في مسيرة الحياة، نكتشف أن الألم والقسوة ليسا مجرد عثرات، بل هما مفاتيح للإدراك العميق. فالحياة مثقلة بما يكفي، ولا تحتاج إلى أعباء إضافية من مكر زائف أو دهاء متكلف. ورغم أن الإنسان يفترض أن يكون مترفع عن الوحشية، إلا أن بعض القلوب امتلأت بالقسوة، حتى باتت ترى الخداع ذكاء والقهر قوة. في هذا الشهر المبارك، يجب أن نتفقد قلوبنا ونفكر: هل لا تزال نقية أم تسللت إليها الظلمات؟ لعلنا ندرك أن القلب هو البوصلة والسبيل، لكن ليس كل قلب، بل ذاك الذي لم تفسده غوايات النفس ولم يسلمه صاحبه للمكر. فالمكر ليس حيلة فحسب، بل ظلمة تطفئ نور القلب وتضيع الطريق. فما هو المكر إذا؟ وكيف يتجلى في النفس والوجود؟
المكر، كما هو مُستَوعب في القرآن الكريم وفي فلسفة الحياة البشرية، ينقسم إلى نوعين: المكر السيء والمكر الحسن، فالماكر السيء لا يهاجمك بوجه مكشوف؛ بل يأتيك متلطفا بالمديح الذي يتسلل إلى قلبك وكأنك ملك متوج، لكن في أعماق هذا الكلام يكمن الفخ الذي يهدف إلى إيقاعك في الشراك الذي يسقطك في براثين الأخطاء والفتنة، والفساد، والجرائم، وأحيانا إلى إسقاطك عن سلم القيم الإنسانية. صاحب المكر السيء يظهر لك الود ويخدعك بحروفه المضللة، ولكنه يسعى من خلال خداعه لك إلى أن يُلغّم حياتك بالهموم والمشاكل، فهدفه الأساسي هو أن يسلبك تأثيرك ويفرغك من قيمتك، حتى تصير في أعين الناس ظلّا باهتا لا وزن له.
أما المكر الحسن عكس ذلك تماما، هو الإبطال والتصدي للمكر السيء، وهو القدرة على كشف الحقيقة وإبعاد الشر عن الناس وهو التخطيط الحسن، المكر الحسن ليس مجرد حيلة أو خدعة إنما وسيلة لإظهار الحق ورفع الظلم وكشف الابعاد العميقة للعدل، فهو إذن مهارة العقلاء، وحيلة النبلاء، وتدبير الحكماء.. هو السلاح الذي لا يجرح، ولكنه يبطل السهم المسموم قبل أن يصيب الهدف! هو حيلة الحق حين يحاصره الباطل، وهو المناورة الذكية التي تحفظ الكرامة دون أن تُنزل صاحبها إلى درك الدناءة، المكر الحسن هو الحكمة التي تجعل الحقيقة تتجلى لتعيد إلى الحياة توازنها وإلى الأشياء جوهرها الصحيح.
وما أبهى أن نتأمل في هذا السياق مكر الله العظيم، المكر الذي لا يضيع معه الحق، ولا تهزم معه العدالة، قال الله تعالى: (ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين). إن في سياق هذا القانون الإلهي سرا عظيما يحمل معنى عميقا؛ إذ يضعنا أمام حقيقة جليلة، وهي أن الله يترك للعباد أن يمكروا، يختبرهم، يمدّ لهم في غيّهم، ثم يأتي مكره الحسن ليعيد الأمور إلى نصابها، هكذا هو التدبير الإلهي الذي يمضي ببطء، لكنه حين يحلّ يُسقط الخداع، ويفضح المتآمرين، ويُعلي شأن الصادقين.. وهذا ما يثبت لنا أن المكر ليس دائما خبيثا لكنه يمكن أن يصبح أداة لتحقيق الخير.
وعندما نتأمل في أحد المشاهد القاسية المليئة بالحزن في السيرة النبوية، التي تجسد ما جرى للنبي ﷺ في الطائف. حين ضاق صدر الأرض به ولم يجد في القلوب رحمة، ولا في الأعين رأفة، حينما تلقاه أهل الطائف بالحجارة بدلا من الاستماع، وحينما انهالت عليه الإهانات بدلا من القبول.. لم يغضب، لم ينتقم، لم يقابل السيئة بمثلها، بل وقف في لحظة فارقة، رافعا يديه إلى السماء مناديا: ” اللهم إني أشكو إليك قلة حيلتي وهواني على الناس” ..
