صراحة، البيانان، اللذان فاجأ بهما عضو القيادة الجماعية للأمانة العامة لحزب الأصالة والمعاصرة، صلاح الدين أبو الغالي، مناضلي حزبه، وقادة باقي الأحزاب، ومعهم الرأي العام المغربي، بفضحه لما يعيشه البام من فساد واستبداد، وكأن الزمن الحزبي المغربي توقّف عند “تحراميات السياسيين”، التي ندّد بها الملك محمد السادس غير ما مرة، حتى وصل الأمر إلى معاقبة وزراء ومسؤولين حزبيين وعموميين، دون أن تكلّف هذه الأحزاب نفسها عناء الاستفادة من الدرس الملكي، ومراجعة مواقفها وهياكلها وأساليب عملها، وتطويق الانتهازيين والوصوليين، الذين لا يرون في الحزب السياسي إلا مطية لخدمة مصالح ذاتية ضيّقة…
بيانا أبو الغالي كشفا عن فضائح مدوية بلا عد ولا حصر، لعلّ أكبرها وأقبحها هي الكذب على أعضاء المكتب السياسي، والكذب على الصحافة المغربية، والكذب على عموم الرأي العام، إذ أن المنسّقة فاطمة الزهراء المنصوري منعت عضوات وأعضاء المكتب السياسي من التحقّق من معطيات الملف، الذي عرضته عليهم لتطلب منهم عدم الخوض في التفاصيل والبصم بالإجماع (وفق الطريقة البصرية)، على قرار تجميد عضوية صلاح الدين، دون أن تصارحهم بأن المعني الأصلي والقانوني بالملف هو عبد الصمد شقيق صلاح الدين وليس عضو القيادة الجماعية للأمانة العامة للبام، وبالتالي، لن يحتاج أي مراقب موضوعي إلى أي دليل إضافي على أن ما وقع هو بعبارة شديدة التركيز: استهداف صلاح الدين أبو الغالي من طرف المنصوري بملف تجاري لا وجود له أصلا لدى أي درجة من درجات التقاضي، وغير معني به قانونيا، لتحييده من القيادة الحزبية في هذه الظرفية بالذات، ليخلو الجو أمام الانفراد بالبام”!
هل هناك فضيحة أكبر من هذه المهزلة؟ فضيحة تتطلب، كما هو مفترض في كل ممارسة ديمقراطية نزيهة وسليمة، أحد خيارين: الخيار الأول أن تبادر المنسقة، التي ارتضت لنفسها الكذب على زميلها وعلى المكتب السياسي وعلى الإعلام والرأي العام، إلى تقديم استقالتها من الأمانة العامة، بل الأحرى الاستقالة من الحياة العامة للانغماس في تتبّع خلافات الملفات التجارية بعيداً عن الحزب، دون إخلال بحق الباميات والباميين في محاسبتها على الاختلالات، التي أدخلت فيها مختلف هياكل البام، لممارسة تسلّطها على أجهزة وقيادات وقواعد وأطر الحزب.. أو الخيار الثاني وهو بيد المكتب السياسي، هل يستطيع أعضاؤه، الذين ملأوا ندوة صحفية بضجيج مدونة الأخلاقيات، بحضور رئيسة لجنتها، وتورطوا في جريمة التشهير “بلا حيا بل حشمة”، أن يردوا على “التضليل”، الذي مارسته عليهم المنصوري، وأن يسهروا على تنزيل ميثاق الأخلاقيات، بإعداد العُدّة لمسطرة إقالة المنسقة، بالدعوة إلى دورة استثنائية للمجلس الوطني لتجريد المنصوري من مسؤوليتها في الأمانة العامة الثلاثية؟ أم أنهم يسلكون طريق “السلامة” ويبلعون شعاراتهم اللفظية ويكتفون بترديد المثل المغربي “واش يدير الميت في يد غسالو”؟!
