بعد العواصف وحتى اثناءها تولد اللحظات الجميلة .
رغم حجم القلق والتوثر الناتج عن تداعيات فيروس كرونا، إلا أن الامر منتج للكثير من الفوائد , وهو ما عبر عنه السوسيولوجي الفرنسي اميل دوركايم بوظيفية الأزمات.
أزمة كرونا أكيد لها نتائج إيجابية،
رغم حجم الخسائر المدية و حجم التوثر , لكن في أزمة مجموعة فوائد , أهمها العودة الى الأصول و محاولة استرجاع ما عملت
العولمة على تدميره.
الفائدة الأولى : العودة إلى الذات
الأزمة أعادت المواطن المغربي إلى أهله و الى بيته و إلى عائلته , الرجوع إلى البيت هو الرجوع إلى الأصل , و الانسحاب و لو بشكل مؤقت من الفضاء العام الذي كان متخما بالتفاهات و التخلص من حماقاتهم و العودة إلى الفضاء الخاص محروس بقيم الأسرة والعائلة و الوحدة.
في زمن اجتماعي صعب ضاع فيه صوت الاب او الاخ الاكبر[1] نحتاج الى عودة صوت الاب في ظل انهيار مؤسسة الاسرة، او على الاقل انحسار دورها القاعدي في التنشئة الاجتماعية , مما ترك مساحات فارغة يتم ملئها في الازقة و الشوارع و من فضاءات التواصل الاجتماعي الغير المحروسة , و النتيجة هوية سائلة لجيل سماه محمد جسوس **بجيل الضباع ** اشارة الى جيل بهويات سائلة لا يستطيع حتى الاعتماد على نفسه تحمل مسؤوليته , و المؤشرات كثيفة أهمها نسبة الطلاق و العزوف عن الزواج , والبحث عن الوظائف الامنة التي توفر أجواء الكسل .
العودة الى البيت الصغير معناه العودة إلى قيم الاسرة الصلبة, حيت الانسجام و الاحترام و المسؤولية المتجسدة في الاهتمام المتبادل و الإنصات و الحرص على تقاسم لحظات مشتركة , بدءا من شرب الشاي الى تناول وجبات الطعام ,و هي لحظات غير مسموح لاي فرد من أفراد العائلة ان يتأخر تحت طائلة العقاب و الحرمان من الأكل. الرجوع الى البيت معناه العودة إلى الذات حيت حضور الأب كسلطة ورعاية و حراسة قيم و ثقافة المجتمع
الفائدة الثانية : العودة الى بيتنا الكبير
المواطن في زمن العولمة و نتيجة اكراهاتها القاسية غير قيمه و استبدل نمط هويته الأصلية بهوية سيالة ورخوة غير قادرة عن الدفاع عن نفسها في زمن شرس .
الواقع الاجتماعي الصعب نتيجة اكراهات الحياة و غلاء المعيشة دفعه الى الإقامة في وجد فضاءات بديلة حيت غير بطاقة هويته كما غير موطن إقامته، حيت أصبح الإقامة الدائمة في شبكات التواصل الاجتماعي ، كشبكات للموت ،إن أخذنا بالبعد الاستعاري لكلمة شبكة العنكوت، كخيوط رقيقة ناعمة و ملساء و تسمح بالتأرجح و الدوران و الخفة، لكنها خيوط قاتلة ، بمجرد الالتصاق بها فكل حركة تعني قيدا جديدا، والنتيجة صيد سهل فضحاياه هم من يأتون اليها , لأن من يقع فيها لا أقل من أن يفقد أحد أطرافه انما يفقد حياته و بشكل نهائي .
العولمة صنعت فجوة كبيرة و عميقة بين الفرد و المجتمع نتيجة اكتساح قيم العولمة ، و ما نتج عنها من انسحاب شبه كلي من الفضاءات الاجتماعية وترك القيم الاجتماعية بلا فائدة .
العولمة صنعت واقعا جديدا و مجتمعا جديدا بهويات جديدة , الواقعي أصبح افتراضيا و الافتراضي وأصبح واقعيا ، ربما هذا هو الواقع المعولم والذي أصبح يغطي مجمل أنشطة الإنسان : التعليم الافتراضي ،الشخصيةالافتراضية ، التجارة الافتراضية، الإرهاب الافتراضي، المتحف الافتراضي – القيم الافتراضية –التواصل الافتراضي ، الزواج الافتراضي ، العنف الافتراضي ، المكتبات الافتراضية و مؤسسات التدريس الافتراضية وحتى عملة افتراضية – بيتكوين – أصبحت تشكل تهديدا للعملات الرسمية .
ان العولمة حولت الصلب الى سائل , ولعل اكثر التحولات بروزا تلك التي اصابت المجتمع وقيمه و علاقاته و طبيعته .
