شارك المقال
  • تم النسخ

بنيعقوب يكتب: شذرات من عام الجائحة.. عام تذكرنا فيه حب ذاتنا الوطنية الجماعية!

طبعا هي سنة ليست ككل السنوات. سنة صلى فيها العالم وكل البشرية، كل حسب تراتيله وتسابيحه وتعويذاته، لعل الصلاة والتضرع تفتك بالعدو المتخفي بيننا، ذلك الفيروس اللعين الذي حطم النفوس، لكنه لم ينل من إرادة الحياة.

سنة 2020 لم تكن كلها حجيما ورعبا، بل كانت أيضا سنة الرجوع إلى الذات والتحصن بأبناء البلد وبحضن الوطن. وبين هذا وذاك، يمكن أن نقول أن سنة كورونا كانت مدرسة اختبار جماعي لنا جميعا، نجح فيها من نجح، وتعلم فيها من تعلم، وتعثر فيها من تعثر، وغادر منها من غادر، فكانت مؤسسة اجتماعية بيداغوجية أعادت للإنسان دوره، وللأوطان هيبتها ودفئها المفتقد.

من وحيها طافت بخيالي هذه الشذرات “المرئية”، شذرات ممزوجة بالسخرية والخيال الواقعي، شذرات كتبت خلال فترة الحجر الصحي في مشاهد تشبه القصة القصيرة، أتقاسمها مع الجميع لعلها تكون خير تهنئة بالعام الجديد 2021.

المشهد الأول: العالم يغني صيدلي يا صيدلي بدي دوا إلها وبدي دوا إلي!

أنظار العالم توجهت كلها نحو “العقار”، ليس تلك القطع الأرضية للإستثمار والاغتناء والتنافس والمضاربة، وإنما ذلك الدواء أي دواء كيفما كان، المهم فيه أن يخفف أو يمنع تسلل الفيروس الفتاك كورونا إلى البدن.

عيوننا إلى المختبرات العلمية ترحل كل ثانية، نحو صناع وتجار الدواء لعلها تجد أخبارا تبهجها عن تطور البحث العلمي لإيجاد لقاح للوباء الفتاك. مع انتشار الجائحة خبراء الصيدلة والفيروسات يسارعون الزمن من أجل إيجاد معادلات علمية لإيقاف الزحف الرهيب للفيروس، أو على الأقل “للتفاوض الطبي” معه لتهدئته و لكي يبطئ قليلا من حركته السريعة. زمن كورونا جعل من مختبرات الأدوية والصيدليات قبلة جديدة للعالم كله. زمن خلق نوعا جديدا من التبعية الفردية والجماعية والدولية لمن يملك الدواء ولمن يملك المختبرات، فبرزت أهمية البحث العلمي وضرورة الإنفاق عليه في الدول النامية. إنفاق سيساهم لا محالة في فك قيود التبعية العلمية و في إيجاد حلول وطنية لمشاكل الأوبئة وغيرها.

المشهد الثاني: الوقاية خير من العلاج.. ولن اعطس في وجه أحد !

الشعوب بحكامها وجميع طبقاتها أصبحت مدمنة على الكحول. هذه المادة أصبحت أكثر جاذبية من الذهب والبترول، وحلت محل الوضوء عندنا وعند شعوب كثيرة بل إننا أدمنا عليها، وقد تظهر عند بعضنا “متلازمة الكحول” بعد زوال الأزمة، لكثرة استعمالنا لها يوميا.

سوريالية المشهد العالمي تتجسد أيضا في الامتناع عن العطس و التهرب من محيط العاطس. هذه الحركة البيولوجية الطبيعية العادية الصحية غدت مصدرا للقلق والريبة. أصبح كل عاطس أمام الملأ شخصا مشبوها يحمل قنبلة موقوتة، يتعين توقيفه والحجر عليه والهرب منه، ولم لا التبليغ عنه للسلطات العمومية. وأصبحنا حائرين، هل نقول لك رحمك الله بعد أن يحمد الله أم نبلغ عنه الأمن الصحي؟

مفارقات بشرية مضحكة أحدثها الفيروس العالمي الجديد، فصارت عادتنا وحركتنا البيولوجية أكثر انظباطا، جراء محاولات الأفراد التحكم فيها أو في آثارها.

المشهد الثالث: معذرة لن أصافحك حتى تنظف يديك!