لقد بدا لي، بعد الاطلاع على الفضيحة/المهزلة، وكأن فاطمة الزهراء المنصوري تريد الانتقام لمنعها من تولّي الأمانة العامة المفردة، الانتقام من الباميين الأحرار، الذين يرفضون أي سلوك يريد مسخهم إلى “قطيع”، لأن وجودهم داخل البام، وفق ما أعرب لي العديد منهم، هو مواجهة ثقافة القطيع، وعلاقة الشيخ بالمريد، هو البصم على ممارسة سياسية مغايرة، قوامها الدمقرطة والحكامة والمسؤولية والمحاسبة، وفي نظرهم أن فاطمة الزهراء المنصوري، بشخصيتها ومواقفها وأسلوب تدبيرها، تشكل رمزا للقطيع وللريع وكل أمراض تلك السنوات البائدة، التي شرعت تعود مع “القايدة” المتنفذة في دواليب البام…
وبالعودة إلى “بيان” أبو الغالي، “من أجل الديمقراطية في البام”، سواء منه رقم 1 أو رقم 2، فما أن اطلعت على ما تضمّناه من معطيات ومواقف، حتى تذكّرت تلك المسيرة المريرة لنخبة من المناضلين، ومن المفكّرين بالخصوص، الذين واجهوا الأمرّين دفاعا عن الدمقرطة الشاملة، في الحزب وفي المجتمع وفي الدولة، وعلى رأس هؤلاء برهان غليون صاحب كتاب “بيان من أجل الديمقراطية”، الذي ترك بصمة خاصة استفاد منها الكثير من نشطاء النضال الديمقراطي… واليوم يأتي بيان أبو الغالي ليسلّط الأضواء حول الاختلالات البنيوية، التي تخترق الأحزاب المغربية، والتي تستعر فيها نيران الصراعات والتصدّعات كلّما كانت البلاد مقبلة على تشكيل حكومي، أو تعديل حكومي كذلك…
وهو نفس الحال، الذي يجري حاليا لدى “الصهر” في حزب الاستقلال، حيث يمكن أن نفهم لماذا يصمّم ويصرّ ويلحّ أمينه العام نزار بركة على تعطيل عملية استكمال هياكل الحزب بعد مؤتمره الوطني الأخير (أبريل 2024)، بتغييب هيئة “اللجنة التنفيذية” ليستأثر لوحده، في هذه الفترة بالذات، بمشاورات التعديل الحكومي المرتقب، لتأتي “الصهرة” في حزب الأصالة والمعاصرة، لتكمل عضوة القيادة الجماعية للأمانة العامة للبام، فاطمة الزهراء المنصوري، المسيرة، بعدما شرعت في تقريب المقربين والمريدين والوصوليين وإبعاد غير المِطْواعين لأهوائها ومزاجها حتى تتمكّن من إخضاع الحزب لإرادتها والانفراد وحدها بالمشاورات، حتى لا يزعجها أحد في تقديم لائحة…
والمثير في هاذين القياديين، بركة والمنصوري، اللذين رفض الملك استقبالهما عقب انتهاء أشغال مؤتمريهما، أن كليهما يستقويان داخل حزبيهما بادّعاء علاقة غامضة وملتبسة بما يسميانه معا “الفوق” و”الجهات العليا”… “هذ العميق مبقاش واكل”!!؟
لنترك، مؤقتا، نزار بركة ومعه “خبيزتو”، ولْنتوقفْ عند “حريرة” فاطمة الزهراء المنصوري، التي هي موضوعنا اليوم، والتي لم أتفاجأ، كما قلت، بسلوكها الأرعن، الذي تحدّث عنه بيانا صلاح الدين أبو الغالي… في اعتقادي أن جوهر المشكل يعود إلى تداعيات اندلاع حرب الاستوزار، التي استعرت لدى المنسقة الوطنية للقيادة الجماعية، التي تدخّلت “أطراف” لمنعها من اقتعاد كرسي الأمانة العامة، الذي جلس عليه حسن بنعدي والشيخ بيد الله وبنشماس.. لربما اعتقادا من تلك الأطراف أن فرض صيغة “القيادة الجماعية” سيمكّن من تطويق النزعة الهيمنية المترسّخة في شخصية المنصوري، ودفعها لاستخلاص الدروس وتعلّم