دوما ما يدور في ذهني خلاصة سطرها المفكر المغربي عبد الله العروي في كتابه نظرية الدولة مفادها أن المسلمين أو لنقل ”العرب“ لديهم إشكال كبير في استيعاب مفهوم أو نظرية الدولة كما هو الحال في الحضارة الغربية، حيث تجد دوما ان هنالك من يتربص بالسلطة السياسية ويحاول الإجهاز عليها في الوقت المناسب. فالدولة بالتالي حسب هذا الفهم تحمل في طياتها مجموعة من الأطياف التي تتربص و تحاول الإجهاز على بعضها البعض رغم المظهر العام ذي الطابع الحداثي الذي يبين قبول هذه السلطة أو تلك بقواعد اللعبة السياسية.
سنوات عديدة مضت ولم أرجع لهذا الكتاب المهم ولكن ظلت خلاصته السابقة ترن في أذني عندما أتابع الأوضاع السياسية في السودان، حيث تجد أن الكل متربص بالآخر ويريد الانقضاض عليه لاستلام السلطة منذ استقلال البلاد حتى الوقت الراهن، وهو ما أدى في الأخير الى فشل الدولة الوطنية كانعكاس طبيعي لفشل النخبة السياسية في وضع تصور واضح للدولة السودانية وللنظام السياسي ومستلزماته وأسسه التى تستوجب توافق الكل السياسي عليها، ومن ثم العمل داخل وعاء الدولة المتفق على أبعاده بين الجميع .ولكن الملاحظ هو أن الدولة ككيان يجمع الكل لا مكان لها في التجربة السودانية فالدولة عند البعض ليست سوى أداة في يد قلة من المنتفعين وبالتالي يجب التمرد و حمل السلاح ضدها وفي الجانب الآخر من يحكم بزمام السلطة يرى في الآخر خائن وعميل يجب الإجهاز عليه أو تطويعه للدخول فى بيت طاعة السلطة الحاكمة بشتى الوسائل الممكنة وهكذا دواليك منذ أن نشأت الدولة الحديثة بعد الاستقلال وحتى اليوم.
الخطاب السياسي العدمي وتكريس فكرة غياب مفهوم الدولة كمثال كان هو العنوان الأبرز في مرحلة الحكم الاطول في تاريخ السودان الحديث والذي استمر زهاء الثلاثين عاما (فترة الانقاذ) وهو ما ثبت فى ذهني فكرة غياب مفهوم الدولة عند ”النخبة السياسية“ التى أدارت شؤون البلاد طوال هذه المدة حيث تماهت الدولة في الحزب الحاكم وذابت مؤسساتها في فلكه واعتبرت كل الأصوات المعارضة نشازا بل أضحت السلطة الحاكمة وعبر نخبها تعتبر أن نهاية الدولة الحاكمة ستكون بنهاية العالم ذاته وأنهم سيتركونها ويسلمونها للمسيح عليه السلام، ووصف آخر أن امتلاكهم السلطة لن يتغير حتى يستطيع كل معارض لهم فى هذه الدولة من لعق ”كوعه“ بمعنى انهم قرروا نيابة عن أجيال قادمة شكل ونظام الدولة وأهدافها الى أن ينزل المسيح عليه السلام وكأنهم يتحدثون عن ملكية خاصة ما دام أنهم الطرف القوي داخل الساحة السياسية فى هذا الوقت. وبالتالي في ظل هكذا خطاب سياسي سيكون الحديث عن مصطلحات التنافسية السياسية وصناديق الاقتراع والاختيار الحر التعددية الحزبية والمشاركة السياسية مجرد ترف سياسي لا معنى له وهذا ما جعل المعارضين يتماشون مع هذه السلطة كأمر واقع مع رفضها جملة وتفصيلا داخليا وانتظار لحظة الإجهاز عليها وهو الهدف المراد تحقيقه آجلا أم عاجلا.
وبالتالي يضعون الهدف فوق الدولة الفعلية، و فوق جهاز الدولة الحديث، ويتعاملون مع الدولة الفعلية كأداة على الأكثر لهذا الهدف حسب تعبير عبد الله العروي، وهكذا دواليك عاش السودان تجربته السياسية مع الدولة منذ خروج المستعمر وحتى اللحظة الراهنة، وبالتالي يطرح التساؤل الاشكالي فى ظل هكذا وضع هل ثمة مخرج من هذه الاستمرارية التاريخية فى مجاراة الواقع جبرا وطوباوية من ينكرون هذا الواقع؟
لاشك أن الوعى ووضع الأصبع على الجرح وتشخيص مسبباته هو الخطوة الأولى التى ستقود بلا شك إلى خطوات أخرى ستوضح بجلاء كيف يجب أن يحكم هذا البلد وليس من يحكمه هذا من جانب، ومن جانب آخر اذا لم تحسم إشكالية الهوية بشكل واضح لا مواربة فيه فسيكون فى تصورى الخاص أن كل حل سياسي سيبقى مجرد مسكن أو لنقل ترقيعات لن تفي بالغرض.
كذلك من غير المعقول والمقبول أن بلدا نال استقلاله في خمسينيات القرن الماضي يتغير دستوره أكثر من أربع أو خمس مرات وبالتالي لا وجود لدستور دائم يوضح كيفية حكم هذا البلد حيث جرت العادة ان يقوم كل من يصل لسدة الحكم بوضع دستوره على مقاس نظامه السياسي الذي يمكن له أدوات الاستمرار عبره.
لا شك إذن أن تحديات استيعاب دور الدولة كحاضنة لجميع الجماعات السياسية داخلها دون تمييز أو تحيز ومن ثم جعل السلطة السياسية التى تدير شؤون هذه الدولة رهينة بقرار مالكي السيادة الحقيقين عبر هيئة الناخبين هو الطريق المباشر الذي يجعل من الدولة وعاء يجمع الكل في بوتقة واحدة ومن ثم فلن يكون هنالك تناقض بين العيش في هذا الدولة واقعيا والانفصال عنها ذهنيا وجعلها قنطرة للوصول للدولة الفاضلة وبالتالى انتظار الفرصة السانحة للانقضاض على السلطة وإحداث التغيير الجذري حسب العقيدة أو الأيديولوجية التى تحرك هؤلاء.
هذه الدائرة الجهنمية هى المأزق الذي طال استمراره زهاء الستين عاما بالسودان فهل آن الأوان للتفكير بعقلانية ووطنية صادقة، والاتفاق على طرح السؤال الجوهري حول كيف يحكم السودان كدولة وليس من يحكمه؟
باحث فى العلوم الدستورية والسياسية، كاليفورنيا – الولايات المتحدة الأمريكية
تعليقات الزوار ( 0 )