ازمة فيروس كرونا , ورغم حجم المخاطر فانها شكلت فرصة لاسترجاع الأنفس للمواطن المقهور و العودة الى بيته الكبير حيت راحته و طمأنينته ,
البيت الكبير تعني قيم المجتمع, و اخلاق المجتمع, و تقافة المجتمع باعتبارها الملجأ و المخبأ الاساسي للاحتماء من قساوة الوجود في زمن العولمة , حيت منطق التسعير يسود و يتحكم في كل الاشياء , وانه لكل شئ سعر , وان الاشياء التي تكون بلا سعر فحتما المواطن يدفع فيها نفسه و راحته و صحته و قيمه كثمن , والنتيجة انتصرت اخلاق الربح .
ازمة كرونا
فيروس كشفت ان المواطن العادي قد تعب و ان
الأوان ان يعود الى بيته والى آسرته و
تقافته و قيمه من اجل الاختباء حتى تمر العاصفة / الأزمة .
المجتمع بكل قيمه
و ثقافته و تقاليده و عاداته يشكا حصنا و
مخبئا انتربولوجيا لتوفير الأمن النفسي و الروحي , و توفير فضاءات الراحة و الحماية في زمن الشدة , بلاشك لكل شعب
مخابئه الانتربولوجية ,يخزن فيها جزءا من هويته في لحظات الصدام , من اجل حماية
الموروث و ضمان بقائه .
جاك بيرك يسميها هذه القيم بالحارس
الليلي , مهمتها ان تسهر حين ينام كل شئ من اجل حماية ما يضمن هوية و أصالة اي مجتمع
؟
هذه المخابئ او الحارس الليلي
بتعبير بيرك هي من ساهمت و بدرجة كبيرة في حماية الثقافة و الهوية المغربية
المتعددة من الضياع ابان الاستعمار الفرنسي , و هي ألان من تحرس المواطن البسيط الذي انهكه
واقع العولمة المؤسس على العمل, و التعب و
الكثير من التعب من اجل الاستهلاك , فكل زاد الاستهلاك زاد التعب ليستمر الانسان
في مسلسل سيزييفي لا ينتهي [2].
العودة الى البيت الكبير , هو
عودة الى القيم الكبيرة و الى المشترك من العيش , حيت تقافة الجيران و حقوق
الجيران و صلة الرحم و عيادة المريض و التضامن و التويزة و الوزيعة وكل قيم
المشترك .
العودة تعني سد الابواب و عدم الخروج الا لضرورة معناه التوقف عن الاستهلاك , وهو ما يشكل سلوكا مضادا لقيم العولمة الباحثة عن الربح , و لو على حساب قيم المجتمع و تقافته .
الازمة كذلك اعادتنا الي بيتنا الكبير كما اعادتنا الى بيوتنا الصغيرة , حيت قيمنا الاجتماعية الصلبة و المتجسدة في التعاون و التضامن و المحبة و الايثار و كل مظاهر الغيرية الايجابية , التي كادت ان تقتلع بفعل موجات العولمة الكاسحة و المدمرة .
الفائدة الثالثة : اختفاء التافهين .
فجاة اختفى صوفيا طالوني و نيبا و حمزة و حكايات باطما و ادومة و يفري و احساس و خطيبة احساس و صهر احساس و فضائح شوف تيفي و مي عيشة ومي نعيمة و مي خدوج و رويني اليومي و مول الشاقور و مول الجيلي لصفر , اصوات المعلقين الرياضين على شاشة التلفزة كل النهار و هو يصرخون بعد تسجيل كل هدف .
اختفاء موجة اكتست الفضاء العام و رسخت واقعا جديدا يتجسد في :
- انهيار القيم و تفتيتيها
- نزوح جماعي نحو شبكات التواصل الافتراضي و رفض العودة
الى الواقع
المساجد اصبحت ملئية بالكاميرا و انتهت الثقة حتى في المصلين انفسهم - الشهرة تعني البحث عن فضيحة
- الحرم الجامعي الى ساحة اقتتال ساذج
- يضرب الاستاد ( الفعل مبني للمجهول ) و يهان في قسمه و تكون النتيجة تكوين لجن لمعاقبة الاستاذ و الاعتذار للتلميذ !
- حين تفقد الاسرة و المدرسة سلطتها و تنهار القيم المجتمعية في صمت و بتواطئ مع الجميع !
- حين يبتلع الفيس بوك واقعنا و قيمنا و حدودنا و هويتنا !
- حين يصبح حلم الشباب احراق الوطن او اغراقه !
- حين يصبح التباهي بالجرائم امتيازا
- حين يتباهى شباب تائه بتمزيق سرواليهم و يصبح العري لباسا !
- حين يرفض الأطباء العمل بقرى المغرب ومداشره متجاهلين قسم ايبوقراط و الواجب الانساني !
- حين يصبح التفكير جريمة
- حين يصبح سب المقدسات غناءا
- حين يصبح التعبير عن المواقف طريقا للسجن
- § حين يصبح ادومة و نيبا و سالي كول و روتيني اليومي و الشيخة طاركس و التسونامي و مول المنجل و غيرهم هم شخصيات السنة و هم الاكثر متابعة فالامر يكشف ان التافهين سيطروا على فضاءات التواصل و هو صناع المحتويات .
- حين تخصص شوف تيفي تغطية خاصة لشخص بلا هوية , غير هويته و غير جسده و غير جنسه و تنكر لاسرته , تخصص له تغطية خاصة و هو يجر حقيبته و معها موخرته التي يتلاعب بها في اشارة الى رصيده الوحيد,و هو يتجه صوب بوابة المطار.
اختفى كل هؤلاء و انكشفت الحقيقة عارية امام الجميع ,
ان الذين تنكر لهم المجتمع و ربما تعامل معهم باستخفاف و سخرية و في احيا ن كثيرة
بعنف مضاعف في شوارع المملكة حتى سالت دماءهم دفاعا عن كرامة و هيبة المدرسة .
و اخيرا , اكتشف الجميع ان الوعي
و المعرفة هو الحل الوحيد لكل الازمات . و ان كل اشكال التفاهة و اللاوعي كانت
حالة من حالات تنويم العقل الجمعي جعلت المواطن المغربي خارج قيمه و تقافته و
عادات مجتمعه .
الازمة بلا شك مؤلمة و مكلفة لكنها وظفيية في نتائجها لان شكلت علاجا بالصدمة , لكي يعيد المواطن حساباته ,
فجاة تغيرت مظاهر الحياة , و تغير كل شئ العادات و السلوكات اليومية و المواقف و السياسات , و النتيجة مواجهة وباء قاتل بالعودة الى الذات و الانسحاب من الفضاءات العمومية و الرجوع الى الفضاءات الخاصة .
إن مؤسساتنا
المهترئة أصبحت عاجزة على انجاز المطلوب منها , و ان ما تنتجه يقود الى العبث و
الفوضى .
مدارسنا لم قادرة على انتاج
اجيال بهوية صلبة متمسكين بقيمهم الدينية و الاجتماعية و مستعدين للتضحية من اجلها.
الاحياء فقدت حميميتها , و تحولت الى مراكز للتلصص و قلة الادب و بيع المخدرات .
حتى صاحب الفران
التقليدي اقفل , لان العولمة لا تسمح لنا
باكل خبز غير خبزها .
الشوارع
اصبحت عنيفة و الجيران اغالقوا الابواب و تحولت المنازال الكبيرة الى عمارات كل
فيها غريب وحده حارس العمارة من يعرف الجميع !.
حتى الموت فقد طمعه و فقد رائحته و اصبح موتا بطعم احتفالي يحضره ممونوا الحفلات يتحول من عزاء الى طقوس لاحاديث المدينة و نقاشات السياسة و نتائج و اخبار كرة القدم .
المدرسة لم تعد بيتا ثانيا تمارس فيها طل طقوس التربية قبل التعليم , و اصبحت مؤسسات بلا سند تعيش محنة , يعمل فيها من لا يحس بامان من غذر الزمان
الفائدة الرابعة : سفينة الوحدة
الازمة كشفت حقيقة او على الاقل جعلتها مرئية من طرف الجميع , وان الوطن مثل سفينة بعدة طوابق و انه في حالة الغرق فنفس المصير و نفس النهاية . الامر دفع الى التماسك و التضامن و ترسيخ سلوك وحدي لمواجهة الواقع ,
لذا ساهمت الازمة في اخراج اجمل ما يملك المواطن
امغربي من اجل نفسه ومن اجل الاخر ومن اجل وطنه , الفقراء متضامنون و مستعدون
للتضحية و الاغنياء تبرعوا بمبالغ كبيرة , و هو مؤشر جيد في اطار تخفيف منسوب
الحقد و اللا- تواصل بين الفقراء و الاغنياء بما يساهم في بناء وحدة وطنية صلبة
قادرة على الصمود و البقاء .
[1] الاخ الاكبر ليس المقصود به الشخصية المحورية في رواية 1884 لجورج اورويل و إنما الأخ الأكبر عمرا , والذي يقوم بمهام الاب في غيابه او بسبب وفاته .
[2] سيززيف هو شخصية اسطورية حكم عليه بالعذاب الابدي يضل طول حياته يدفع ضخرة الى اعلى الجبل لتتدحرج الى الاسفل ثم يعيدها و هكذا
تعليقات الزوار ( 0 )