Share
  • Link copied

تاريخ العقليات … الباحث خالد طحطح يسلط الضوء على التمثلات الذهنية للمجموعات الاجتماعية

   يفتتح الباحث خالد طحطح كتابه تاريخ العقليات الصادر عن دار توبقال حديثا (2023) بمقدمة يتناول فيها المفهوم وتطوره في حقل البحث التاريخي، ومما ورد فيه: (أصبحت الموضة في ميدان التاريخ دراسة المخيال والتمثلات، وبذلك صعدت الحوليات من الدهليز إلى السطح، حيث وقع التركيز على دراسة الذهنيات -أو باللغة الرائجة آنذاك على العقليات- حيث بدأ الاهتمام بدراسة الممارسات الرمزية للمجموعات الاجتماعية.

وقد سجل المؤرخ أندري بورغيار في هذا السياق ملاحظة مهمة تتعلق بميلاد التاريخ الأنتربولوجي، وهو الحقل الذي اهتمت به البحوث التاريخية حديثا، بفعل تأثير إسهامات كلود ليفي ستراوس الغنية، فهو الذي أدخل إلى فرنسا المفهوم الأنكلوساكسوني لعبارة الأنتربولوجيا بوصفها دراسة للكائنات الإنسانية في كل مظاهرها. غير أن بورغيار أشار إلى أن هذا النوع من التاريخ الأنتربولوجي في شقه المتعلق بالذهنيات نشأ قبل ذلك بمدة طويلة، مع لوغران دوسي المغمور من عصر الأنوار، وأن الحوليات لم تقم سوى بإعادة إحيائه).

وظفت الفلسفة الإنجليزية في فترة القرن السابع عشر مفهوم العقلية للدلالة على التلون الجماعي للحياة النفسية، وركزت على تبيان الأساليب المميزة للتفكير والإحساس لشعب ما، أو لجماعة ما من الناس الخ”.

كما أشارت عبارة mentalité في نهاية القرن 19 وبداية القرن 20 إلى نفسانية “البدائيين” التي برزت للمهتمين بها كظاهرة، لكن ظلت في نفس الوقت لصيقة بأفراد تتكون حياتهم النفسية من ارتدادات وآليات تختزلها عقلية جماعية، ولذلك اقترح ألفونس ديبرون في عام 1960 خلال المؤتمر الدولي للعلوم التاريخية المنعقد في ستوكهولم تأسيس تاريخ للسيكولوجيا الاجتماعية كاختصاص في حقل العلوم الإنسانية، وذلك بإعطائه توسعة قصوى حيث يغطي تاريخ القيم والعقليات والأشكال والرموز والأساطير.

يشمل تاريخ العقليات الميدان بالضرورة المجال العاطفي والمشاعر والعواطف، وقد أبانت دراسة المتخصصين في التاريخ أن لفظة “عقلية” أو “ذهنية” لحقها إهمال كبير في فهارس علم النفس. وإذا كان تاريخ العقليات لم يلعب أي دور في علم النفس، ولم يشغل أي حيز في قاموسها التقني والسيكولوجي، فإنه وعلى العكس تماما لقي ترحابا كبيرا في حقل التاريخ. ذلك أن الاستعمال الجيد للكلمة لم يحصل في علم النفس إلا في وقت متأخر. ومهما يكن، يبقى التاريخ هو المنقذ العلمي للكلمة. كما أن استعمالها في الفرنسية هو الذي أعاد إدخالها إلى الإنجليزية ونقلها إلى الألمانية والإسبانية والإيطالية.

هكذا أمَّنت المدرسة التاريخية الفرنسية الجديدة -وهو أمر استثنائي- نجاح الكلمة والتعبير والنوع، وذلك بفضل المنظرين الرئيسيين الأوائل لتاريخ العقليات، ونخص بالذكر لوسيان فيفر ومارك بلوك وجورج  دوبي روبير موندرو، فمع هذا الأخير سينشأ تعبير التاريخ النفسي التاريخي ويتطور، إذ استطاع بحنكته توظيف اكتشافات فرويد في مجال التحليل النفسي الذي بدأ يأخذ مساحة كبيرة في سياق المناقشات الأكاديمية والفكرية. ثم دشن بعده كتاب الأسطورة والفكر عند اليونانيين أبحاث علم النفس التاريخي في اليونان، وقد أعيد طبعه تسع مرات في ظرف عشرين سنة. لم يكن عمله هذا معزولا، ولكنه استمرار للطريق التي كان قد شقها قبله أستاذه إينياس مايرسون، وقد تكاثرت الأبحاث المخصصة التي اهتمت بالتنظيم الذهني والتغيرات الطارئة على مجمل نشاطات الشعب الإغريقي ووظائفه النفسية: إطاريْ المكان والزمان، والذاكرة، والمخيلة، والشخص، والإرادة، والممارسات الرمزية، واستعمال الإشارات، وطرائق الاستدلال، وطبقات الفكر.

