إن أي مشروع للإصلاح يبغي أن يوازيه خطاب إصلاحي يجيب عن أسئلة الأزمة في السياسة التعليمية، و عن تحديات التحول و عن البديل الإصلاحي و آليات التنفيذ و عن أدوات العمل و القابلية للتطبيق و عن تأهيل الفضاء و ترشيد الموارد و عن التقييم و التقويم و الوقوف عند النسبة المرتقبة لنجاح أي تجربة من هنا تأتي مقاربتنا لمنظومة الإصلاح الجامعي.
فالإصلاح من منظور أكاديمي هو بنية متكاملة و متجانسة تتفاعل و تتحرك بداخلها مجموعة من العناصر و المقومات و الأنماط في إطار نسق عام لا يقبل التجزيء و الإستعجال أو الاختزال. و كل فعل تأسيسي لهذا الإصلاح ينبغي أن ينطلق من الوعي الشمولي به في أفق الحق التثبيتي له. فالجامعة المغربية من خلال مسارها التاريخي، عرفت جغرافية معقدة ومركبة في معانيها و مفاهيمها و مضامينها ووظائفها، هذه الجغرافية أضحت معها بوصلة الإصلاح غير ثابتة الاتجاه و سريعة التذبذب مما يوحي بوجود فجوة في عملية الهندسة والتخطيط و وجود خلل في عملية التفكير والتقدير لدى المسؤولين عن القطاع.
و المطلوب اليوم هو رفع منسوب الواقعية و الجرأة الفكرية و الشجاعة الأدبية لوضع حدود لمجموعة من القضايا المغلوطة و المفاهيم الخاطئة، و خلق موجبات جديدة و التفكير في تغيير آليات العمل العاجزة لأننا قد نعيش مرحلة ضياع أخرى و إهدار للطاقات إذا لم نقم باجتراح أدوات للإنقاذ ووسائل لإسقاط المعيقات و الحواجز و خلق مقومات التفاعل و تنظيم المجال بشكل عقلاني عبر سياسة الحوار التواصلي و التدبير التشاركي لقضايا الجامعة و تفعيل حقيقي للأجهزة الأكاديمية في ظل دمقرطة حقيقية للمؤسسات و استقلالية تامة في صياغة القرار دون أي ضغط أو إكراه أو إملاء حتى تصبح القرارات ذات صبغة ثقافية منبثقة عن قيادات و نخب فكرية.
إن تجربة منظومة LMD كفيلة بأن تشكل لنا اليوم أداة للقياس من أجل قراءة مغايرة ومقاربة نقدية موضوعية وواقعية لما هو مطروح، نثبت من خلالها أن لدينا عقلا نمارس به الفهم و التفكير و إعادة الصياغة و أن هذا العقل ليس في إجازة ولا يرضى بالمغادرة الطوعية أو القسرية و لا يقبل بما هو جاهز إلا بعد تمحيص أو الاستدلال عليه و هذا يفترض منا وقفة تحليلية للباشلور في أطره الإستراتيجية الثلاثة : الإطار المرجعي، الإطار المنهجي و الإطار التطبيقي.
إن نظام الباكالوريوس لا يعني اختزال المنظومة البيداغوجية في تمطيط الوعاء الزمني إلى أربع سنوات أو في العدد المرتفع لوحدات المهارات الناعمة على حساب التخصصات الأساسية في المجالات المعرفية الدقيقة لأننا سنكون بصدد إنتاج وإصدار شواهد جامعية في تخصص الإنفتاح وليس في العلوم الأكاديمية يصعب معها تحقيق المعادلة مع الشواهد الدولية وهذا مأزق إجرائي/قانوني يجسد غياب استراتيجية تحصينية. أضف إلى ذالك أن غالبية الأساتذة ليسوا على دراية عميقة بطبيعة الوحدات الجديدة التي تستوجب الآلاف من المتخصصين في مجال العلوم الإنسانية والإجتماعية والتربوية. وأمام هذا الوضع الشاذ سنجد أنفسنا داخل الساحة الجامعية في تسابق محموم لكل من فشل في تلقين تخصصه لمزاولة الإنفتاح بعد سنوات طويلة وعريضة من الإنغلاق. وقد يصبح هذا الإنفتاح معيارا وقاعدة أساسية في مسلسل الترقية.