المصافحة باليدين كانت دائما رمز السلام والمودة فحلت محلها اللكمات والضرب بالمرافق.

“آهِ من يمناك هذي..والذي منها سقينا؛ عللتنا بالأماني..فشربنا ظامئينا؛ وكأن الآن كفي..حملت ثأرًا دفيا؛ تتمناك حبيسًا..عندها العمرَ سجينا”. هكذا قال الشاعر إبراهيم ناجي عن المصافحة. غير أن الوباء أصدر على مصافح الكف العليل، حكما بالحبس الصحي وسط المرضى.

تحولت المصافحة والتقبيل بالوجه من علامة للمحبة، إلى حركة منبوذة ومخيفة، أوصى الأطباء بتركها والعلماء بكراهتها فقد تحولت إلى جسر جديد للجائحة ضدا على الشعراء والعشاق.

الوباء غير طقوسنا وعاداتنا في إلقاء واستقبال التحايا، ورفع الخصوصية عن كل أمة في أداء التحية ووحدنا في طريقة سلام واحدة، و في تحية واحدة ولغة إشارات واحدة، إنه يهذبنا و ربما يعيد تربيتنا من جديد.

المشهد الرابع: إني ذاهب إلى بيتي.. لن أبرحه حتى تأذن لي الدولة أو يحكم الله لي!

مع بداية المشهد، كان المكوث في البيت واجبا وطنيا وإنسانيا حرصا على “القطيع”، نعم لقد سخر منا الفيروس وجعلنا نطلق على البشرية التي وصلت للقمر وصنعت المعجزات، وصف القطيع، فلم يعد هناك فرق بيننا وبين البهائم والأنعام.

مع ارتفاع ضحايا الفيروس تحول إلى التزام قانوني يخول للسلطات العمومية مجازاة مخالفته بالغرامات وأيضا بالحبس النافذ.

نظرية الحجر الصحي المنزلي، أو العزل الصحي، تمكنت من كل تشريعات الطوارئ العالمية في ظل اكتساح الوباء عن طريق العدوى. حددت للشعوب مواقيت للحج إلى الأسواق وأماكن العمل كاستثناء لاستمرار الإنتاج والحياة. غير أن الأصل، في ظل الأزمة الفيروسية العالمية، هو ملازمة البيوت إلى أن تأذن مؤسسات الدولة بذلك، التابعة هي الأخرى بدورها لقرار الطبيب الذي أصبح ذا سلطة على الجميع، بما في ذلك على السلطات العمومية الكبرى وذوي الرتب في أسلاك القوات العمومية حاملة السلاح.

المشهد الخامس: أيها الوباء المتخفي من أنت وأين أنت؟ أو عندما يشك الإنسان في نفسه ويهرب من أمه وصاحبته وبنيه!

من سخرية القدر أن هذا الوباء بقدر ما خلق نوعا من التضامن والتآزر، وبعث الروح في مؤسسة الأسرة والاجتماع المنزلي، بقدر ما أحدث شرخا في قنوات اللقاء والتواصل البشري. المرء منا فقد الثقة الصحية في أقرب مقربيه، فلم بعد هناك مجال للتسامح مع الحالة المشبوهة ولو كانت فلذات الأكباد. وكأنه يوم حشر دنيوي كبير، كل إنسان بما كسب رهين، وكل فرد لا ينظر إلا لنفسه!

لقد حلت بيننا مرحلة الشك الطبي حلت محل نظرية الشك المنهجي الذي أبدعه فكر الأنوار في الغرب. إيه يا ديكارت، ماذا كنت ستقول عندما ترى وتسمع أن الكوجيطو تحول من أنا أشك إذا أنا موجود، إلى أنا أشك إذا أنا أبلغ “المخزن”!

وصل التسامح إلى درجة الصفر، ولم يعد أحد يقبل مجالسة حامل الوباء ولو كان قطعة منه، والاكتفاء بالبكاء والدعاء على بعد أمتار من أم حملته أو مولود عزيز عليه أو حبيب يتألم أمامه!

المشهد السادس: المتدينون والوباء: الله يرانا!

قيمة الدين في الحياة وفي الأمن النفسي تعود بقوة. عودة ليست محدودة في دول العالم الثالث أو لدى الشعوب المتدينة، أو عند المتعصبين، بل عاد من باب واسع من السماء إلى الأرض حتى في بلاد المادة والتقدم.

