شهد المغرب يوم الأربعاء 8 شتنبر الجاري انتخابات جماعية وتشريعية استثنائية بالنظر للظروف التي جَرَت فيها، وبالتحديات الداخلية والخارجية التي أحاطت بها، وبالنتائج التي تمخضت عنها. وهي بهذه الخصوصية لا يمكن إجمال القول فيها، وعليها في مقالة او بحث.. فالحديث في هذه الانتخابات وما جرى فيها، وما سيترتب عنها في المستقبل متشعب، وممتد في الزمان، ولن ينته بنهاية شهر شتنبر أو أكتوبر، بل سيستمر لمدة ليست بالقصيرة. وسنحاول في هذه المقالة –فقط– تعقل ما جرى يوم الثامن من شتنبر، وليلة التاسع منه، وتقديم إطار نظري لفهم موضوعي، بعيدا عن الزخات العاطفية التي تعج بها وسائل التواصل الاجتماعي والتصريحات الصحفية المقتضبة، والتي قد تُخلِّف أضرارا بليغة بالوعي الشعبي، وبالمسير الديموقراطي المغربي.
1- في الواقعة
تمخضت الانتخابات الجماعية والتشريعية التي شهدها المغرب يوم 8 شتنبر من الشهر الجاري عن نتائج صادمة، ومثيرة، تمثل جانب منها في الهزيمة القاسية التي تكبدها حزب العدالة والتنمية الإسلامي الذي كان يقود الحكومة المغربية لولايتين متتاليتين، حيث انتقل من الرتبة الأولى بـ 125 مقعد في الانتخابات السابقة (2016) إلى الرتبة الثامنة بـ 13 مقعدا في الانتخابات التي جرت (2021). وقد اعتبر الكثير من المتتبعين في الداخل والخارج، وبسرعة أن هذه النتائج هي عقاب قاس ومستحق من الناخبين والشعب المغربي لحزب العدالة والتنمية على سياساته الظالمة والخرقاء داخليا وخارجيا، فالحزب أنهك الطبقة الوسطى، ونال من امتيازاتها، وعجز عن تحقيق وعوده في محاربة الفساد، والتقدم في الإصلاح، وتخلى عن مبادئه وهويته الإيديولوجية بمباركته التطبيع مع إسرائيل، وعدم اكتراثه بقضايا الهوية والمرجعية.. ومن ناحية أخرى اعتبر آخرون هذه الحصيلة نتيجة طبيعية للترهل وحالة العياء التي أصابت حزب العدالة والتنمية بعد عشر سنوات من المشاركة في الحكم، والتي تمثل بعضها في النزاع والصراع الداخلي المدمر الذي عاشه الحزب في الخمس سنوات الماضية، ومن ثمّ، فالحزب استحق هذه الهزيمة المذلة، والمهينة.
2- في الحقيقة
إن حزب العدالة والتنمية انهزم، وكان يجب عليه أن يغادر السلطة بنفس الطريقة التي تولاها، فالناخبون هم من اختاروه، وكان عليهم إخراجه منها. وكان متوقعا لأسباب عديدة ذكرنا بعضها في الفقرة السابقة أن حزب العدالة والتنمية لن يحتل الرتبة الأولى في انتخابات الثامن من شتنبر. وكانت ستكون رسالة سياسية خاطئة، وسيئة لا تقل سوءا عن النتائج التي حصل عليها، لو احتل مرّة أخرى الرتبة الأولى، وأعيد ثانية من جديد إلى السلطة.
لكن السؤال المطروح: هل كان الناخب المغربي عازما على إسقاط حزب العدالة والتنمية؟ هل المؤشرات والاستطلاعات التي سبقت استحقاق 8 من شتنبر بما فيها تلك التي سهرت عليها أجهزة السلطة كانت تؤكد ذلك؟. لا أظن، لأسباب كثيرة، من أهمها أن عملية إعداد اللوائح الانتخابية سواء فيما يتعلق بالمسجلين الجدد أو التشطيب على بعض المسجلين، والقانون الانتخابي الذي تمّ إخراجه لتأطير هذه العملية (القاسم الانتخابي، التراجع عن نظام اللائحة في بعض الجماعات (المحافظات))، والعديد من الإجراءات الأخرى التي سبقت الانتخابات، أو التي رافقتها كانت الغاية منها إضعاف احتمالات فوز حزب العدالة والتنمية، كما تدل أيضا على عدم الثقة في صوت الناخب كونه قادرا على القيام بهذه المهمة.
