمام توقع ارتفاع النمو الديمغرافي في العالم، والذي سيضع المغرب أمام تحدي الهجرة من دول الجنوب إلى المغرب، ومن المغرب إلى أوروبا. كما أن توقع ارتفاع النمو الديمغرافي في المغرب، سيطرح إشكالية الهجرة القروية إلى الحواضر، وأزمة الشغل. مما يجعل من أزمة الجفاف تضع السلطات أمام تحدي تدبير نقص الموارد الغذائية، وأمام تحدي الغلاء، إذ قد تُطرح إشكالية تحقيق الاكتفاء الذاتي من الأمن الغذائي خلال هذه السنة. فحتى خلال السنوات السابقة، لم يكن المغرب يحقق اكتفاءه الذاتي من الأمن الغذائي، حيث كان يتم اللجوء إلى الاستيراد، رغم المجهودات الكبيرة لمخطط المغرب الأخضر.
في هذا الإطار:
جاء في التقرير العام للنموذج التنموي، أن عدد السكان في سن العمل سيصل إلى 35,8 مليون شخص في عام 2050، مقابل 24,6 مليون في 2015(المرصد الوطني للتنمية البشرية 2019). و يُتوقع أن يعرف العالم تزايدا ملحوظا في عدد السكان، بتأثير من بلدان الجنوب، خاصة إفريقيا، مقابل ارتفاع نسبة شيخوخة السكان، بتأثير من بلدان الجنوب، خاصة إفريقيا، مقابل ارتفاع نسبة شيخوخة السكان في البلدان المتقدمة، لا سيما في أوروبا. ومن شأن هذه التطورات أن تعرض المغرب لظاهرتين: تزايد الهجرة من إفريقيا جنوب الصحراء، في سياق تغير المناخ، وضعف تعبئة مؤهلات النمو، وفرص العمل في هذه البلدان، وازدياد هجرة المغاربة إلى البلدان المتقدمة، تحت تأثير الطلب القوي على المهارات، والكفاءات، لتعويض العجز في الساكنة النشيطة في هذه البلدان.
في مجال البيئة، وبحسب التقرير العام للنموذج التنموي، فإن استفحال آثار تغير المناخ ستنجم عنه إكراهات متزايدة على التنوع البيولوجي الوطني، وضغط على الموارد الطبيعية، ولا سيما المياه، التي قد يعاني المغرب من نذرتها بحلول عام 2030. ويمكن أن يؤدي التغير المناخي أيضا إلى زيادة النزوح القسري للسكان من المناطق القروية القاحلة نحو المراكز الحضرية، ولا سيما الساحلية منها.
يدق التراجع الكبير لمعدل الفرد سنويا من المياه في المغرب ناقوس الخطر. إذ يُقدر نصيب الفرد المغربي من الماء حاليا، 600 متر مكعب سنويا، في حين يقدر المعدل العالمي ب 1000 متر مكعب للفرد، وهناك بعض المناطق في المغرب لا يتجاوز فيها نصيب الفرد من الماء 300 متر مكعب. في حين أنه في الثمانينات إلى منتصف التسعينات، كان هذا المعدل في 2500 متر مكعب سنويا لكل مواطن، وتراجع في الألفية الثالثة، إلى 1000، ليصل في 2012- 2013، إلى 600- 700، حيث ذكر تقرير المندوبية السامية للمياه والغابات، أن المغرب دخل إلى دائرة الإجهاد المائي. ويُتوقع أن ينحدر هذا المعدل مستقبلا. فبحسب المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، هناك خطر الانتقال إلى وضعية نذرة المياه بحلول سنة 2030، بمعدل 500 متر مكعب.
وما يزيد الوضع سوءا هو الطبيعة البنيوية للجفاف وارتباطها بالجغرافيا والمناخ. في هذا الإطار، يُرجع مجموعة من المتخصصين في علوم الأرض والتغيرات المناخية، إلى جانب علماء الاقتصاد المغاربة، ظاهرة الجفاف إلى الأسباب ذات الطبيعة البنيوية. يمكن تلخيصها في فشل النموذج التنموي القديم، الذي يواجهه المغرب حاليا بمجهودات كبيرة، عبر سياسات استدراكية جديدة، سيما في تدبير الماء، مع الأخذ بعين الاعتبار الاهتمام بالمناخ. يرتبط السبب الأول، باقتصاد المغرب الذي بني على الفلاحة، التي تسنزف 85 % من المياه، ونسبة قليلة تستهلك في الصناعة. كما كان في السابق يتم الاعتماد في سقي المناطق الخضراء العمومية بالماء الصالح للشرب.
كما أنه، بحسب المتخصصين في التغيرات المناخية، تؤثر التغيرات المناخية على تنامي حدة الجفاف في المغرب وارتفاع درجة حرارة الأرض، حيث تعاني البلاد من ظاهرة التصحر، بسبب تواجد المغرب في المرتفع الجوي الآصوري، الذي يغطي مساحة شاسعة من المحيط الأطلسي والسواحل المغربية في هذه المنطقة، و يتحكم في الدورات الجوية. بحسب هؤلاء المتخصصين، عند نزول الشتاء في الصيف، يضعف هذا المرتفع أو يذهب للجنوب لكي يترك السحب الممطرة. وبحكم الاحتباس الحراري، يتبخر جزء من المياه الجوفية، ومياه السدود غير المغطاة، والتي لا تخزن سوى 30% من مياه الأمطار، والباقي يذهب للبحار. كما تستنزف الآبار العشوائية وغير المرخصة نسبة هامة من المياه الجوفية.