    طبق جان بيار فرنان منظور علم النفس التاريخي على المجال اليوناني، واعتمد تنوع الشواهد والوثائق ووقف عند كل الإنجازات والمآثر التي تركها الإنسان الإغريقي، فمن خلال كل الآثار استطاع ملامسة المضامين الذهنية وأشكال الفكر والإحساس، وطرائق تنظيم الإرادة والأعمال، وبالاختصار الهندسة الفكرية للشخصية اليونانية.

فتح المؤرخ فرنان أبحاث علم النفس التاريخي، ولم يكن لتخفى عليه صعوبات مشروع كبير يتخطى بكثير مجهوداته الفردية، لكنه أراد شق طريق جديد وطرح مشكلات بمنظور مغاير، واستهدفت محاولاته تجنيد فريق عمل كبير من المؤرخين وعلماء الاجتماع وعلماء النفس، والهدف من كل هذا دراسة التحولات النفسية التي سببتها التجربة اليونانية والمنعطف الذي أحدثته في تاريخ الانسان الداخلي.

لا شك أن الأصل المحدد لبداية التاريخ النفسي الفرنسي يعود لمدرسة الحوليات، تحت قيادة مارك بلوخ (1886-1944) ولوسيان فيفر (1878-1956)، وقد تتبع أندريه بورغيار في الموسوعة العالمية المسار الذي قطعه مشروع هذه المدرسة، والذي لم ينطوي الانفتاح على التاريخ الاقتصادي والاجتماعي فيه على البعد النفسي بشكل كبير في البدايات، اللهم إذا استثنينا دراسات فيفر عن مارتن لوثر وفرانسوا رابليه ومارغاريت دونافار. فهذه الدراسات بتعبير خالد طحطح: (من المؤلفات الأولى التي اهتمت بالذهنيات). 

ويستطرد خالد طحطح قائلا: (وكذلك الأمر بالنسبة لمارك بلوخ في دراسته الملوك صناع المعجزات؛ إذ قام بوصف الممارسات الرمزية والتمثلات الذهنية للمجموعات الاجتماعية، من خلال التركيز على الاعتقادات والتصورات الجماعية الواسعة الانتشار في انجلترا وفرنسا خلال حقبة امتدت من القرون الوسطى وإلى غاية القرن الثامن عشر، وقام بتطبيق نفس المنهج في دراسته التي خصصها للمجتمع الإقطاعي، وفيها ركز على أشكال الإحساس والفكر والذاكرة الجماعية، كما اهتم بفهم الزمان عند الناس في القرون الوسطى، فللأبحاث السابقة أهمية في تأسيس البحث في الذهنيات).

عندما دعا مؤسسو الحوليات إلى استخدام علم النفس، فإنهم فتحوا بذلك واجهة للنقاش بين التخصصات. وتعكس ثروة مصطلح “العقليات” أو “الذهنيات” ذلك التنوع الكبير في الأدوات المفاهيمية لبناء الجسور بين الحقول المعرفية، لكن سرعان ما سيتوارى إلى الظل مصطلح التحليل النفسي التاريخي وأصبح مصطلح العقليات الأكثر تداولا، بالرغم من أن تاريخ العقليات يتقاطع مع التاريخ النفسي، إذ لا يمكن فصل المجالين عن بعضهما البعض. بل هناك من جعل منهما مفهومين مترادفين ونخص بالذكر هنا المؤرخ روجيه شارتييه الذي أكد على هذا الأمر.

وفي نص بعنوان “التاريخ وعلم النفس” أظهر فيرنان بوضوح الطريقة الجديدة التي يستخدم بها المؤرخون المعاصرون علم النفس، وأبرزت مساهمة قدمها جاك ريفيل بعنوان “علم النفس التاريخي وتاريخ العقليات” في تحقيق هذا التقارب بين المجالين، وهكذا حفر تاريخ العقليات أخدوده الطويل بين التاريخ الاقتصادي والتاريخ الفكري القائم خارج التاريخ. وفي هذا الصدد يشير خالد طحطح بالقول: (برزت أيضا دراسات جورج دوبي إضافة إلى أبحاث زميله روبير ماندرو، فهذا الأخير، وهو أحد المقرَّبين من فيفر، أوكل إليه تحرير مقال “الذهنية” لفائدة الموسوعة العالمية عام 1968، وذلك في الوقت الذي كان فيه هذا الشَّكل التَّاريخي يعرف اهتماما مُطردا في الحقل التاريخي، ونلمس لديه إيثار البُعد النًّفسي في التَّاريخ من منظور شمولي، على الرَّغم من صرامته وتحفُّظِه الشَّديد إزاء التَّحليل النفسي).