زعيم أكبر دولة في العالم، دونالد ترامب رئيس الولايات المتحدة الأمريكية، يصلي و يأمن بعد الكهان أمام عدسات العالم. وكأنه تعبير عن فطرة عميقة في النفس البشرية، بأن الله هو خالق البلاء وهو مرسل الدواء.

العباد ينشرون الصلوات والدعوات والابتهالات وأيضا التعويذات والبخور، حتى أصاب القوم بعض الجذبة أحيانا في التماس الشفاء ورفع الحصار عن الأمم في الأرض.

الفيروس التاسع عشر عندما يشاهد صوره المتدينون مكبرا عبر الميكروسكوب العلمي، يرونه وكأنه كائن وديع تائه في الفضاء، خلقه الله و يحتاج إلى هداية ربانية، أو ربما هو مرسول أرسل برسالة ليقوم بغزوة ما، عندها ينهالون عليه بالصلوات النافذة لعله تصل إلى جزئياته الصغيرة، فيغير الوجهة نحو قوم آخرين هم هدفه الحقيقي، أو تفتته التعويذات وتحوله إلى حطام.

لقد اعترف الجميع أنه ليست المساجد وحدها لله بل أيضا الأوطان لله، وما بين البحث عن الدواء في المختبرات و مابين الدعاء والصلوات، سيطر علينا جميعا وازع البحث عن جسر للعبور ما بين الخوف والرجاء.

المشهد السابع: أيها الغرب، الحضارة أيضا توجد في الشرق.

الفيروس المجهري كشف لنا حقيقة أو كشف كذبة عالمية كبرى، وهي أن الغرب هو مصدر التطور والقيم الحضارية والإنسانية الكبرى.

تعريفات كثيرة أعطيت للتحضر والحضارة. مجملها تربط بين تقدم المعرفة وتنظيم تفاصيل السلوك والحياة و الاعتراف بالحقوق الإنسانية. شعارات لا طالما رفعها الغرب في وجه الدنيا، معتبرا نفسه أهلا لتلقين البشرية درس الطاعة لمصدر التحضر الغربي. شعارات طرحها الفيروس أرضا في أيام معدودة، فبدا الشرق أكثر تحضرا من الغرب في تقديم يد الشفاء للمحتاج، وفي إبداع صيغ إنسانية للتعافي الجماعي.

من اقتصاد المعرفة والبترول والبورصات، الذي فرضه علينا الغرب وتوفق فيه كثيرا، فشل الغرب مع بداية الجائحة في الاقتصاد العالمي الجديد، اقتصاد الأزمة، اقتصاد الكمامات والكحول والمعقمات وأنابيب الأكسجين، إنه الإقتصاد الإنساني الذي نجح فيه الشرق كثيرا.

ومن غرائب اللحظة التاريخية، أن ذلك الغرب الذي كان يظهر نفسه مادا يد العون للشعوب المقهورة جراء الحروب المفتعلة أو الأزمات السياسية، دخل قمقمه وتقوقع على مشكلة المرض في أجساد البلد الواحد دون الإكثرات بالإنسان عبر العالم والذي خلق له منظمات ومؤسسات كثيرة تعزف لحن حقوقه.

كدنا أن نشهد انهيارا لمنظومة المؤسسات الدولية لما بعد الحرب العالمية الثانية، ومن أهمها المؤسسات المالية والتجارية لبريطن وودس ومنظمة التجارة الدولية، وكدنا نكون شهودا على تفكك تدريجي للاتحاد الأوروبي والعودة ربما إلى منطق السوق المشتركة، بعدما تخلت كل دولة منه عن الأخرى بسبب الجائحة.

لقد شاهدنا كيف كان حجم عدم الانضباط وارتفاع الفوضى لدى عدد من شعوب الغرب المتمدن، ويحق لنا أن نتساءل هل هي منظومة القيم الغربية التي أنشأت هذه الإنسان الفوضوي أم أن هناك أزمة تعليم وتربية وقيم أم أن وازع الوحدة الداخلية هو البحث عن الربح وليس العيش المشترك؟

الغرب الليبرالي المتمدن لم يعد جديرا بقيادة العالم، لأن نهضة حقيقية أبرزها الشرق في مداواة نفسه انطلاقا من قيمه. الغرب كان دائما يقول أنه لا جديد هناك يحكى على الجبهة الشرقية، فجاءت الأزمة لتكذب هذه اللازمة المتآكلة.

