Share
  • Link copied

بين الطلاسم والفنجان: انتظار على مقام الصبا في زمن العملة الصعبة

إنَّ من يستمع عادةً للأغاني العربية الكلاسيكية من القرن الماضي، تتكون لديه مَلكَة على شاكلة نوتة على مقام الصَّبا، ليست موسيقية بقدر ما هي مادِّية ذات نزعة سيكولوجية أسمّيها “نوتة الصبر”. وأنا أستمع إلى “قارئة الفنجان” التي تناهز الأربعين دقيقة، أجد نفسي منتظرًا مرور المقدمة الطللية، وهو انتظار من نوع مختلف، انتظارٌ مشبع باللهفة أو اللامبالاة. وهنا يظهر تأثير “نوتة الصبر” على مقام الصبا، رغم أن “قارئة الفنجان” تعتمد على مقام الحجاز، إلا أنها تميل نوعًا ما إلى مقام الصبا. وهناك أمثلة عديدة لأغاني دمجت بين المقامين، مثل “مقادير” لأم كلثوم و”أطياف” لفيروز. ولاحظ عزيزي القارئ كيف أن هذه العناوين تتناغم مع بعضها، سَمِّهَا عبثية وجودية، أو سخرية قدرية، أو ربما نشاز موسيقي، أيًّا كان الوصف، فكلّها تصب في ميدان الصبر والانتظار. والسؤال هو: ماذا ننتظر؟ ومن أجل ماذا ننتظر؟

لنعد إلى “قارئة الفنجان”، تلك المهنة التي تتمتع بقدرة غريبة على جذب الناس في لحظات ضبابية من حياتهم، حيث يذهب البعض إليها كما يذهب العطشان إلى بئرٍ قديمة، لا ليرتوي، بل ليشرب سرابًا. وفجأة، نقوم بإسقاط على بلدنا الحبيب، لنجد أنفسنا أمام امرأة أخرى، تلك العجوز التي تعالج بالبخور والطلاسم. لا فرق بينهما، سوى أن واحدة تقرأ الفنجان والأخرى تكتب “الطلاسم” التي توهم بها عقول الزبائن المرهقين. كلاهما يعدك بالشِّفاء، كلٌّ بطريقته الخاصة.

وهنا دعوني أسرد لكم قصة واقعية. فعن صديق لي عن صديق صديقه يقطن بالدِّيار الأوروبية، قال: أثناء تواجدي بالمغرب كنت أعاني من عسر في الهضم وصعوبة في التنفس، وكأن فيلاً قد جلس على صُرَّتي بكل ثقله، لم أجد في الأطباء ما يشفيني أو يخفف عنِّي حالة الاختنقاء، فإذا بأمي تأخذ بيدي إلى معالجة بالبخور والطلاسم (لحجاب) ورغم أني لا أومن بهكذا أشياء إلاَّ أنَّ كلام أمي لا يحتمل الرفض: “مرات علال ولد فلان ولدها كان بحالك وشوف دبا مخاصو تا خير”. قاعدة : أمي تشبه زوربا إلى حد بعيد في نقائه لكنّها لاتعاقر.” حين وصلنا لوجهتنا استقبلتنا امرأة تناهز الستين بردائها الرث الذي تفوح منه رائحة ماء الزهر والحظ العاثر. أجلستني بقربها وغمست يدها في سائل يشبه الزَّيت، وبدأت تمسد يدي وصدري، كانت أمي معجبة بعمل هذه العجوز وكنت أنا أحس وكأني أتعرض للتحرش من طرف امرأة وإن أزال الزمان مسحة جمالها إلاّ أنه تغاضى عن شهوتها. وحين انتهائها علقت حجابا حول عنقي وأمرتني ألا أنزعه مهما حدث، ثم دفلت على وجهي ثلاث دفلات كانت بمثابة الأفادا كادابرا خاصتها والتي ستنهي كل معاناتي. ثم همّت والدتي بدفع الأجرة وهنا كانت المفاجأة .. فقد دفعت لها والدتي بالعملة الصعبة ” خمسين أورو” وحين استفسرت لاحقاً قالت إن الجنّي خاصتها لا يتعامل بالدِّرهم ويرفض ذلك رفضاً باتّاً. مرت أسابيع بعد زيارتنا وعدنا إلى ألمانيا وشيئا فشيئا استعدت حيوتي وصرت أكثر نشاطا. لن أنسى نظرة والدتي المُشبعة بالنَّصر، وكيف أنها كانت تشكر العجوز كلما سنحت لها الفرصة لذلك.” يقول : وإلى يومنا هذا لم أخبرها أبدا أنِّي زرت الطبيب حين عودتنا إلى ألمانيا وشَخَصَّ حالتي بالإرتجاء المعدي المريئي ووصف لي بانتازول. والآن، وبعد رحلة العلاج الروحانية هذه، أقول لنفسي: لو كنت أعرف أن الحل كان في “بنتازول” فقط، لربما كنت قد قررت دفع الخمسين يورو لقراءة الفنجان مع امرأة أكثر جمالًا وانفتاحًا، لكنا قد غصنا في الماورائيات، من جلسات استحضار الأرواح لدى الغجر إلى وضعيات التأمل الكاماسوترية، على الأقل كنت سأحصل على تجربة روحانية أكثر إثارة من الطلاسم وجلسة التحرش تلك التي لا يتجاوز تأثيرها أن جعلتني أشعر كأنني في فيلم رعب قديم ذو إخراج رديء.

Share
  • Link copied
المقال التالي