فاليوم نحن أمام شهادات و أجوبة عملية و إفرازات و تداعيات واقعية تتبث بالملموس أن الإصلاح محكوم بسقف تنفيذه و أن هذا الخيار أصبح محدودا أمام غياب الإمكانيات وضعف البنيات التحتية لاستيعاب مضامينه وتحسين وضعية أطره وتغيير أنظمته، و أن الإصلاح بهذا الشكل و هذا المضمون سوف يكلف خسائر اجتماعية و سيفتح حسابا تاريخيا وسيشكل عبءا مهنيا أمام غياب الدقة في التصور و الوضوح في منهجية الإعمال، فكيف عسانا أن يكون لمشروع الإصلاح تمثلات في صيغة إصلاحات بنيوية حقيقية و مسطرية هيكلية ووظيفية بعيدا عن ما ألفناه )إشكالية مشروع الرئاسة لتطوير الجامعات والمؤسسات وفضائح الولوج للمناصب والكراسي وصفقات الشراكة العام/خاص……(.
اليوم يتضح أن خطاب الإصلاح لم تكن له اعتبارات دلالية و رمزية و بلاغية و قصدية، فأين هي مصداقية عناوين الخطاب الرسمي ؟ عنوان إدماج الجامعة في محيطها السوسيو اقتصادي، عنوان التكوين يساوي التشغيل و التكوين مدى الحياة ، جودة التكوين، حكامة التدبير، دمقرطة المؤسسات، استقلالية القرار الجامعي و الحرية الأكاديمية ….الخ. سيكولوجيا ، نحن في حاجة إلى إحداث قطيعة مع الغموض و مع الأساليب التقليدية، و عمليا نحن في حاجة إلى خلق مسلك وازن على مستوى الانفتاح و الحوار و التواصل و التدبير بالتشارك لأن مصيبتنا دائما في استعارة و استنساخ النماذج الفاشلة وفي احتضانها و تبنيها و الدفاع عنها مع ما يفرزه هذا السلوك من إشكاليات في المرجعية و التمثيلية و في مسلسل الأجراة و الإنجاز و في طبيعة العقلية السائدة للمسؤولين و التي لا تمتلك الحد الأدنى من تقنيات و مهارات التسيير الإداري للمؤسسات الجامعية حيث تبقى الكلفة الحقيقية لهذا الإصلاح برواده و رؤسائه و عمدائه هو الدمار الفكري وضرب الدماغ لأننا لا نريد الخروج من دائرة التراجع و الفشل و نحن أمام تحديات كبرى و رهانات تتمحور حول بناء الإنسان و التأسيس لمجتمع المعرفة و تحقيق التنمية البشرية وهندسة نموذجها و صناعة الشخصية المتوازنة من خلال التأطير و التنظيم و التوجيه، شخصية قادرة على اتخاذ المبادرة و صناعة القرار الصحيح و السليم، شخصية متكاملة و منسجمة مع ذاتها من خلال تحقيق رغبتها في التحصيل و البحث و زيادة قدراتها على امتلاك المعرفة و تطويرها و تحديثها و إعادة إنتاجها من جديد.
من هنا نتساءل هل لدينا الأداة و العقل و الفضاء المنتج للمعرفة و هل هناك تمثلات لهذه المعرفة و آليات لتحريكها و توظيفها علما أن مصدر المعرفة هو البحث العلمي فبدونه أضحينا مستهلكين للأفكار و للمعارف و لسنا منتجين لها. فمشهد البحث العلمي هو الآخر يتشكل و يعرف مخاضا في ظل الحديث عن الإصلاح و علينا أن نكون بداخله و أن تكون لنا مواقف فكرية من المستجدات التي يفرزها هذا المشهد بشكل سريع و متلاحق، كي نساهم من موقعنا في ولادة عناصر القوة و الإرادة، فكل مخاض هو مؤشر للولادة، والمولود هذه المرة لا ينبغي أن يكون معاقا رغم أن التحاليل القبلية تؤشر على ذالك ، فالمشهد هو أيضا مفتوح على ثغرات تحت عناوين متعددة منها ما هو هيكلي و تنظيمي ووظيفي وقانوني ومسطري.