و”التمرّن” على الممارسة الديمقراطية والتدبير التشاركي للقيادة، لكن “اللي فيه شيحاجة فيه”، كما يُقال، إذ بمجرّد انتهاء مؤتمر البام، حاولت احتواء “الصفعة” التي تلقّتها بمنعها من “الأمانة العامة المفردة”، وشرعت رويدا رويدا في تقزيم تدريجي للآخرين والاستفراد بالتدبير وبالقرار داخل الحزب، حتى تحوّلت إلى “إلياسة صغيرة”، لتشكّل بذلك الوجه الثاني من عُملة إلياس العمري، الذي لقّبه قادة سياسيون بـ”الأفّاق”، والذي طرده الجالس على العرش شرّ طردة من الحياة السياسية، التي يتلصّص حاليا للعودة إليها متسلّلا…
نفس الغموض، الذي برع إلياس في إحاطته بشخصه، وبسلوكه، وبحركات تناورية صغيرة، وحديث هاتفي غامض مع جهة غامضة يعرف كيف يوحي لمن معه أن الأمر يتعلّق بـ”الفوق”! هو نفسه الغموض أو السلوك الذي باتت تعتمده فاطمة الزهراء، فغابت كل مبادئ تلك المنظومة السياسية والأخلاقية، التي أبدع في بلورتها القادة المؤسسون الأوائل، الذين كانوا يتوقون، ومعهم شعب البام، إلى تجاوز الاختلالات الحزبية السائدة وممارسة السياسة بأسلوب آخر مغاير للأمراض التي استشرت في الحقل الحزبي، وأصبح شغلها الشاغل هو الانتخابات، ليست من حيث هي معركة ديمقراطية، وإنما انتخابات للفوز بالمقاعد، وتزكية أي كان ولو الشيطان، المهم الفوز بالمقعد، ومقعد على مقعد حتى “يْحْملْ” البرلمان فيكون “الوضع” ومعه يأتي “الاستوزار”، ومن أجل هذا “الهدف السامي”، أي الوصول إلى المنصب (وزير مدير عمدة رئيس)، بتنا نجد كل ولاية، في الجماعات وفي البرلمان، تعود بنفس الوجوه المكرورة والفاسدة بقوة المال، وبالمحاباة والزبونية، وبالريع الحزبي والولاءات، حتى أضحى عشرات السياسيين قيد المساءلة، حاليا، من هيئات ملاحقة جرائم الأموال، بعضهم في السجن، وبعضهم ينتظر…
وبسبب هذا العامل بالذات، الذي تتواطأ في خلقه العديد من قيادات الأحزاب، ثار الجالس على العرش أكثر من مرة، وغضب أكثر من مرة، تنديدا بهذا الوضع، الذي يمرّغ الديمقراطية المغربية في التراب وفي الفساد، حتى أن تنديداته توالت في العديد من خطبه، إلى درجة أنه طرح، في خطاب ملكي، وعلى لسان المواطن المغربي، سؤالا استنكاريا: ما الجدوى من وجود المؤسسات، وإجراء الانتخابات، وتعيين الحكومة والوزراء، والولاة والعمال، والسفراء والقناصلة، إذا كانوا هم في واد، والشعب وهمومه في واد آخر؟!
بيان صلاح الدين أبو الغالي، هو صرخة ضد التحكّم وضد الاستبداد، وهو نداء من أجل الدمقرطة، وهو شكل من عودة الوعي إلى الذات الحزبية، من أجل أن تصبح الأحزاب ورشة حيّة وحيوية تخرّج المناضلين والكفاءات وتحفّز على المشاركات والاجتهادات من أجل بلورة ممارسة حزبية بديلة، تقطع مع عهود الفساد والاستبداد، وتواجه السلوكات والعقليات البائدة، وتنخرط في عمليات ومسارات البناء في الحاضر وفي المستقبل، من أجل مغرب يحكمه البرلمان، مغرب جيل ولي العهد، مغرب ما عاد فيه مكان للشعبويين والانتهازيين والوصوليين والأفّاكين، من أمثال العديد من سياسيينا “الخالدين”، لعلّ فاطمة الزهراء المنصوري بعد هذه الفضيحة، تستحيي من نفسها وتستقيل…!!!
تعليقات الزوار ( 0 )