وعلى رأس الشرق تفوقت الصين في جعل وصفة العلاج والوقاية مشاعا بين الأمم ولاسيما الضعيفة منها. فأي الفريقين أحق بالاتباع في زمن الجائحة وما بعد زمنها؟

المشهد الثامن: الدولة الراعية المركزية كم كنا في حاجة إليك!

إنها دولة تحقق الركنين المهمين لوجودها ” أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف” الآية.

فتعلمنا من جديد أن أركان الدولة وشروط مقاومة الوباء ميدانيا هي الدواء والغذاء والأمن العام، وعليها أن تهيئ جيدا للمستقبل. تهيئه عن طريق المعرفة والتوقع، وعبر
دروس التربية والقيم والعلم، هذا الثلاثي المتلازم للخلاص من الوباء ومن الأزمات.

الأزمة الوبائية العالمية لكورونا التاسع عشر، أعادت إلى الواجهة مفهوم الدولة الراعية، وأحيت افكار اقتصادية تعود هي أيضا إلى زمن بعيد أكثر من قرن.

لم يكن هناك من حل لمحاصرة الوباء سوى حزم الدولة، ومركزة القرار في العواصم، والتخلي عن جزء من الحريات لفائدة التحرر الجماعي. بعض الدول كانت تعودت حياة الكسل والتسيب، صعب عليها ضبط الإيقاع ومنع الفوضى ، وبعضها لم يتخل كثيرا عن الصرامة ولم يتوغل بعمق في عالم الحريات والديمقراطية فسهل عليه العودة من بداية الطريق أو من وسطها إلى ما كان عليه الحال من قبل من ضبط وسيطرة.

وللأمانة فقد كنا في حاجة ماسة إلى دولة راعية فاعلة متتبعة لكل التفاصيل، حتى لا يهرب الفيروس إلى جنباتها المظلمة في الاقتصاد و الثقافة وغيرهما، وفي المغرب كاد الفيروس أن يقسم البلاد إلى بلاد السيبة وبلاد المخزن، لكن هذه المرة لعب الشعب دورا مهما في محاصرة بلاد السيبة عبر الإعلام واليقظة.

اليوم تعيش الأمم على نظام دولة اقتصادي واجتماعي مختلط مابين الرعاية وما بين الكينيزية في ضبط حركة المال، من خلال تدخل مؤسساتها في كل تفاصيل الحياة الجماعية وبعض جوانب الحياة الخاصة.

وبين ثنايا هذه الأزمة ظهرت “بورجوازية مواطنة”، تملك وعيا/خوفا بهذه المرحلة التاريخية، وتعي ضرورة حماية الدولة، وأنها بدون دولة ومجتمع لا يمكنها أن تحيا، فكانت أول المساهمين في محاصرة الوباء وآثاره. ولعل هذا المعطى سيعمق وعي هذه الطبقة، بضرورة المساهمة الاجتماعية في بناء الدولة بعد مرور الأزمة على غرار بورجوازية ما بعد الحرب العالمية الثانية.

بذلك أصبحت نظرية الدولة المعاصرة على المحك وبحاجة إلى تعديلات، وغدا العالم بحاجة إلى نظريات فكرية جديدة بديلة عن الحالية، لتنظيم المجتمعات. نظريات حتما ستكون مختلفة عن النظريات الليبرالية والرأسمالية المعولمة، و متميزة عن نظريات نهاية التاريخ والانسان، لأننا نعيش ولادة جديدة له، وبدل نظرية صدام الحضارات نعيش صراع الكمامات بين الشرق المتفوق فيها طبعا، وأيضا نظرية الحجر الصحي الخلاق الذي أعاد النظام وحارب الفوضى في كل شيء بما في ذلك في ممارسة الحريات.

المشهد التاسع: أيها السياسيون، الشعوب لا تكرهكم ولكنها بحاجة إلى كمامات ومعقمات!

لقد انهارت كل خطوط دفاعات الكاريزمات السياسية أمام أقنعة وكمامات الأطباء والممرضين في ساحات معارك المستشفيات.