فمشاكل اليوم هي إشكاليات في الغد، و الإشكاليات قد تنتقل إلى أزمات بعد الغد. خيارنا كأساتذة باحثين في الجامعة واضح هو الالتزام بإصلاح حقيقي واقعي وبرؤية شمولية واضحة، و نعرف ماذا نريد إنها الإمكانيات و الأدوات و لا تنقصنا الكفاءات و الخبرات، و على الآخر و نعني بذالك الجهات الوصية و المجالس المحلية و قطاعات الإنتاج و الأطراف الأخرى المكونة للمحيط أن تختار و تقر ماذا تريد، همنا في ذالك و الجميع يشاركنا فيه هو الارتقاء بالأداء إلى مستوى أفضل و هذا هدفنا ، مع تفعيل التدبير بالتشارك و هذا عنواننا ، و تكريس مبدأ الديمقراطية و الاستقلالية الأكاديمية في صناعة القرار وهذا خيارنا ، والالتزام بالوضوح و الشفافية في التدبير المالي و الإداري و هذا مقصدنا و تثبيت مفاهيم التقييم و التقويم المنتظم مع الاستطلاع الدوري للفاعلين و هذه وسيلتنا مع القطع مع المحسوبية والزبونية والإنتماءات الإيديولوجية في توزيع مناصب التسيير والمسؤولية مع تفعيل آليات المتابعة والمحاسبة وووووووو.
هكذا فان أي تعامل مع الجامعة ينبغي أن يأتي احتراما لدورها و لمعناها و لوظيفتها كجامعة وطنية و فضاء لبناء الإنسان و محضن للتنمية و صناعة المحيط و ليس كمؤسسة عمومية قابلة للإفلاس في أفق تسريح مستخدميها و تفويت عقاراتها للخواص. للتذكير فالإصلاح ليس مسؤولية السيد المعالي أو رئيس الجامعة أو عميد المؤسسة و إنما هو مسؤولية وطنية و مشروع مجتمع يقتضي وجوب تحقق الاستقرار المهني و عدم العبث بالإطار القانون للجامعة ) مؤسسة عمومية ( و بالوضعية الإدارية للأستاذ الباحث )مستخدم( وعدم فرض الفاسدين على رأس المؤسسات الجامعية. و في الختام و ليس أخيرا تبقى هناك مجموعة من الأسئلة المطروحة و القضايا العالقة والحارقة التي تحتاج إلى إجابات واضحة و صريحة أمام ما يفرزه الواقع بشكل سريع من عبث واستعجال واختزال و ارتجال:
- سؤال التقييم و التقويم لمنظومة “LMD” التي لم تستنفذ بعد أغراضها.
- سؤال التدقيق المالي و الإفتحاص الإداري في سياق ربط المسؤولية بالمحاسبة.
- مساءلة مشاريع الرؤساء و العمداء على مستوى الانجاز و الإخفاق.
- سؤال التعقيدات الممنهجة لوزارة المالية في صرف ميزانية الجامعة.
- سؤال الهيكلة الإدارية و التأهيل الإداري و التحديث والحكامة الإدارية وليس مشروع التصميم المديري التحكمي الذي يعكس الرغبة الجامحة في تركيز الصلاحيات.
- سؤال تفعيل الأجهزة الجامعية بما يفيد الحوار التواصلي و التدبير التشاركي وعدم المساس باستقلالية القرار الجامعي.
- غياب الإمكانيات و الأدوات و ضعف البنى الارتكازية لاستيعاب أي إصلاح جامعي.
- الدور الباهت و الغياب المستمر للأعضاء بحكم القانون في الأجهزة الجامعية.
- سؤال صدقية الحديث عن مبدأ الاستقلالية و الديمقراطية و الحرية الأكاديمية.
- استهداف البحث العلمي بهيكلة للعبث العلمي وبضريبة قهرية على الراتب الشهري تعتبر وصمة عار على جبين الجهات الرسمية.
- سؤال التوظيف و الخصاص في الموارد البشرية التي تم استنزافها تحت غطاء المغادرة الطوعية ومناصب التحويل ومحاولة ترسيم أنظمة التعاقد الجامعي.
- سؤال الجودة المفقودة و الحكامة في التبذير )عفوا إنه سوء التدبير( …الخ
الأسئلة كثيرة و متعددة بتعداد الأخطاء المنبثقة عن عملية أجرأة أي إصلاح، أخطاء ترقى إلى مستوى صياغة و تأليف ما يسمى “ديوان أسئلة الإصلاح الجامعي” في أفق إصلاح ما تم إصلاحه بحثا عن الإصلاح والأصلح تحقيقا لمفهوم الصلاح. وفي الأخير إسألوا الجامعات الخاصة (الأخوين – الرباط – بنجرير – فاس وووووو) هل لديها القابلية المؤسساتية لإعمال مشروع الباشلور باسم الإصلاح الجامعي أم أن السياسة التعليمية أضحت سياستين إحداهما خاصة لصناعة القيادة والأخرى عامة لإيجاد قاعدة نستدعيها فقط للحفاظ على السيادة.
أستاذ بكلية العلوم – جامعة محمد الخامس الرباط
تعليقات الزوار ( 0 )