مقدمة
بدايةً، أود أن أشكر القائمين على تنظيم هاته الندوة الهامة، وعميقة المضامين. فهي تستقي هاته الأهمية من راهن الحال، ومن عنوان المرحلة، ونحن في مفترق الطرق، ونحن نواجه هـذا الانعطاف التاريخي الحاسم. نقف اليوم، إذن، أمام مؤلَّف ليس بالهين، من حيث حمولتُه الفكرية، ومن حيث أهميةُ مؤلِّفِه، وغنى تجربته ووسع ثقافته وعلو كعبه في العلم الذي يتصدى للتأليف فيه، هذا فضلا عن المستوى الأخلاقي الرفيع للرجل وأناقته الإنسانية.
أتشرف اليوم بالحديث عن كتاب العقل المغاربي في ضوء ثقافته، وكاتبه الأستاذ الدكتور علي الإدريسي. الحقيقة لا أعيد ما كانت قد تفضلت به زميلتي العزيزة الأستاذة الفاضلة ابتهال قدور، وإنما أود أن أشكر أستاذنا الفاضل الذي طلب من المنظمين أن يدرجوا قراءةً مغربيةً إلى جانب الشقيقة المشرقية. ومما يميز الزميلة ابتهال أنها تعرف المغرب العربي جيدا بحكم إقامتها الطويلة في الجزائر، وقد تيسر لي أنا أيضا أن عشت بالمشرق واحتككت بكثيرين من بلدان عربية مشرقية. وهذا مهم جدا. فوجودنا اليوم في هاته الندوة المهمة هو وجود خبرة واحتكاك، وليس وجودا سطحيا مبنيا على القراءة فقط وإنما هو مبني على معرفة عمن نتحدث، وكذا بحكم الهم الكبير الذي نحمله معا، وعدد آخر من كل فرد من أفراد هذا الجزء من الإنسانية كافة.
إن التحديات التي واجهتها المنطقة العربية لم تتغير، وإن تغيرت الأحداث والمجريات التاريخية، وإن تغايرت التفاصيل والأشخاص والقادة والنُّخَب. بقيت المنطقة العربية على حالها قرونا طويلة لكونها عرفت اهتزازات بين تحكيم العقل وتحكيم القـوة. فقليلا إن لم نقل نادرا إن العقل والحكمة سادت سياسات البلاد العربية فيما بين أبنائها وبين مناطقها الأخرى. إذن، وبكلمة مختصرة، لم يكن للمنطقة العربية من عدو ماكر ومتآمر خبيث سوى نفسِـها. ولا يوجد كثير من الحكمة في المنطقة العربية على مستوى البنية الفكرية والتفصيلية ولا على مستوى الاستبصار أو علم المستقبليات. نحن في مأزق، لا ترى أحدنا من البلاد يتعلم شيئا من التاريخ القديم ولا من التاريخ القريب الحديث ولا من التاريخ المعاصر. فيأتي هذا الكتاب، إذن، وتظهر قيمتُه ليطرح على جزء من المنطقة العربية وهو الغرب الإسلامي وهو الاسم المفضل لدي شخصيا، والغرب الإسلامي مصطلح يشمل بلدان المغرب العربي الخمس وشبه الجزيرة الأيبيرية. يطرح أسئلة مقلقة جدا وأهمها قضية الهوية التاريخية والحضارية. بمعنى:
هل ما نملكه من مقومات الحضارة المغاربية من لسان ودين وتاريخ وثقافة بشتى ضروبها الإنسانية والثقافية لنا منها نصيب أم نحن تبنيناها واستوردنا أغلبها؟
وإن لم نطرح سؤالا غير هذا ونحن نقرأ كتاب العقل المغاربي في ضوء ثقافته لكفانا ولما أجبنا في حلقة أو حلقات عنه لكونه سؤالا إشكاليا ينزح بنا إلى الهدم، وينزح بنا إلى الإعادة: إعادة البناء، بناء كل شيء. ويمكن أن نصنف هذا السؤال بكونه سؤالا إبراهيميا، إن نحن أردنا أن نستفيد من تجربة إبراهيم النبي الآب الذي تفرعت عنه الديانات المعروفة اليوم، حين انطلق من الكفر إلى الإيمان. فالكتاب الذي كتبه الأستاذ الدكتور علي الإدريسي يطرح بصيغة أو بأخرى هذا الطرح الإبراهيمي الذي يجعل الشكَّ منهجا وينطلق من الكفـر بشيء إلى الهدف وهو الإيمان، الإيمان بشيء يساعدنا على أن ننظر إلى أنفسنا نظرة صحيحة واثقة وأن نعيد نظرتَنا إلى المجال الإقليمي والدولي الذي يحيط بنا.