كثيرا ما كان يسأل الناس عن دور السياسيين في الحياة بصفة عامة: مخلوقات تطير بلا أجنحة، وتجيد الألعاب البهلوانية في الفضاءات المتنوعة. هل كانت الناس بحاجة إليهم في الصدمات الأولى في زمن كورونا؟ هل ينفع خطابهم وكلامهم وتحليلاتهم وتراشقهم مع الوباء؟ هل لهم منفعة أصلا أمام بروز دور الدولة المركزية ووسائطها الأمنية والصحية؟

الشعوب تتأمل في الدولة وتتبع القوة البازغة الحاضرة في كل لحظة وحين. الشعوب لا تحب الآفلين، ولا تحب أيضا من لا يستطيع أن يوفر لها الكمامات والمطهرات.

ومن أهم ما تسلحت به الشعوب هو الإعلام البديل كقوة رسخها الفيروس القاتل، فاستعملتها لنشر المعلومة والتوعية ومقاومة الزيف والزور وللنداءات الإنسانية ولتقديم المساعدات والتفاعل مع السلطات، وأيضا للحديث عن مؤامرات عالمية وضرورة التوحد ضدها.

لذلك على مهنيي السياسة أن يستجمعوا الخلاصات، أن يعيدوا النظر في البروفايلات، أن يبحثوا لهم عن بوابات جديدة لولوج المجتمع، كما فعل بعضهم عبر الاقتصاد والقفف أو التطوع بشيء يفيد الناس، وإلا فإن التفاتة الناس إليهم بعد عاصفة الوباء ستكون بشكل آخر وبعين أخرى ربما زرقاء وربما حمراء!

المشهد العاشر: المثقفون: احتراماتي يا سور الصين العظيم!

الصين رغم النكبة التي تعرضت لها اقتصاديا مع بداية انتشار الوباء، تعود إلى الواجهة بشكل أقوى.

هؤلاء الآسيويون تعلموا كيف يداووا جراحهم بأيديهم وكيف ينهضون بسرعة وتحد كبير. حتى فنون الحرب عندهم فيها شرف، فيها تأمل وحكمة و انتظار فرصة الانقضاض.

الصين قدمت للعالم نموذجا لإنقاذ الشعوب. فأصبح للضعفاء مكان يجلسون فيه على طاولة صياغة العالم والتفاوض مع من الأقوى.

الصين وضعت خطة للحفاظ على شعوبها وعلى أمنها الصحي، وأنتجت خبرات مهمة في هذا المجال ووضعتها رهن إشارة الأمم الأخرى. بل إنها واصلت عملية إنتاج كل مستلزمات العلاج ولم تحتكرها لنفسها كما فعلت دول غربية، وسارعت في انتاج اللقاح المنجي، فاستحقت الاحترام من قبل المثقفين الذي يتابعون ويقارنون كيف تتعامل الجبهات العالمية مع الإنسانية.

لذلك فإن حفدة بناة السور العظيم دخلوا قلوب العالم واستحقوا التعظيم بحسب عظمة خدمتهم للوجود الإنساني على الأرض في زمن الموت بالفيروس.

وبعدما سادت أفكار كثيرة من قبيل من يملك وسائل الإنتاج والمعرفة هو من يملك السلطة، أصبح المثقفون في بداية الوباء بغريزة البقاء والواقعية، يرون أن من يملك الكمامات والمعقمات أولا، هو من يملك السلطة الحقيقية على الشعوب!

المشهد الحادي عشر: قوات الأمن والمصالحة الكبرى: ضابط إيقاع الشعوب ومتعقب آثار جرائم الفيروس!

اختفى نجوم الشاشة عن التأثير والتنظيم المباشر للجماهير، وأنيط الدور بالجهات الأمنية التي تلعب دورا تأطيريا صحيا غير مسبوق. تلعبه بشكل عاطفي مؤنسن وتتواصل مع العباد كالأب الراعي لأبنائه بالحزم حينا وبكثير من اللطف والحرص أحيانا أخرى.

رغم كل المصالحات التي وقعت، فإن أكبر مصالحة تحدث اليوم إلى جانب المصالحة مع المستشفى والطبيب العمومي، هي مصالحة رجل الأمن وقبول مهامه بشكل سلس ودون اعتراض أو احتجاج او اتهام بتلفيق الجرائم.

