شارك المقال
  • تم النسخ

النزاع الليبي وخطر التدخل الأجنبي على إيجاد حلّ توافقيّ موحّد

تتجه الأزمة الليبية يوما بعد يوم إلى المزيد من التعقيد على الصعيدين السياسي والعسكري، بالنظر إلى التعنت الذي يبديه طرفا الأزمة لإيجاد حل توافقي يوحد الليبيين. كما أن تدويل النزاع الليبي وسّع دائرة الصراع وزاد من صعوبة إيجاد حل سلمي للأزمة، لكثرة المتدخلين وتضارب مصالح الأطراف المتنازعة.

لقد كان اتفاق الصخيرات قاعدة أساسية لوضع حد للاقتتال والتأسيس لدولة مدنية تقطع مع إرث القذافي، هذا الأخير الذي لم يترك وراءه دولة مؤسسات وهياكل تحافظ على استقرار البلاد، إذ بعد توليه الحكم ألغى جميع المؤسسات من برلمان وأحزاب سياسية، وأصبح هو المشرع والقاضي والمرجع الوحيد في ليبيا وذلك تطبيقا لمفهومه الخاص للاشتراكية.

انهيار نظام القذافي ترك البلاد في فوضى كبيرة وخطيرة، ليس فقط على ليبيا بل على منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط بأكملها. سقوط السلاح بيد القبائل المتطاحنة على الحكم وخروج الجماعات المتطرفة من أوكارها وتوافد أعداد المهاجرين السريين، وشساعة البلاد الغنية بالثروات الطبيعية حيث يصعب التحكم فيها دون وجود سلطة مركزية قوية، كلها عوامل ساهمت في تفاقم الأوضاع في ليبيا والمنطقة، وزاد من خطورتها التدخلات الأجنبية التي ساهمت في إرباك المشهد السياسي وتأزيم الوضع العسكري.

اتفاق الصخيرات كان بمثابة إنجاز كبير والحل المرضي لجميع الفرقاء الليبيين والأساس الذي ستنبني عليه مؤسسات الدولة الليبية الحديثة، حيث تمت المصادقة على تشكيل حكومة وفاق وطنية تقوم على أساس الكفاءة والاحتفاظ بالهيئة التشريعية ممثلة في برلمان طبرق وإنشاء مجلس أعلى للدولة وغير ذلك من الهيئات التي يمكن الرجوع إليها في بنود الاتفاق… غير أن استمرار العمليات المسلحة بين الفرقاء بإيعاز من جهات خارجية حال دون تنزيل الاتفاق بشكل كامل، رغم انبثاق حكومة يترأسها السيد فائز السراج ومعترف بها دوليا ومن طرف الأمم المتحدة، إلا أن اللجوء إلى دول أجنبية من أجل المساعدة العسكرية وإعلان المشير خليفة حفتر عدم التزامه بذلك الاتفاق زاد من سوء الوضع في ليبيا.

تدويل الصراع في ليبيا كان متوقعا ومتعمدا، بل قد بدأ منذ اندلاع الثورة في ليبيا بالنظر إلى الموقع الاستراتيجي جنوب البحر الأبيض المتوسط والثروات الطبيعية التي تتوفر عليها البلاد. حيث تشكل حلف داعم لحفتر متكون من روسيا والإمارات العربية وفرنسا ومصر رغم اختلاف الأهداف إلا أن المصالح توحدت في دعم المشير، وحلف يدعم حكومة فائز السراج تقوده تركيا وقطر وإيطاليا.

الصراع الدولي على ليبيا يتمحور بالأساس حول السيطرة على الساحل الليبي، فروسيا تريد التموقع وسط المتوسط وإنشاء قاعدة عسكرية مقابلة لحلف الشمال الأطلسي تدعم قاعدة طرطوس المتواجدة بسوريا، كما تبحث الإمارات عن إنشاء موانئ جديدة تستكمل بها خطتها لإنشاء طرق بحرية تجارية وهو الأمر الذي تسعى إليه كذلك في تدخلها العسكري في اليمن إلى جانب موقفها من قوى الإسلام السياسي. أما فرنسا فبالإضافة إلى عقود إعادة الإعمار التي تسعى إليها فهي ترى في التواجد التركي في ليبيا منافسة لها في إفريقيا التي تعتبرها حديقتها الخلفية، فالتواجد التركي في المتوسط وبعض الدول الإفريقية أصبح يزعج فرنسا التي بدأ نفوذها يتراجع في المنطقة.

تعتبر مصر من الدول المعنية أكثر بالنزاع المسلح في ليبيا على اعتبار الحدود المشتركة والذي قد يشكل خطرا على أمنها واستقرارها كباقي دول الجوار تونس والجزائر وبشكل أقل المغرب، غير أن تخندق مصر في حلف يدعم طرف على حساب آخر جعل منها وسيطا غير مرحب به، كما أن الخطوة التي أقدمت عليها مصر باستقبال وجهاء بعض القبائل وتعهدها بتسليحهم قد يقوّد الجهود المبذولة من اجل إيجاد حل سلمي للنزاع. زد على ذلك العداء المصري التركي منذ الانقلاب على حكم الرئيس الراحل مرسي، والصراع حول ثروات البحر المتوسط بين مصر واليونان من جهة وتركيا من جهة أخرى قد نقل المعركة إلى الساحة الليبية، وهو ما قد ينذر بمواجهة عسكرية مباشرة بينهما في ليبيا، فإذا كانت تركيا تعتبر النزاع المسلح في سوريا تهديدا لأمنها القومي فكذلك تعتبر مصر النزاع في ليبيا.