لقد تمت مواجهة وضعية الجفاف بمبادرة ملكية سامية منذ شهر فبراير 2022، عبر اتخاذ مجموعة من التدابير الاستباقية في إطار مخطط مكافحة آثار الجفاف، بهدف توفير ماء الشرب، وتقديم المساعدة للفلاحين، والحفاظ على الماشية. كما يولي جلالة الملك نصره الله، كامل الاهتمام لإشكالية الماء في جميع جوانبهان عبر إخراج البرنامج الوطني الأولوي للماء 2020- 2027. كما حرص جلالته منذ توليه العرش، على مواصلة بناء السدود، حيث تم إنجاز أكثر من 50 سدا، منها الكبرى والمتوسطة، إضافة إلى 20 سدا في طور الإنجاز. ويتواصل الورش المستقبلي المتعلق بقضية الماء، عبر الحرص على تسريع إنجاز المشاريع التي يتضمنها برنامج مواصلة بناء السدود في كل جهات، ومناطق المملكة، سيما، استكمال بناء السدود المبرمجة، وشبكات الربط المائي البيئي، ومحطات تحلية مياه البحر، بالإضافة إلى تعزيز التوجه الهادف للاقتصاد في استخدام الماء، لا سيما في مجال الري.
كما أنه خلال السنوات الأخيرة، بدأ الوضع يتغير عبر سياسات استدراكية، تشمل تخفيف اعتماد الاقتصاد المغربي على الفلاحة، وذلك عبر تنويع هذا الاقتصاد، وهو ما جاء في توصيات التقرير العام للنموذج التنموي الجديد، الذي حث على اقتصاد منتج ومتنوع، وأنه يتعين على المغرب الشروع في تفعيل مسلسل تحول نسيجه الاقتصادي، عبر تنويع الاقتصاد للسماح بتطوير أنشطة اقتصادية، ومهارات جديدة، والرفع من تنافسية النسيج الاقتصادي وإنتاجيته، والاندماج الأكبر في الاقتصاد العالمي، بهدف توجيه المقاولات المغربية نحو التصدير.
أيضا، اتخذ المغرب خطوات هامة في مجال تدبير الماء عبر معالجة المياه العادمة، والتي ابتدأت منذ أكثر من عقد، حيث تشكل مدينة مراكش، والرباط نماذج رائدة في إعادة استخدام المياه العادمة وتوظيفها في السقي. كما قام المغرب سنة 2020، ببناء سبع محطات جديدة لمعالجة المياه العادمة.
إلى جانب هذه الإجراءات، اتخذ المغرب مجموعة من التدابير للتصدي للتغيرات المناخية، أهمها:
ـ المخطط الوطني لمكافحة الاحتباس الحراري
ـ المخطط الأخضر
ـ المخطط الوطني للمناخ 2030
ـ إدراج التربية على البيئة في المناهج التعليمية، منها التشجير ، والتوعية والتحسيس بأهمية الغابات.
ـ الاقتصاد الأزرق
ـ الانتقال الطاقي لوضع المغرب على مسار النمو الأخضر
وفي هذا الإطار ، أوصى المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي بضرورة الشروع في تنزيل استراتيجية تأخذ في الاعتبار التحول الطاقي في مجمله فضلا عن الكهرباء والاستعمالات الكلاسيكية لذا يتعين، بحسب المجلس القيام بمجموعة من التدابير، منها:
ـ التحويل التدريجي للتنقل الذي يمثل 40 % من إجمالي الاستهلاك الطاقي الحالي من أجل تثمين اللجوء إلى النقل المشترك المستدام والسيارات الكهربائية.
ـ الاستثمار في تحلية المياه بواسطة الطاقات المتجددة التي تشهد كلفتها انخفاضا من أجل التعاطي مع إشكالية الإجهاد المائي.
رغم كل هذه المجهودات الكبيرة التي تبذلها الدولة في مجال الحفاظ على الموارد المائية وتوفيرها، قد يظل المدخل الأساسي للتصدي لظاهرة الجفاف على المدى البعيد، هو المناخ، عبر:
ــ تطوير البحث العلمي لتدبير ظاهرة التصحر ،والاحتباس الحراري، وخفض نسبة الكاربون في الجو، وتمويل البحث العلمي لطرح حلول مستقبلية حول إمكانية إيجاد حلول بيئية للتعامل مع المرتفع الجوي الآصوري.
ـ تعزيز وتطوير مسار النمو الأخضر والتنمية خفيضة الكاربون في المغرب، عبر تسريع الانتقال الطاقي، وتشكل السيارات الكهربائية المدخل الأساس لهذا الجانب.
ـ تطبيق القانون المتعلق باحترام البيئة.
وتظل بعض الحلول الآنية مرتبطة بـ:
ـ تغيير سلوك المغاربة تجاه الماء عبر إحداث تشريعات.
ـ ترشيد استهلاك الماء، والتكيف مع المعدل الفردي لاستهلاكه، إلى جانب عقلنة بناء السدود وتغطيتها للحفاظ عليها من التبخر، وذلك عبر إحداث تشريعات في هذا الجانب.
ـ تعزيز ومواصلة إحداث محطات معالجة المياه العادمة، واستعمالها في المسابح والسقي وتعميمها على باقي مناطق المغرب.
ـ تشجيع مبادرات تشجير النباتات غير المكلفة للماء، التي تحافظ على رطوبة الجو، مما يحافظ على المياه الجوفية من التبخر، ويخفض نسبة الكاربون في الجو. إلى جانب حملات التوعية والتحسيس بأهمية الحفاظ على الغابات والمساحات الخضراء في الحفاظ على الموارد المائية.
*باحثة في العلوم السياسية من جامعة محمد الخامس أكدال
تعليقات الزوار ( 0 )