وهكذا، فـ «التدخل الناعم» للدولة في العملية السياسية بالمغرب أمر مفهوم، وواضح، وحتى حزب العدالة والتنمية يغض الطرف عنه، بل يتجاوب معه إلى حد ما، وبدرجة ما، فالمغرب ليس بلدا ديموقراطيا عريقا شأنه شأن البلدان الأوروبية، وتعتور ديموقراطيته عدد من العيوب والنواقص بعضها ثقافي، والآخر اجتماعي-اقتصادي، والبعض الآخر سياسي، ولا يمكن بحال من الأحوال بناء تجربة ديموقراطية ناضجة دون عملية تحول تاريخي، هادئ، وتمرين ديموقراطي بيداغوجي ممتد في الزمان تحت رعاية سلطة ذات مصداقية، وهي في الحالة المغربية الملكية.
ومن ثمّ، فقد ساهم هذا «التدخل الناعم» ليس في تحقيق الهدف الرئيس وهو إلحاق الهزيمة بحزب العدالة والتنمية، بل أكثر من ذلك، كاد أن يستأصله، ويخرجه من المشهد السياسي بشكل كلّي وشامل. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا السياق: هل كان «أهل الحلّ والعقد» في هذا الباب يقصدون هذا الأمر أم أنه فاجأهم هم كذلك، وربما أخطأوا في تقدير قوة الحزب، ووجهوا له ضربة أكبر من طاقته؟. لا أستطيع مبدئيا المغامرة بجواب عن هذا السؤال، وستبدي لنا الأيام المقبلة حقيقة ما جرى.
ومن ثمّ، فإذا كانت الهزيمة متوقعة، ومفهومة، ومن مؤشرات سلامة ونضج التجربة الديموقراطية في المغرب، أو على الأقل هكذا نريد أن نقنع أنفسنا والعالم من حولنا، فإن غير المفهوم، والخارق، هو «الإذلال»، والحصيلة الصادمة، التي أذهلت الجميع بما فيهم خصوم الحزب، ومعارضيه، فلم يتوقع أحد أن يُهزم حزب العدالة والتنمية بهذه الصورة، فأي دور كان للدولة فيما جرى؟
3- الدولة المغربية والديموقراطية
إن الحديث عن إشكالية التحول أو الانتقال الديموقراطي في المغرب ودور الدولة في سياقه موضوع كلاسيكي في الفكر السياسي المغربي، وأنتجت في إطاره أدبيات كثيرة، وغنية، ولسنا بصدد مراجعتها في هذا المقام، لكن الذي نود التأكيد عليه في هذا السياق، هو السؤال المركزي التالي: هل الدولة المغربية تمتلك نظرية سياسية أو تتبنى نظرية ما في الدولة والديموقراطية؟ وهل الدولة مطالبة بمثل هذه النظرية أم أنها مسؤولية المجتمع السياسي والنخب السياسية؟ هل مثلها الأعلى في الدولة والديموقراطية النموذج الليبرالي أم أنظمة الجدارة التي تثبت يوما بعد آخر أنها أكثر فعالية ونجاعة في تحقيق أهداف التقدم والتنمية؟
للأسف، البحث عن أجوبة لهذه الأسئلة في خطاب الدولة والفاعلين السياسيين بالمغرب غير مجد، ومضلل، ولعل آخر مؤشرات هذا التيه هو وثيقة «النموذج التنموي»، التي نأت بنفسها عن الخوض في النظرية، وأنتجت خطابا تقنيا، يخلو من الفلسفة، ومحدود الخيال. ومن ثمّ نجد الخطاب السياسي الرسمي يتأرجح عمليا بين ثلاث نظريات:
– نظرية الجدارة (Meritocracy): تَختزلُ الدولة -استنادا إلى هذه النظرية- مَهَمَّة الأحزاب والفاعلين السياسيين في تخريج الكفاءات وانتخابها لدعم أدائها، وفعاليتها، وإنتاجيتها، فالدولة لها مشروع، وعلى الجميع الانخراط في تنفيذه، وأنها ليست بحاجة إلى مشاريع وبرامج حزبية، بل هي في حاجة فقط إلى أدوات تنفيذ كفأة؛
– النظرية السياسية الليبرالية: تحمل الدولة الأحزاب -بموجب هذه النظرية- مسؤولية صناعة النخب السياسية، وإنتاج الأفكار، والبرامج.. وأنها مسؤولة عن الأداء السياسي للدولة، ويجب أن تتحمل مسؤوليتها خيرا أو شرا عن الحصيلة والنتائج؛
– النظرية المخزنية: إن ممارسات الدولة في الكثير من الأحيان تبدو ممارسة مخزنية عتيقة، تحتكر فيها الأجهزة التقليدية للمخزن السلطة بدءا من المقدمين، والقواد، والباشوات، والولاة..، فيما يقع كل الطيف السياسي والمؤسسات المنتخبة على الهامش..
ومن ثمّ، فالعملية الديموقراطية في الدولة المغربية معقدة، ومرتبكة، وترجع أسباب التعقيد والارتباك هاته إلى ثلاث عوامل: الأول؛ كونها مطلب كلاسيكي في الفكر السياسي الوطني منذ الاستعمار، لدى الحركة الوطنية وكل الأحزاب التي خرجت من رحمها وإلى اليوم، ثانيا؛ تحمل الدولة المسؤولية الأخلاقية والسياسية في سوق البلد نحو مثالها الديموقراطي في ظل معطيات سياسية وثقافية، وسوسيواقتصادية داخلية صعبة، وفي ظروف إقليمية ودولية، تعوق مشروع الدمقرطة، وثالثا؛ الاضطراب النظري لدى الدولة والنخب في الجواب عن سؤال أي ديموقراطية نريد، وما هي الاختيارات الاستراتيجية في هذا الشأن.
وبالتالي، فالاضطراب الذي يظهر على «العقل السياسي للدولة» فيما يتعلق بالمثال الديموقراطي الذي نصبو إليه من جهة، والمسؤوليات السياسية والأخلاقية التي تتحملّها، والتي تمنحها حق التدخل لبناء نظام سياسي فعال ومستقر من جهة ثانية يؤدي إلى مشكلتين عويصتين:
الأولى، اختلال وضبابية شروط الانتماء لـ «الحقل السياسي الرسمي»، وخاصة على المستوى الإيديولوجي، ولا أدل على ذلك حالة حزب العدالة والتنمية، فأحيانا يبدو كحزب وطني، وتعبير عن حساسية سياسية وفكرية في المشهد السياسي المغربي لا بد منها، وأحيانا أخرى، يبدو عبأ ثقيلا على الدولة، وجب التخلص منه..؛
والمشكلة الثانية، الشطط في استعمال حق التدخل، إلى درجة قد يبدو معه استئصال بعض الكيانات السياسية ضرورة سياسية، وعمل شرعي مطلوب..
ومن ثمّ، ما أصاب حزب العدالة والتنمية ليلة الثامن والتاسع من شتنبر يعبر في العمق عن الأزمة المزمنة التي تعاني منها الدولة المغربية في علاقتها بالديموقراطية، واضطرابها وترددها النظري بين عدّة خيارات.
4- هل لا زالت الدولة المغربية بحاجة لحزب العدالة والتنمية
إن حزب العدالة والتنمية لأسباب كثيرة كان حزبا مزعجا للدولة في العهد الجديد، وربما يتصور الكثير من أركان الدولة أن المغرب سيكون أفضل بدونه، وقد تتبع الجميع الضغوط التي مورست على حزب العدالة في «العهد الجيد»، والإكراهات التي مر بها. ولم يكن أحدا قبل سنة 2011 يتصور هذا الحزب الإسلامي في الحكومة، لكن أحداث «الربيع العربي» والموقف الذي اتخذه الحزب من حركة 20 فبراير، وانحيازه الواضح للدولة، واستثماره لكل رصيده الشعبي، وامتداداته الاجتماعية، والثقافية.. من أجل عبور العاصفة بسلام، غير من قناعة الدولة اتجاه هذا الحزب، أو اضطرها إلى ذلك، حيث فسحت له المجال للدخول إلى مربع السلطة. وقد ساهم الحزب خلال عشر سنوات التي أعقبت هزّة «الربيع العربي» في تأمين الاستقرار السياسي للدولة، وأبان عن نضج استثنائي طيلة المرحلة، كما ساهم وهذا الأهم في تسهيل، وتمرير عدد من الإصلاحات الهيكلية، والمؤلمة، والضرورية –أيضا- لاستعادة التوازن المالي للدولة.. إلخ.
لكن اليوم؛ ومع نتائج انتخابات 8 شتنبر أي رسالة سياسية توجهها الدولة لهذا الحزب؟ هل يفهم مما حصل، أن الدولة تنكرت لكل الخدمات التي أسداها العدالة والتنمية لها، وتطالبه الآن بالعودة من حيث أتى، والرجوع إلى الوضع الذي كان عليه قبل 2011، وقتله تدريجيا في الهامش، أم أن الأمر لا يعدو أن يكون تكتيكا مرحليا، اقتضته الضرورة، وللضرورة أحكامها، أم أن الأمر يتعلق بخطأ غير مقصود (الإهانة) ربما تتم معالجته في المناسبات القادمة؟
لا يستطيع أحد الجزم بجواب معين، وأقصى ما قد نعثر عليه في هذا السياق تخمينات، أو في أحسن الأحوال تحليل تتأرجح مصداقيته بحسب المعطيات المستثمرة. ولا نريد أن نستبق التاريخ في هذا السياق، ونكتب «رواية 2026» على غرار «جورج أرويل»، لكن الذي نرى التذكير به وجيها في هذه المناسبة هو جملة من الخسائر الواضحة التي ستخسرها الدولة بإقصاء حزب العدالة والتنمية من المشهد:
– ستفقد المؤسسات المنتخبة قدرا معتبرا من شرعيتها التمثيلية، التي اكتسبتها في العشر سنوات الماضية، والتي تدركها الدولة حق الإدراك، وستُفْقَدُ معها الإثارة السياسية التي تحتاجها الديموقراطية، فتحويل البرلمان، واللجان، والجهات، والجماعات المحلية إلى مؤسسات تنفيذية يُسيطر عليها التقنوقراط والأعيان، سيضعف هذه المؤسسات، وسيدفع بالإدارة و«أجهزة السلطة» إلى ممارسة الحكم بدل السياسيين، وهو أمر بالغ الخطورة على مستقبل الدولة واستقرارها؛
– ستفقد الدولة مدافعا صادقا وشرسا عن السياسات العمومية في الإعلام، ووسائل التواصل الاجتماعي، الشيء الذي سيزيد من الاحتقان السياسي، والاجتماعي، والحقوقي في البلد، حيث ستتحول معارضة العدالة والتنمية تدريجيا إلى معارضة شعبوية، ستسهم إلى جانب قوى أخرى في تأزيم الوضع، أو على الأقل التزام حياد سلبي اتجاه التوترات السياسية والاجتماعية القادمة؛
– تبديد رصيد المصداقية الذي اكتسبه التيار المعتدل داخل حزب العدالة والتنمية، ودفع الحزب إلى نوع من التطرف في الخطاب والممارسة، مدفوعا بمشاعر الإحباط واليأس من العملية السياسية؛
– تعزيز خطاب التشدد السياسي، وإضعاف خطاب المشاركة السياسية ونظرية الإصلاح من الداخل، ومن ثم، إفقاد المغرب الإشعاع السياسي الذي اكتسبه في السنين الأخيرة باعتباره نموذجا ناجحا لإدماج الإسلاميين في الحياة السياسية؛
– إضعاف التوافق السياسي، والزخم اللازم لتنزيل «النموذج التنموي»، الذي سيشرع المغرب في تنزيله في الولاية الحكومية التالية..
***
وأخيرا؛ إن هذه الخسائر المحتملة في ضوء هذا القراءة/التحليل ليست قدرا حتميا، بل يمكن التخفيف منها أو تجاوز بعضها من خلال تغليب المصلحة الوطنية، والتحلّي بخصال المسؤولية، وترجيح المصالح العليا للوطن على المصلحة الحزبية، والإسهام الإيجابي في إنضاج الاختيار الديموقراطي للبلد، وأيضا من خلال مراجعة الدولة لتعاملها مع الحزب الإسلامي، وتبديد سوء الفهم الناجم عن ليلة التاسع من شتنبر. وقيادة حزب العدالة والتنمية من جهتها –وكما عودتنا في الظروف واللحظات الصعبة- لها القدرة على امتصاص هذه الضربة، والتأقلم مع الأوضاع من أجل تجاوز هذه اللحظة الصعبة التي يمر بها. وفي هذا السياق لا بد من تذكيرها –وهي ليست بحاجة إلى ذلك- بالتمسك بالثقة في الملكية باعتبارها رمز الوحدة، والحريصة والمستأمنة على «صيانة الاختيار الديموقراطي»، فالمغرب قد يتعرض لضغوط وإكراهات -ربما لا يمكن الجهر بها أو الخوض علنا فيها- قد تضطره لإيلام بعض أبنائه، والدواء الوحيد لهذه الآلام هو الثقة. وكان هذا دأب الحركة الوطنية، وسر نجاح «ثورة الملك والشعب» التي كان من ثمارها تحقيق الاستقلال، وهو النهج الذي نجح به المغرب في الماضي، وسينجح به في المستقبل، والذي لا يجب الحياد عنه، ومن حاد عنه هلك.
*أستاذ التاريخ والفكر السياسي/المغرب
تعليقات الزوار ( 0 )