فهذا الدعاء لم يكن مجرد تضرع لله، إنما كان نوعا من “المكر الحسن” الذي طلبه النبي صلى الله عليه وسلم، فبدلا من الاستسلام للمكر السيء الذي وقع عليه، اختار أن يلجأ إلى الله، طالبا منه أن يوجهه إلى الحيلة الحسنة، وهي المكر الحسن، ويكشف له الطريق الذي يحقق العدالة ويعيد الحق إلى نصابه. هذا الدعاء كان بمثابة التحول من المكر السيء إلى المكر الحسن الذي لا يُظهر ضعفه أمام الناس، بل يُظهر القوة الحقيقية التي تنبع من الثقة بالله.
تلك اللحظة كانت صعبة جدا على نبينا صلى الله عليه وسلم، غير أنها كانت مليئة بالثقة في أن الله سبحانه وتعالى لا يترك عباده في ضياعهم وضيقهم، فشاء الله سبحانه أن يزيل عنه هذا المكر السيء، ويرشده إلى خطوة الهجرة إلى المدينة التي كانت انطلاقة جديدة، حاملة معها مكرا حسنا وخطة إلهية عظيمة جعلت الدعوة تنتشر وتزدهر بعد تخطي تلك المرحلة.
وفي سورة يوسف عليه السلام، يتضح لنا الصراع بين المكر السيء والمكر الحسن في أبهى صوره، ذلك الفتى الذي كانت حياته عبارة عن سلسلة من المكائد، لكنه في كل مرة كان يرد على المكر الأسود بالمكر الأبيض، وعلى الخديعة بالحكمة، وعلى الظلم بالصبر.. فإخوته الذين كانوا أقرب الناس إليه، مكروا به وهم يظنون أنهم يحسنون صنعا. لكن يوسف عليه السلام الذي نشأ في مدرسة النبوة بعد أن أصبح عزيز مصر، استخدم ذكاءه وحنكته في التعامل مع إخوته، مُظهرا كيف أن المكر الحسن يتجلى في العفو والمسامحة وإصلاح ما أفسده الآخرون.. قال الله تعالى على لسانه: (معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده)، ثم جاءت اللحظة الحاسمة حينما تجلّى المكر الحسن في أسمى معانيه، لما قال لهم في نهاية المطاف: (اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأتي بصيرًا وأتوني بأهلكم أجمعين).
فمن هذه القصص القرآنية العميقة، نستطيع أن نتأمل كيف أن المكر السيء، مهما بلغ من خبث، لا يمكنه أن يقاوم المكر الحسن، الذي ينبع من الإيمان والصدق والنية الطيبة.. وهكذا ينبغي أن يكون في حياتنا اليومية، ولأننا قد نواجه تحديات مماثلة، وقد يحيط بنا أشخاص يسعون للإيقاع بنا، لكننا يجب أن نتذكر أن المكر الحسن هو الحل الأسمى، فهذه القصة القرآنية التي نزلت تسلية لقلب المصطفى صلى الله عليه وسلم حين اشتدت به الالام وللأحزان لا يمكن إلا أن تكون درسا يحمل ألينا في عمقه رسالة ربانية لأجل استخدام ذكاءنا وحكمتنا في الخير، وأن نحسن التعامل مع المواقف الصعبة، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ويوسف عليه السلام.
وفي الختام.. لا يسعنا إلا أن نقول أن المكر ليس كله شرا، لكنه أيضا ليس كله خيرا، فهو أداة النية الداخلية للإنسان التي تسخر يا إما للخير أو للشر، مثلما قد يكون في اليد سيف يمكن أن يُستخدم للعدوان، يمكن أن يُستخدم أيضا للدفاع عن الحق، فالمكر الحسن هو المناورة التي تحفظ الحقوق، وهو التوازن بين الذكاء والنبل، وبين الحيلة والشرف والأمانة.. هكذا نستطيع أن نكون أداة خير نحمل رسالة الحق في كل عمل نقوم به، لكي نعيد للحق مكانه ونصنع العدل في كل جوانب حياتنا.
تعليقات الزوار ( 0 )