من باحث ومتحر عن الجرائم والمجرمين، إلى متحر عن بؤر محتملة لقبوع الفيروس. طبعا بحكم التكوين المهني، ففي نظر رجل الأمن الكل مشتبه بهم إلى أن يتثب العكس، لذلك وجب الحرص على إيداع الجميع في الحراسة النظرية في المساكن والإقامات.

القاتل لا تراه كاميرات المراقبة، ولا تشمه الكلاب البوليسية، ولا يمكن التصنت عليه، ولا يمكن اختراقه بعملاء يرافقونه أو وسطاء يسقطونه في الفخ كما في جرائم المخدرات،
لكنه،الملعون، يترك أثرا بعد ممارسة الفعل “الجنائي”. إنه يوقع توقيعا خاصا على جسد الضحايا ثم يخفي أداة الجناية، التي تتعدد بتعدد المعادن و الأشياء حولنا.

الناس قبلت الدور الجديد لرجل الأمن، وامتثلت له بل ونوهت به أيما تنويه، لأنه ببساطة يشتغل وفيا مخلصا لفلسفة وجوده، وهي محاربة الخوف.

المشهد الثاني عشر: الأطباء قادة الشعوب!

نعم، المعلمون قادة الشعوب ولولاهم لما أنشأ لدينا جيل من القادة الجدد وهم الأطباء والممرضون.

هؤلاء في الحكم التاسع عشر لفيروس كورونا، لم يعد ينظر إليهم كموظفين يتقاضون راتبا ليقوموا بوظيفة كغيرها من وظائف الدولة، بل إنهم اليوم أئمة ووعاظ للأمم وللشعوب.

محرابهم هو غرفة الحجر الصحي، ونصائحهم هي تعاليم مقدسة لا ينكرها إلا كافر بالوباء. سيسجل لهم التاريخ أنهم أنقدوا البشرية من طاعون اكتسح الإنسان، و ستسمى الشوارع والساحات بأسمائهم، ومنهم شهداء في الميادين، فقد كانوا ومازالوا أول صف في جبهة الاشتباك جسد لجسد مع “العدو” الغادر.

الزي الأبيض أو الأخضر الذي يلبسون تحول إلى زي عسكري قتالي، يسعف الأرواح بدون ميز بين كبير و صغير، بين غني و فقير وبين حاكم أو محكوم.

هم الآمر المدني والعسكري الحقيقي، بل هم القادة الحقيقيون للمعركة، والكل إنما طوع أمرهم وتعليماتهم.

المشهد الثالث عشر: ماحك جلدك مثل ظفرك !

وصفة الوقاية المغربية، حينما يعظنا الفيروس بالمقاومة الجماعية وبنبذ الفردانية..

منذ زمن ليس باليسير، توغلنا نحن المغاربة في حياة الفردانية والبحث عن الربح الشخصي، وأغفلنا حياة الجماعة وقيمها.

الفيروس أحدث الصدمة الخلاقة، وأول نتائجها ذكرنا وأعادنا إلى ذاتنا الجماعية. نبش في خزان الذاكرة فأخرج منها أجمل صور قيم التضامن والتآزر والتواد والمحبة.

ذكرنا بالانتماء الجماعي، وبالمصير المشترك. ذكرنا بالسفينة الواحدة التي تحملنا جميعا، وأي ثقب فيها سيهلكنا جميعا. لقد علمنا “المعلم” كورونا 19 بأن حب البقاء والحياة رهين بحب بعضنا البعض، رهين بالاعتناء ببعضنا البعض، وإلا اختلى الخوف والموت المتربص عند أبواب المساكن، بكل منا خلسة من الآخر ثم ليفتك بمن عليه الدور.

لقد علمنا الفيروس أن تاريخ الأمم يكتبه أيضا المتضامنون والمتطوعون.

مظاهر التطوع والاهتمام المشترك ببعضنا البعض، ثقافة الاعتماد على الذات، قيمة الإتكاء على أبناء البلد، هي بعض عناصر وصفة مقاومة الجماعة المغربية للبقاء الجماعي. هي قيم كنا قد نسيناها نوعا ما حتى ارتفع عندنا تيار الغضب والعنف والمصلحة الشخصية، وجاء الفيروس ليوقظها فينا من جديد.