ولقد كان للعقل الجمعي نصيب كبير في هذا المؤلَّف القيّم لكنه ينزح إلى منحى يقلل من شأن العقل في التفكير المغاربي منزاحا إلى العملية أكثر من الجدل والنظر. ومعنى ذلك ببساطة أن عقل المغاربة عموما لا يهتم كثيرا بالنظر والفلسفة والجدل وإنما بإقامة ما هو عملي، ولذا ترى أن الدولة في المغارب أكثر استقرارا مما هي عليه في بلدان المشرق العربي. ذلك أن المغاربة نزعوا إلى ما هو عملي وتنفيذي أكثر مما نزعوا إلى النظر العقلي والكتابة الجدلية الكلامية والفقهية التفصيلية البعيدة عن العملي. ولا يعني ذلك أن المغاربيين قاصرون أو ليس لهم من ملكة النظر والتفلسف والتمذهب، وإنما كان ذلك تفضيلا منهم إلى الاستقرار والعملية لذلك اتجهوا إلى تكوين الدول وتأسيسها والعناية بها، بل إن الفاطميين وهم من المغاربيين استطاعوا تأسيس دولة على الأراضي المصرية وهم من بنى القاهرة والأزهر، وهم “أجانب” عن البلاد التي فتحوها ودخلوها.
وإذا كان الأستاذ الإدريسي قد عمل على تبيين هذا الجانب العملي في الشخصية المغاربية وإذا كان يبطن التأسف أيضا على قلة النظر والفلسفة في التي أنتجها العقل المغاربي مقارنة مع نظيره المشرقي، إلا أنه تميز عن غيره من الباحثين والنقاد والمفكرين باستدعاء الثقافة الشعبية من أعمق أعماق الوجدان المغاربي. وهذه نقطة تحسَب للأستاذ الإدريسي في هذا المجال (الإدريسي: 24)، ذلك أن الثقافة الشعبية كثيرا ما تُهَمَّش ويحتقرها المثقفون والفلاسفة في هذا المجال، لكننا نرى الكاتب يضعها في الصدارة، فيستدعي مثال حميد الزاهر المطرب الشعبي المغربي المعروف في أغنية “أس داك تمشي للزين…”، والشاهد عندنا في هذا المقام هو
“كان في الأول حب زوين،
يجمع ما بين القلبين،
وفي الآخر رجع نصراني“، | هذا الربط بين الرومي (النصراني) وقساوة القلب، بحيث إن المغاربيين يربطون الروم منذ الاحتلال الروماني بالقساوة، فلما جاء الاحتلال الأوروبي بقي الناس على تسميتهم بالروم، أو بالنصارى. ولِما مارسه الرومان وغيرهم من تقتيل وتدمير وقهر للمنطقة جعلت الذاكرة المغاربية الجماعية تربط بين القسوة والرومي أو الأوروبي الغازي المحتل. وبقي هذا متداولا حتى استحضره الفنان حميد الزاهر في أغنيته الشهيرة، والتي ليست سوى تعبيرٍ عن تلك الذاكرة الجماعية وعما تختزنه من امتلاء بالرفض لهاته القساوة. ولد وُفِّق الدكتور الإدريسي في توظيفها بذكاء وجعلها تنسجم مع السير العام للعقل الجمعي وهو يحلل ويفكك البنية العقلية التاريخية والحاضرة للنفسية المغاربية. وهذا أمر من النادر أن نجد مثقفا يحتفي بالثقافة الشعبية ويجعلها في صدارة الأمر ليمكِّن الباحث والسائل من نموذج تفسيري قلما انتُبِه إليه أو من النادر أن يُعْطــى الإمكانية في الظهور. وبهذا، يكون العقل المغاربي في ضوء ثقافته يزاوج بين ثقافة عالِمة وثقافة شعبية لها دور حاسم في كثير من المناطق الرمادية التي لم تستطع تلك الثقافة المكتوبة والثقافة العالِمة أن تنفُذَ إليه وتتعمق فيه إما تجاهلا أو احتقارا أو عدم انتباه إليها بالمرة.