هذا التحفظ من اللفظ سيساهم في انحدار مصطلح “العقليات” أو “الذهنيات” أو “علم النفس التاريخي” مع الجيل الثاني لمدرسة الحوايات وخصوصا بروديل، وقد وضح ريكور الصورة المحورية لشخصية فيرناند بروديل داخل مدرسة الحوليات، وتتجلى السمة الإبستيمولوجية الأبرز في ذلك الربط الذي أقامه هذا الأخير  بين المقياس الاقتصادي والجغرافي والمقياس الماكرو اقتصادي، أي: “الاقتصاد الجمعي المهتم بالوقائع الشاملة الكبرى” من جهة، واختيار الحقبة الطويلة من جهة ثانية.

ثم يقف عند جيل ما بعد بروديل الذي بلور توجها قائم الذات نُعِتَ بـ “تاريخ العقليات”، ووقف عند الأزمة التي أعقبت هذا التوجه الذي سيعود ثانية وبقوة مع التاريخ الجديد. كما شغلت قضية التَّحوُّلات الذِّهنية في الفترة بين العصر الوسيط والحديث المؤرخ جاك لوغوف (الذي يعود إليه الفضل في تحديد مفهوم “تاريخ الذِّهنيات” ونجاحه) بتعبير خالد طحطح، فقد استطاع بواسطته هذا النوع من سَلَّ التاريخ من النزعة الاقتصادوية الضيقة، ونقله إلى فضاء أرحب. وتكمن جاذبِيَّةُ هذا النَّوع (التَّاريخ الذِّهنياتي) في طابعه المُبهم الذي ساعده على الاقتراب من علم الاثنولوجيا وعلم الاجتماع وعلم النَّفس الاجتماعي.

فالرَّوابط بين هذه الحقول غدت ذات أهمِّية استراتيجية. ولا شكَّ أنَّ الطَّابع المبهم لهذا المفهوم الغامض المُرتبط بالذِّهني هو الذي مكّن التَّاريخ من “الحرث” في أراضي العلوم الاجتماعية الأخرى، وهو ما جعله يتمتع بحقوقه الكاملة في المدارس التاريخية العالمية باعتباره من المواضيع الجديدة ضمن التاريخ الجديد، وذلك بالرغم من التشوش الدلالي للكلمة وضبابية معانيها، وهو ما أبرزه مقال جاك لوغوف: “تاريخ العقليات: تاريخ مبهم”.

يقدم خالد طحطح خلاصة موجزة لمسار تاريخ العقليات، فقد عبر بالقول: (أمسك مارك بلوخ ولوسيان فيفر في إطار مشروعهما الاحتوائي في مجال العلوم الانسانية على منطقة أخرى من مناطق المعرفة، تلك التي عُرفت باسم دراسة الذِّهنيات والتي وفدت من الاثنولوجيا وعلمِ النَّفس. إنَّهُ تطعيمٌ جديدٌ سمح بتكوين تاريخ- نفسي واعد وعلم نفس استيعادي يهدف إلى إعادة بناء الأطر الذِّهنية للعصور الماضية، بل إنّ من شأنه تحقيق مشروع بروموتيوس في إعادة إحياء الماضي كما عرَّفها جول ميشليه في القرن التَّاسع عشر، وإحداث قطيعة مع كل مفارقة تاريخية، وهو مجال أيْفَعَ بعد الحرب العالمية الأولى ونما وترعرع خلال مرحلة الستينيات بالخصوص، من خلال انبثاق دراسات متعددة.

لكنه سرعان ما إمّحَى وتوارى نوره وامتحق، إذ تجاوزه الزمن ليحل محله توجُّهٌ جديدٌ ناشيء عنه، ومرتبط به في جوانب كثيرة، دُعي بالانتربولوجيا التاريخية، اتَّكأ على مناهج تنتمي أكثر إلى تيَّار البنيوية الصاعد آنذاك. ومع ذلك فإن الأنتربولوجيا التاريخية التي انتعشت مع رواد الجيل الثالث من الحوليات وتألقت منذئد، لا تزال أبحاثها، تلك التي اعتنت بمجال الذهنيات خصوصا، الأكثر ثراء).

   اشتغل الباحث خالد طحطح في كتابه الجديد على قضايا معينة مرتبطة بتحولات الحياة الدينية والاقتصادية والاجتماعية وتأثيراتها في عقليات الأفراد وفي الذاكرات الجماعية، وقد وقف على أمثلة دالة، وينضاف عمله هذا  إلى أعماله السابقة الصادرة عن دار توبقال ونقصد بذلك ثلاثيته: الكتابة التاريخية وعودة الحدث التاريخي والبيوغرافيا والتاريخ.

Share
  • Link copied
المقال التالي