انخرطت إيطاليا في الشأن الليبي بحكم القرب الجغرافي وما تعانيه من توافد لأعداد كبيرة من المهاجرين السريين، وكذلك الإرث التاريخي كونها البلد المستعمر، بالإضافة إلى ذلك فليبيا هي المورد الرئيسي لإيطاليا من الغاز الطبيعي والنفط الخام ومحط الاستثمارات الرئيسية لها. وهو ما جعل إيطاليا تبرم اتفاقيات مع حكومة السراج من أجل تدريب البحرية الليبية واتفاقيات تعاون مختلفة، في سباق محتدم مع فرنسا حول صفقات إعادة الإعمار وهو ما جعل البلدان الأوربيان يتبادلان الاتهامات بشأن إغراق أوروبا بالمهاجرين والتنصل من الواجبات اتجاه الاتحاد.

تلعب تركيا دورا رئيسيا في النزاع الليبي حيث نزلت بكل ثقلها من أجل دعم حكومة السراج بداعي أن هذه الأخيرة من طلبت الدعم وهي الممثل الشرعي للشعب الليبي، كما لا يخفى توافق التوجه السياسي لحكومة الوفاق المحسوبة على تيار الإسلام السياسي والنظام التركي الحاكم، وهو ما ستجد فيه تركيا فرصة ذهبية من أجل تثبيت القدم في شمال إفريقيا، من خلال موقع استراتيجي تحاصر به اليونان ومصر، في إطار الصراع الحامي حول ثروات البحر الأبيض المتوسط، بالإضافة إلى ما ستجنيه من ثروات طبيعية من بترول وغاز طبيعي في ليبيا تستند عليه للحفاظ على خط النمو التصاعدي، وجعل ليبيا بوابة للاستقرار في إفريقيا والمنافسة على الاستثمارات داخل القارة السمراء ،حيث انتقل عدد السفارات التركية في إفريقيا من 12 سفارة سنة 2012 إلى 42 سنة 2019، وهو ما يفسر الاهتمام التركي المتزايد بإفريقيا.

تسعى قطر في ليبيا للحفاظ على الحلف القطري التركي الداعم لتيار الإسلام السياسي “الإخوان المسلمين”، فالأهداف القطرية في ليبيا سياسية أكثر منها اقتصادية، وهي مستعدة لدعم حكومة السراج سياسيا وماليا من أجل تضييق الخناق على خصومها. وتبقى الجزائر وتونس بين مطرقة الأزمة السياسية الداخلية وسندان التهديدات الخارجية القادمة من ليبيا، كما أن الجمود الذي يعرفه اتحاد المغرب العربي يشكل عائقا أمام إيجاد حل توافقي تشارك فيه الأطراف المعنية بالنزاع في ليبيا، بل انعكس ذلك الجمود والتشتت على المبادرات الإقليمية الخاصة بالأزمة الليبية والتي يبقى أهمها اتفاقية الصخيرات. إذ قامت الجزائر بدعوة الأطراف الليبية المتنازعة من أجل التفاوض غير أن مبادرتها لم تلقى النجاح المنشود، فعدم دعوة الأطراف الرئيسية كتركيا ومصر والتنسيق مع القوى الكبرى الولايات المتحدة فرنسا وروسيا في أي مبادرة سيكون مآلها الفشل، كذلك الشأن بالنسبة لمؤتمر برلين والذي لم تتم فيه دعوة دول الجوار يمكن القول أنه ولد ميتا.

إن تدويل الأزمة الليبية وعدم الاكتفاء بتسليح الأطراف المتنازعة بل الانتقال الى التدخل العسكري الأجنبي، لن يخدم مسار السلام في البلاد بل قد يذهب بالبلاد إلى خطر التقسيم وهو ما سينعكس على المنطقة برمتها. إن دعم طرف على حساب طرف آخر في النزاع الليبي فيه هضم لحقوق الشعب الذي يريد تقرير مصيره بنفسه. فالمشير خليفة حفتر رجل أمريكا السابق أثبت أنه رجل الهزائم الذي لا يعول عليه، كما أن فائز السراج بدأ يفقد من شعبيته لطول النزاع وتدهور أحوال الشعب الليبي رغم أن حكومته حازت على الشرعية الدولية، غير أن حكومة ليس لها سلطة على كامل البلاد تبقى في حاجة إلى المزيد من الدعم الشعبي لا الأجنبي، إن بروز شخصية مثل عقيلة صالح على الساحة الليبية من جديد وهو الذي له قبول من طرف القبائل الليبية قد يعيد ترتيب الأوراق في المشهد السياسي الليبي.

بعد أن استقبلت الرباط رئيس برلمان طبرق عقيلة صالح ورئيس المجلس الأعلى للدولة الليبي خالد المشري كل على حدا، لم يستبعد الطرفين لقاءا آخر يجمعهما في المغرب من أجل استئناف مباحثات السلام وإنهاء النزاع المسلح، بتشكيل سلطة تنفيذية مؤقتة ووضع دستور يوحد الليبيين وإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية. فالمغرب يعتبر البلد المؤهل لقيادة مفاوضات على هذا الشكل تحت غطاء الأمم المتحدة، أولا لوقوفه على مسافة واحدة من جميع أطراف النزاع وغياب أية أطماع سياسية أو اقتصادية، ثانيا نجاح اتفاق الصخيرات والذي لازالت تعتبره الأطراف المتنازعة قاعدة للانطلاق رغم رفضه من طرف المشير حفتر، إلا أن تصريح عقيلة صالح الأخير لم يشر إلى رفض التفاوض على أساس اتفاق الصخيرات، وهو ما يجعل المغرب وسيطا مقبولا لدى جميع الأطراف الليبية تحت غطاء أممي.

باحث في الشأن السياسي الدولي

شارك المقال
  • تم النسخ
المقال التالي