ونصل إلى السؤال المهم وهو ماذا عن الأفق؟
يمكن للقارئ أن يجد أرضية مشتركة مع الكاتب الدكتور علي الإدريسي. هاته الأرضية هي في غموض الأفق والمستقبل. فبلدان المغارب أضاعت فرصة الدمقرطة والانطلاق والتنمية فرادى وجماعات غير ما مرة. وكان التعثر والفشل من نصيب بلدان المغارب بسبب إشكاليات بنيوية أهمها هو تحدي الطائفية اللسانية. فإذا كان المشرق يجد عائقا في تعاطيه مع البنية الطائفية على صعيد المذاهب والأديان المتعددة والتي لم يستطع استثمارها ولم يستفد من التنوع الحاصل فإن منطقة المغارب تواجه هذا الخطر الداهم. فلا توجد بلدا تحترم نفسَها تستعير لسان التريس من خارجها ومن خارج تاريخها ووجدانها مثلما تفعل بلدان المغارب مجتمعة. إذن، فتحديات المواطَنة واللسان واحترام القانون والدستور وتماطل الإرادة السياسية للعمل الداخلي البنّاء أو على صعيد الإقليم لرفع تحديات عالمية مطروحة بجدية على المنطقة تجد توقا لدى الدكتور الإدريسي من أجل حلها وجذب الانتباه إليها من قِبَل من له شأن بها واهتمام. فاللسان والهوية والحرية ليست محط تلاعب أيديولوجي وإنما تحتاج رجال دولة ذوي نظر ثاقب، وتحتاج أمناء أكفاء، لا أن تترَك لكل من هب ودبّ ليبث فيها ويقود المنطقة إلى صفيح ساخن كما يحدث في بلدان مشرقية كثيرة تعتمد بالدرجة الأولى على قوة الدولة لا على عقلها أيضا. ومن ثَـــمَّ، فحاجتنا هي إلى تنظيم التنوع الثقافي وإبعاده عن محيط التجاذب الفِكْـراني إذا استعرنا تعبير الدكتور طه عبد الرحمن للتعبير عن الأيديولوجي.
وإذا جاز لنا أن نؤاخذ – في الختام – هذا الكتاب وصاحبَه على شيء، فإن كثيرين سيشككون في اكتفائه بعلَمَيْـــن فقط لإثبات الأصالة المغاربية لا غير، وهما ابن خلدون (تُوُفــي 1406 م) والأستاذ مالك بن نبي (1905-1973 م) إلا أننا إن قرأنا ما وراء سطور الكتاب ونفَذْنــا إلى نيته فسنجيب بكونه يستصرخ المغاربيين إلى أن يهتموا بالأرشيف وأن يُنَقِّــبـــوا عن الأعلام لدراسة إنتاجهم وإثبات ما للمنطقة المغاربية من أفضال على الإنسانية والاعتراف بمكانتها دون انغلاق عن المشرق والتبعية الثقافية له ودون انغلاق عن الغرب والإنتاج الإنساني بشكل عام. وتستمر بذلك المحاولات والنداءات إلى مزيد من الثقة بالنفس في الدور الذي يمكن أن يؤديَه الإنسان للمغاربي استعادةً “للفورنة الموحدية” على حد تعبير أستاذ الفلسفة عبد الوهاب احميرين. الذي أشاد بالكتاب واعتبره “دراسةً تستحق التنويه والتناول الفكري”. ففي نظره، فإن الأستاذ الإدريسي “مهووس بهاجس التنقيب الأركيولوجي/البنيوي عن بُنى وإرهاصات الفكر المغاربي قديماً وحديثا.. فهو يبحث في معطى الأصالة داخل الإنتاج الثقافي المغاربي، أصالة الهوية الفكرية والثقافية للباحثين والمفكرين وأعلام الفكر المغاربي.. “
ويبقى مؤلف الإدريسي ذا مكانة كبيرة إلى جانب كتابه الذي لا يقل قيمة وقوة عن الذي بين أيدينا وهو السلطة والدولة في الإسلام يشكل ثنائية قوية يمكن أن نشبهها بمؤلف ابن رشد بداية المجتهد ونهاية المقتصد. وفي نظرنا، فمن كان يريد بداية الاجتهاد فعليه الانطلاق من هذين الكتابين للمادة والتوسع فيها، ومن كان يريد أن يكتفي فما عليه إلا أن يقرأهما ففيهما كفاية ونظرة محيطة بقضايا السياسة والدولة من جهة، وقضايا الثقافة من جهة أخرى.
*كاتب مغربي مقيم في كندا
تعليقات الزوار ( 0 )