هل يمكننا العيش داخل قوقعة التلقين الجامد؟ وهل يمكن أن تُبنى معرفة إنسانية من خلال تغذية فكرية من طرف وحيد لا زيح عنه؟ وهل يمكن أن يتحمل الإنسان بقاؤه في شاغر الإنصات دون الحديث، والسلوك المجرد دون محاولة بلورته؟
إن هذه التساؤلات وما يزيد عنها يجول ويصول في أدمغتنا كل يوم، بعيداً عن نعتها بأنها تأثر مسهب من المدارس الفلسفية أو التطور التاريخي لها وحسب، حيث أن ما نشهده اليوم من مستحدثات عصرية واضحة في مختلف ملامح حياتنا الفكرية والسلوكية المعاشة يفرض علينا أن نعيد التفكير مراراً وتكراراً في المصطلحات والمعارف والظروف التي نعيشها، وماهية التغييرات الحاصلة عليها، وبالتالي “أطوار الفكر الإنساني” المتجددة.
ولم يأت ذلك من العبث، ولم تقودنا “قاطرة” الحداثة إلا لهذا المكان، حيث أن وجود الإنسان اليوم في وسط هذا الكون الرقمي مترامي الأطراف دون وجود أي خيار للتملص منه، يلح علينا بضرورة تحديد الموقع المعرفي الفكري الإنساني من هذا الكم الهائل من المعلومات والأفكار التي نتلقى العشرات بل المئات منها كل يوم لمجرد التنقل السريع غير المنظم بين ما تضمه أجهزتنا الالكترونية من تطبيقات ومواقع ورسائل. ومن ذلك نجد أننا أمام استفسار هام وضروري عن المصدر المسؤول عن تكوين وتشكيل أفكارنا التي تحول لاحقاً إلى معارف نتناقلها وثقافات نتعايش بداخل قشورها التي إما تتغير وإما تتطور وتنتقل من جيل إلى آخر، حيث تجري استفهاماتنا ولا تتوقف، ولا تبتعد عن مجالسنا (الواقعية والافتراضية)، تلك الأصوات التي تقوم على أساس التبادل المعلوماتي والمعرفي من جهة، ومحاولة إثبات أوضح للأفكار من جهة أخرى، فهي تعبر عما يتجاوز معادلة إفراز حوار وحسب، وترقى على ما يمكن أن يتداخل من وصوفات لا تبتغي إلا إحداث نقيض لكل معلومة مثبتة أي بناء(جدل عقيم).
وفي حين أن كل حيز فكري متخصص بالتنمية البشرية، أو حتى يحاول الدخول إلى هذا العالم نراه اليوم يتسابق في كيفية توليد أسلوب قادر على جذب الطاقة الإنسانية إلى حيز الإيجابية والثقة بالنفس ومن ذلك تكرار عبارات مثل: ” أفكارنا تصنع حياتنا”، ” أنت من تقرر من تكون”، و” مقامك حيث تقيم نفسك”، وما إلى ذلك من عبارات تضع الوزن المسؤولية على كاهل الإنسان وإن كان الحال كذلك فهل يستطيع في ظل تنوع الظروف متسارعة التغييرات التي يعيشها اليوم أني يكون فعلا هو المسؤول عن صناعة حياته من أفكاره؟ ورغم زخم ما يرد للإجابة عن مثل هذا التساؤل إلا أنني أرى أنه نوع من التحفيز المجدي في الطب النفسي والسلوكي في مقامه الأول، ثم أن للإنسان سلطة ممنوحة من الله سبحانه وتعالى في اتخاذ القرارات التي تقع في دائرة سلطته البشرية المحدودة، ولكنه يظل محكوماً بدائرة محددة وخلفية معرفية وفكرية وثقافية تشربها على مهل من البيئة التي أحاطت به منذ نعومة أظفاره.
إن كل ما ذكر آنفا يزيد من الإدراك الإنساني حول التغيرات التي تصاحب النظام المعرفي، والإلمام بالدوافع والمحفزات التي تخرج من منجم الظروف والتحولات المعدن الحقيقي للشكل المعرفي الذي يتناسب مع تلك الظرفية، وهذا كله إضافة للتساؤلات العميقة التي يفتح كل منها مجالا للبحث و الاستطراد، يدق ناقوس الدراسة للاستزادة البحثية والنقدية والفلسفية الإمعانية والموضوعية في المعرفة الجديدة من جهة، وتحديد بوصلة اتجاهاتها التي يمكن من خلالها استشراف صورة معرفية للمجتمعات الإنسانية تستلهم من التجربة المعرفية القديمة على مر العصور، وتستفيد من حقولها المعاشرة في الوقت الحالي، حتى تصل إلى أفكار عاقلة ومنطقية وقادرة على النظر لملامح المعرفة في المستقبل القريب والبعيد، فهل سيستطيع الإنسان تحقيق ذلك بالتزامن مع احتوائه لكم المعطيات الهائلة في عالمه الواقعي والافتراضي ؟
تعليقات الزوار ( 0 )