هي قيم ليست عابرة عبأناها ضد كورونا، بل إنها أسس لبناء متجدد لمابعد الأزمة، لعلنا نطوي فصل الخصام السابق ونربت على أكتاف بعضنا البعض، ونمضي سويا إلى البناء المشترك.

المشهد الرابع عشر: وبعد، هل يحتاج العالم إلى مخطط مارشال صيني بعد فيروس كورونا؟

لا شك أن الجائحة العالمية تشبه إلى حد ما الحروب العالمية الكبرى، من حيث النتائج الاجتماعية و الاقتصادية والسياسية وأيضا الديموغرافية. وهي حرب عالمية أولى حقيقية بين البشر فيما بينهم وبينهم وبين كائن غير مرئي.

الحروب العالمية التي عرفها البشر في القرن العشرين، توجت باتفاقات بين المنتصرين على حساب المنهزمين، ختمت بتوزيع للقرار الدولي، وبإحداث مؤسسات تحكم العالم. مؤسسات مالية وعسكرية وسياسية دولية، منها منظومة الأمم المتحدة العاجزة اليوم على توحيد جهود الدول المنضوية تحتها لإيجاد حل للفيروس.

من جانب آخر عجزت المؤسسات المالية والاقتصادية الناتجة عن الحرب العالمية الثانية، في مواكبة الاقتصاد العالمي وإبداع حلول لتوحيد الإمكانيات لتلبية الحاجيات في ظل هذه الأزمة، بل فشلت أمام انعزال الدول وانغلاقها على مصالحها.

ولعل أنظار العالم والشعوب تتوجه، كأي فصل من فصول المواجهات العالمية، إلى المنتصر على الوباء، باعتباره يملك أدوات الخلاص من المعاناة ومن الحجز الجماهيري القسري.

ومن المتوقع أن المشهد الدولي سيعرف عدة اختلالات بعد أن تضع الحرب أوزارها مع الكورونا، اختلالات اقتصادية والركود الذي سيعرفه العالم لبضع سنين، وتراجع الإنتاج والمداخيل التي عصفت بقطاعات برمتها كقطاع السياحة، واختلالات على المستوى الاجتماعي تهم الديموغرافيا وخريطة الهجرة وتياراتها ومفهوم الاستقرار والعودة إلى بلد النشأة للاحتماء بها بعد الرعب الذي خلقه الفيروس في الغربة.

ومع كل حرب عرفها العالم تتغير مراكز القوة، طبعا لفائدة المنتصر الميداني الذي يفرض شروطه، وفي الظرف الراهن تظل الصين أكثر تحررا من الخوف ومن الحصار المفروض بقوة المرض، ويمكنها أن تستغل الارتباك الحاصل في الغرب وفي الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، لتصنع تعاقدا دوليا مع دول كثيرة على غرار مخطط الجنرال الأمريكي مارشال لبناء أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية.

وحتما حينها ستفرض الصين قواعد لعبة جديدة بعدما قامت بحملة تواصلية إنسانية ناعمة كبيرة، تسعى من خلالها دخول قلوب الشعوب أولا دون أن تطلب أي مقابل واضح، وهي التي كانت بالأمس القريب محط انتقاد شعوب كثيرة خصوصا العربية والمسلمة بسبب معاناة مسلمي الايغور مثلا.

هذا التمهيد التواصلي الذي تقوم به الصين، من تعبير عن تقديم الدعم و المساعدات الإنسانية والخبرات الطبية واللقاحات، حتى لبعض الدول الأوروبية، لاشك أنه جزء من خطتها لإعادة خلق الثقة مع شركائها وإظهار حجم قوتها في اعتراض الوباء، ومن تم توسيع أسواقها بتعاقدات سياق الأزمة خصوصا في القارة السمراء.

الانشغال الأمريكي الأوروبي بأزماتهم الوبائية والسياسية الداخلية، يطلق أيدي الصين في انتزاع مساحات دولية جديدة للصين، تكون أهم بواباتها إقتراح المساهمة في إعادة بناء اقتصادات الدول الصغيرة والمتوسطة المتضررة بالأزمة. لذلك قد نعيش صراعا جديدا بين عدة مخططات مارشال، قد تنتهي بتقاسم جديد للنفوذ العالمي مع الولايات المتحدة الأمريكية دون غيرها.

*باحث في العلوم السياسية

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي