ورد في أحد التعليقات على مقالتي حول «تداعيات التطبيع» أن الدعوة إلى «نبذ الفرقة قديمة. وفي كل مرة يتحقق مزيد من التشرذم. تغيير الحكام لم يأت بنتيجة فما الحل القابل للتحقق»؟ إذا اتفقنا على أن الهدف المركزي لأمريكا وإسرائيل والغرب هو فرض المزيد من الفرقة بين الدول العربية لتحقيق مآربهم في المنطقة، تصبح للسؤال وجاهته وأهميته. أما إذا كنا نفكر بطريقة مختلفة، سنظل تائهين في البحث عن أسباب تخلفنا، وإدراك العوامل التي تؤدي إلى المزيد من الانتكاسات، والتراجعات التي نراكمها إلى الآن.
إذا اعتبرنا «نبذ الفرقة» يعني «الوحدة» علينا أن نتساءل كيف فهمت الوحدة؟ وكيف مورست في تاريخنا الحديث؟ وإذا كانت هذه الدعوة قديمة، فهل بطلت بقدمها، أم أن إعادة التفكير فيها، والسؤال بصددها، هنا والآن، من منظور جديد، يظل هاجسا مركزيا، يمكن أن يسهم في تجاوز الذهنيات التي ظلت تفكر، وتتناول واقعنا بدون تصور منهجي أو رؤية ملائمة.
إن أي تفكير في أي حدث، لا ينطلق من التاريخ أعور، وكل تشخيص لا ينبني على الواقع أعرج. إن طرح فكرة «الوحدة» في التاريخ العربي قديمة جدا. فمنذ سقوط الخلافة والأندلس، وشعار الوحدة مطروح. ومع الاستعمار فرض نفسه داخل كل قطر عربي لمواجهة المستعمر، ومع احتلال فلسطين وهزيمة 1967، اتخذ بعدا جديدا، مع مناهضة الإمبريالية والصهيونية، لكن لماذا لم تتحقق أي من هذه الدعوات إلى الوحدة، وهي تنادي تارة بـ«الخلافة الإسلامية» وطورا بـ«القومية العربية»؟
للجواب على هذا السؤال، لا بد لنا من النظر في عوامل التجزئة، هنا والآن، (كحدث أو فعل مركزي) وفي مطالب الوحدة ليس كحدث، ولكن كرد فعل على ذاك الفعل (الحدث) المركزي. فما الذي يجعل «الوحدة» رد فعل، وليست فعلا؟ تاريخيا تشكلت الوحدة (باعتبارها حدثا) مع الإسلام الذي وحّد ما يسمى الآن منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا، فتشكلت أمة واحدة، وثقافة عربية ـ إسلامية ساهمت فيها كل شعوب المنطقة، فصارت بذلك تمثل ذهنية وتصورا خاصا للعالم. هذه الذهنية هي التي واجهت الصليبيين والمغول، وبعد ذلك الإسبان والبرتغال. وشكّلت بذلك رصيدا تاريخيا لمتخيل مشترك، ظل مستمرا إلى الآن. ورغم ما جرى من تفكك لعرى تلك الأمة سياسيا واقتصاديا مع التطور التاريخي، الذي تدخلت فيه عوامل داخلية وخارجية، تحولت الوحدة «فكرة» أو حلما، وأمست التجزئة «واقعا». لذلك يمكننا القول: إن عوامل التجزئة أصبحت ذات بعد أيديولوجي ـ سياسي. أما مطالب الوحدة فباتت ذات بعد اجتماعي ـ ثقافي.
ساهم الصراع على السلطة، داخليا، في بروز الممالك والإمارات وملوك الطوائف إلى حد الاستعانة بالأجنبي. ومارس الاستعمار، خارجيا، التجزئة بعد ذلك بإقامة الحدود بين البلاد العربية، فكان أن تكرست باعتبارها فعلا أو حدثا مركزيا. وتمثل ذلك في زرع الكيان الصهيوني في المنطقة ليكون الأداة الأقوى لممارسة المغالبة ضد الوجود العربي، عن طريق تمزيق أوصاله.
فجاءت مطالب الوحدة ردود فعل على ذاك الفعل الذي أنجزه الاستعمار القديم والجديد. لكن كيف مورست فكرة الوحدة، أو الحلم بها، وهي تعمل على مقاومة التجزئة؟ استغلت الدولة «الوطنية» بعد الاستقلال أو الانقلاب، البعد الاجتماعي ـ الثقافي للوحدة لتوظفه أيديولوجيا لخدمة نظامها السياسي. فتحولت إلى شعارات سياسية وأيديولوجية للاستهلاك وإسكات صوت الشعب، وهو يطالب بالعدالة الاجتماعية، ويحلم بالوحدة التي تحقق الرفاه للجميع. ومع ذلك كانت الدعوة إلى الوحدة المصرية السورية (1958) في مرحلة، وفي أخرى، مجلس التعاون الخليجي (1981) واتحاد المغرب العربي (1989) في مرحلة ثالثة. أين انتهت هذه التجارب؟ لن أناقش الأسباب والمقاصد، ولكني أطرح أسئلة من قبيل كيف تتكون الجمهورية العربية المتحدة بين سوريا ومصر بدون السودان ولبنان؟ وكيف يتشكل مجلس يحدد بالخليجي ليستثنى منه العراق واليمن؟ وأنى لاتحاد مغربي عربي ساهمت ليبيا والجزائر في تجزئته، حتى قبل تشكله أن يتحقق بذريعة تقرير مصير دويلة وهمية في الصحراء المغربية؟
ما جرى في التاريخ المعاصر، منذ نهاية الحرب العراقية ـ الإيرانية إلى الآن مرورا بالحرب على العراق، وأحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، والحرب على الإرهاب، والربيع العربي، وما جرى خلاله من اصطفافات ضد «الحلم الشعبي» العربي، لا يسهم إلا في المزيد من ممارسة التجزئة لأسباب سياسية لا تصب إلا في اتجاه خدمة الأنظمة، وفي تعارض تام مع مطالب الوحدة في بعدها الاجتماعي والثقافي.
كيف اشتغل المثقفون والأحزاب والجمعيات في هذا السياق؟ وكيف كانت المقاومة الفلسطينية في هذا المسار؟ كان الجميع منخرطا في المطالبة بالوحدة، باعتبارها شعارا سياسيا وأيديولوجيا، فلم يتولد عن ذلك سوى المزيد من التشرذم والانقسام. ومع الربيع العربي برزت الدعوات العرقية والطائفية والدينية، بمختلف ألوانها لتسهم في تكريس التفرقة والتجزئة بصور جديدة. هذا هو السياق الذي استغلته أمريكا بالدرجة الأولى لتركيع العرب جميعا لممارسة التطبيع مع إسرائيل. الوحدة الثقافية العربية قائمة في الوجدان، لكن يقودها فكر لا تاريخيا ولا واقعيا.
تعليقات الزوار ( 0 )